البندقية، مدينة إيطالية مشهورة بقنواتها المائية التي تخددها. وقد أضفت عليها أفلامٌ لا تُحصى سمعةً رومانسية، في حين رسم أحد أفلام الرعب المخيفة صورة أكثر قتامة للمدينة.

يعود تاريخ المدينة إلى القرن السادس، إذ لم تكن في تلك الأيام مدينة عادية في دولة أكبر، بل كانت من أعظم القوى التجارية في التاريخ الأوروبي. إذ شكلت البندقية آخر محطة لطريق الحرير، الذي نقل البضائع من الصين. ونتيجة لذلك، أصبحت البندقية مدينة عالمية، أي خليطًا من جميع الأعراق والثقافات.

بدايات مدينة البندقية:

ترجع البندقية تاريخ نشأتها إلى أسطورة مفادها أن سكان مدينة طروادة الفارين قد أسسوها، ولكن تكمن الحقيقة في أن المدينة قد نشأت غالبًا في القرن السادس؛ عندما خيم اللاجئون الإيطاليون الفارون من الغزاة اللمبارديين في جزر بحيرة البندقية. تشير الأدلة إلى قيام مستوطنة في المنطقة في القرن السادس ميلادي، وقد نمت هذه المستوطنة، وأصبح لها أبرشية خاصة بها، بحلول نهاية القرن السابع. وسرعان ما جلس على عرش هذه المستوطنة حاكم دخيل عيَّنته الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت تستحوذ على جزء من إيطاليا، انطلاقًا من قاعدة أسستها في مدينة رافينا. في عام 751، عندما هزم اللمبارديون رافينا، أصبح الحاكم البيزنطي دوقًا للبندقية، نصبته العائلات التجارية، التي ظهرت حديثًا في البلدة.

نمو مدينة البندقية لتصبح قوة تجارية:

في القرون اللاحقة، ازدهرت البندقية، وأصبحت مركزًا تجاريًا، تعمل بمرونة وسلاسة، وتتاجر مع العالم الإسلامي والإمبراطورية البيزنطية، التي بقيت قريبة منها. وبالفعل نالت البندقية حقوقًا تجارية خاصة -عام 992- من الإمبراطورية، مقابل قبولها الانصياع لسيادة الإمبراطورية البيزنطية مجددًا. اغتنت المدينة ونالت استقلالها عام 1082، واحتفظت بمزاياها التجارية مع بيزنطة بعرضها استخدام البيزنطيين قوتها البحرية، التي كان لا يستهان بها في تلك الحقبة. تطورت الحكومة أيضًا؛ إذ ألحق بالحاكم الاستبدادي -لإدارة المدينة- مسؤولون، ولاحقًا مجالس، وشهد عام 1144 تحول البندقية إلى كومونة (بلدية).

فينسيا تتحول إلى إمبراطورية تجارية:

شهد القرن الثاني عشر دخول البندقية -وما بقي من الإمبراطورية البيزنطية- سلسلة من الحروب التجارية، قبل أن تمنح الأحداث -التي جرت في أوائل القرن الثالث عشر- البندقية فرصة لتؤسس إمبراطورية تجارية حقيقية؛ إذ وافقت البندقية على نقل حملة صليبية إلى الأرض المقدسة، ولكنها دخلت في ورطة عندما لم يستطع الصليبيون دفع أجرة النقل. لاحقًا وعد وريث الإمبراطور البيزنطي المخلوع أن يدفع للبندقية أجورها، ويعتنق الديانة المسيحية اللاتينية، في حال ساعدته البندقية على استرجاع العرش. دعمته البندقية في تلك الخطوة، وحين استرجع الوريث العرش، لم يكن قادرًا على دفع مستحقات البندقية، ولا راغبًا باعتناق المسيحية، ما نتج عنه تدهور العلاقات بين الطرفين، واغتيال الإمبراطور الجديد. ثم حاصر الصليبيون القسطنطينية، واستولوا عليها، ونهبوها. استولت البندقية على الكثير من كنوز القسطنطينية المنهوبة، وطالبت بجزء منها، إضافة إلى جزيرة كريت، ومناطق أوسع شملت أجزاء من اليونان، التي أصبحت جميعها مواقع تجارية تابعة للبندقية ضمن إمبراطوريتها الكبيرة.

بعد ذلك دخلت البندقية في حرب مع جنوة، التي شكلت قوة تجارية إيطالية منافسة للبندقية، وقد وصل الصراع بين القوتين إلى أوجِه في معركة كيدوجا عام 1380، التي انتهت بتقييد تجارة جنوة. هاجمت المدن الأخرى البندقية، وكان لا بد لها من الدفاع عن إمبراطوريتها. في تلك الأثناء تقلصت سلطة الدوقات لصالح النبلاء. وبعد نقاش مستفيض دار في القرن الخامس عشر، استهدفت البندقية في توسعها البر الإيطالي الرئيسي، واستولت على فيتشنزا وفيرونا وبادوا وأوديني. ويمكننا القول إنه في هذا العصر، أي بين 1420 و1450، وصلت البندقية إلى أوج ازدهارها من ناحية القوة والثراء. وقد انعكس ذلك على التعداد السكاني، الذي عاد لينتعش بعد وباء الطاعون «الموت الأسود»، الذي عادة ما كان ينتقل على طول طرق التجارة.

انحدار البندقية وسقوطها:

بدأت المدينة تتجه نحو التدهور عام 1453، عندما أسقط العثمانيون الأتراك مدينة القسطنطينية، الذين هدد توسعهم الكثير من أراضي البندقية الشرقية، واستولوا عليها بنجاح؛ إضافةً إلى ذلك، طاف البحارة البرتغاليون حول إفريقيا، وفتحوا طريقًا تجاريًا آخرًا نحو الشرق. انعكس توسع البندقية في إيطاليا عليها سلبًا؛ إذ نظم البابا حلف كامباريا الذي تحدّى البندقية وهزمها. وعلى الرغم من أن البندقية قد استعادت أراضيها؛ فقد فقدت سمعتها، ولم توقف انتصاراتها على الأتراك -كمعركة ليبانتو عام 1571- تدهورها وانحدارها.

لبرهة من الزمن اجتذبت البندقية الأضواء مجددًا، وصنّعت المزيد من البضائع، وروّجت لنفسها بوصفها جمهورية متناغمة مثالية تجمع الناس من جميع المشارب. وعندما وضع البابا البندقية تحت الحظر البابوي عام 1606 لجملة من الأسباب منها محاكمة قساوسة في محكمة مدنية؛ حققت البندقية انتصارًا للسلطة العلمانية بإجبار البابا على التراجع . ولكن لم يمنع ذلك تدهور حال الإمبراطورية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وانهارت إمبراطورية البندقية البحرية عندما شقت القوى الأخرى -كالقوتين البريطانية والهولندية- طرق تجارة حول إفريقيا وعبر المحيط الأطلنطي.

نهاية الجمهورية:

حلت نهاية جمهورية البندقية عام 1797، عندما أجبر جيش نابليون الفرنسي المدينة على الموافقة على حكومة ديمقراطية مؤيدة لفرنسا. وقد نُهبَت مقتنيات المدينة الرائعة، إذ دخلت البندقية لفترة مؤقتة تحت الحكم النمساوي بعد معاهدة سلام مع نابليون، ولكنها عادت إلى حظيرة الهيمنة الفرنسية مجددًا بعد معركة أوسترليدز عام 1805، وشكلت جزءًا من مملكة إيطاليا، التي ظهرت لفترة قصيرة. أذن سقوط نابليون عن السلطة بعودة البندقية مجددًا إلى الحكم النمساوي.

تابعت المدينة انحدارها على الرغم من أنه في عام 1846 وُصلَت المدينة مع البر الرئيسي لأول مرة بسكة حديد، ونتيجة لذلك بدأ عدد السياح يطغى على التعداد السكاني المحلي. تمتعت المدينة بفترة قصيرة من الاستقلال بين عامي 1848 و1849، عندما اندلعت ثورة طردت النمسا من البندقية، ولكن النمسا عادت مرة أخرى وسحقت المتمردين. زار سواح بريطانيون المدينة وتحدثوا عنها بوصفها مدينة متدهورة الحال. في حقبة الستينيات من القرن الثامن عشر، عادت البندقية لتصبح جزءًا من مملكة إيطاليا الجديدة، وقد بقيت حتى يومنا هذا جزءًا من الدولة الإيطالية الحديثة. وقد أثمرت مناقشات -دارت حول أفضل طريقة للتعامل مع أبنية البندقية وهندستها المعمارية- مساعيًا للحفاظ عليها بأفضل صورة ممكنة. ومع ذلك، انخفض عدد سكان المدينة إلى النصف مقارنة بخمسينيات القرن الفائت، ولا تزال الفيضانات مشكلة تؤرق بال المدينة.

اقرأ أيضًا:

مدينة البندقية تخضع لأسوء فيضان منذ 50 عامًا.. وعمدة المدينة يلوم التغير المناخي

تجارة التوابل وعصر الاستكشاف الأوروبي

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: يمنى عيسى

مراجعة: حسين جرود

المصدر