كان حديث البنوك المركزية الرائدة في العالم حازمًا في الأسبوع الأخير من 2022، لكنها كانت أقل حزمًا في أفعالها. فبعد سلسلة من اللقاءات قرر الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا تغيير استراتيجيتهم في مقاومة التضخم من نسق رفع الفائدة بنسبة 0.75 إلى نصف نقطة أساس. وأبطأت سويسرا والنرويج والمكسيك والفلبين أيضًا من نسق الترفيع في نسبة الفائدة.

لكنهم راوحوا بين أفعال ضعيفة وكلمات قوية، فقد تحدث الفيدرالي عن (المزيد من العمل) للتغلب على نسبة التضخم العالية، وتحدث البنك المركزي الأوروبي عن (المزيد من المجهودات)، بينما أصر بنك إنجلترا على وجوب إجراءات موجعة لمكافحة الزيادة في الأسعار.

هذه الإجراءات ينقصها التنسيق، فالبنوك المركزية في العالم تحاول أن تشتري لنفسها الحيز الكافي لرفع نسب الفائدة أكثر إن أحست أن الأمر ضروري، في حين يصل التضخم إلى الذروة في عدة بلدان، ما يجعل القيام بذلك أمرًا أكثر تعقيدًا من الناحية السياسية.

قضى سيث كاربنتر 15 عامًا في البنك الفيدرالي ويشغل الآن منصب كبير الاقتصاديين الدوليين في بنك مورغان ستانلي، ويقول إن معظم البنوك المركزية تقترب من الحد الأقصى لنسب الفائدة الذي تسمح به سياساتها، وهو حد قد يسبب تباطؤًا حادًا أو ركودًا في اقتصادات هذه البنوك، ونتيجةً لذلك سيكون اقتراح المزيد من الإجراءات الآن خطوة حكيمة واستراتيجية.

نسب الفائدة ومسارها التصاعدي

بالنسبة لمصرفيي البنوك المركزية، فهم فعلاً يتحملون مسؤولية استقرار الاقتصاد الكلي. يقول سيث كاربنتر. «أظنهم يفضلون أن يكونوا مخطئين في كلامهم بحزم عن استعدادهم للمواصلة في رفع نسب الفائدة أكثر، ثم يرتاحون عندما يكتشفون أنهم لم يجب عليهم فعل المزيد، على أن يخبروا العالم أنهم أنهوا عملهم ثم يقولون، تبًا علينا فعل المزيد».

تنبؤات متشددة

تحرك البنك الفيدرالي أولًا وكسر سلسلة من الزيادات بقيمة 0.75 وتفعيل زيادة بنصف نقطة أساس حتى تبقى نسب الفائدة ضمن 4.25-4.5%.

كان قرار بالإبطاء من نسبة الزيادة الذي اتُخذ بالإجماع مصحوبًا بتنبؤات وخطاب متشدد. وأشارت مجموعة جديدة من التوقعات إلى نية المسؤولين بالرفع من النسبة التي تسمح بها سياستهم إلى ما يفوق 5% في 2023، دون إنقاص من نسب الفائدة حتى سنة 2024. سعى رئيس البنك الفيدرالي جاي بوويل إلى وضع حد لأي شك متبقٍ في خطط البنك المركزي في القضاء على التضخم وصرّح للصحفيين «(التضخم) مرتفع على نحو غير مقبول … لقد بذلنا جهودًا كثيرة وإجراءات التشديد التي اتخذناها لم يصبح مفعولها محسوسًا بعد … ومع ذلك، لدينا المزيد من العمل».

أما في فرانكفورت، فما تزال نسب الفائدة التي تبلغ 2% أقل بكثير منها في الولايات المتحدة، لكن كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي تُصر على أن هذا الارتفاع في نسب الفائدة الأصغر مما سبقه في الاجتماعات السابقة لم يكن تحولًا نحو إنهاء دورة التشديد في نسب الفائدة كما بدا الأمر.

وقالت: «لن يحيد البنك المركزي الأوروبي عن مساره … إن البنك لديه مسافة أطول ليقطعها وعمل أكثر من البنك الفيدرالي». وعدها القريب بزيادة نصف نقطة أساس في فبراير ومارس فاجأ الاقتصاديين، إذ توقع الكثير منهم أن يُنهي البنك المركزي دورة زيادة نسب الفائدة في الأشهر القادمة.

في المملكة المتحدة حيث تُسلط الأضواء على السلطات على صعيد دولي على نحو أقل مما كانت عليه خلال ميزانية سبتمبر المصغرة الكارثية، رفع بنك إنجلترا نسب الفائدة في الاجتماع التاسع على التوالي إلى 3.5% وهي النسبة الأعلى خلال 14 سنة. أصر حاكم البنك المركزي أندرو بايلي أن هذه الخطوة اتُخذت نظرًا لوجود أدلة أكثر على تفاقم التضخم في زيادات الأجور للقطاع الخاص. ويقول: «هذا يُبرر استجابةً أقوى من حيث السياسة النقدية».

ومع إن الأسباب الأولية لارتفاع التضخم كانت مختلفةً بين منطقة اليورو والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فقد أشار الاقتصاديون إلى أن البنوك المركزية الثلاثة تواجه نفس التحديات والصعوبات الاتصالية لسنة 2023.

من المؤكد أن التضخم الرئيسي بلغ ذروته وسينخفض بحلول 2023، لكن المسؤولين ليسوا متأكدين من أن الضغوط المتأتية من التضخم ستختفي أيضًا. إذ يكمن قلقهم في أن التضخم سيأخذ وقتًا طويلًا ليعود إلى نسبة 2% المأمولة وأنه سيستقر بنسبة أعلى بكثير.

بعض التخوفات حول التضخم المستقبلي في أوروبا مرتبطة بالزمن الذي سيتطلبه الأمر حتى يتأثر الإقتصاد على نحو كامل بصدمة أسعار الطاقة في 2022.

تغيير التصورات للمسارات المُستقبلية لنسب الفائدة

كل البنوك المركزية الثلاثة قلقة حيال تواصل ارتفاع أسعار قطاع الخدمات المنزلية بشدة في سوق عمل ما يزال شحيحًا، إذ ترتفع الأجور بنسق أعلى مما يرونه ملائمًا لنسبة التضخم المطلوبة التي تقدر بنسبة 2%.

مع هذا التحدي الصعب لسنة 2023 وجدت الأسواق المالية صعوبةً في تفسير قرارات مصرفيي البنوك المركزية وتواصلهم فيما يخص نسب الفائدة. وقد وجدت هذه الأسواق رسالة البنك المركزي الأوروبي الأسهل فهمًا. إذ كانت كلمات لاغارد أكثر جرأة مما توقعوا بحسب قول فيليب شو من الشركة الاستثمارية (انفيستيك): «أدت إلى أكبر ردة فعل من الأسواق». فقد انخفض مؤشر (إس أند بي 500) المعياري بنسبة 2.5% بعد التصريحات المتشددة القادمة من البنك المركزي الأوروبي.

يقول كريشنا غوها مدير سياسات واستراتيجيات البنوك المركزية في شركة الوساطة الأمريكية Evercore-ISI: «أُصدق كلام لاغارد عندما تقول إن البنك المركزي الأوروبي سيواصل الرفع في نسب الفائدة بشدة» مثل عديد المُحللين، رفع غوها من توقعاته فيما يخص وصول سعر الفائدة على الودائع إلى الذروة من 2.75% إلى 3.5% بعد تعليقات لاغارد.

في المقابل تجد عديد المستثمرين في وول ستريت إما يتساءلون عن إصرار البنك الفيدرالي على المواصلة في رفع نسب الفائدة، وإما يُراهنون على تراجع البنك المركزي للولايات المتحدة عند أول علامة على ضغط اقتصادي حقيقي. ورغم اعتراضات بوويل أكد المضاربون في التمويلات الفيدرالية رهانهم على أن نسبة الفائدة التي تسمح بها السياسات لن تتجاوز 5% في ذروتها في 2023 وأن البنك المركزي سيخفض النسب في ديسمبر.

تقول تيفاني ويلدينغ، الاقتصادية المختصة في شؤون أمريكا الشمالية بشركة (بيمكو) لإدارة صناديق السندات: «المتعاملون في السوق لا يصدقون ذلك».

زاد بوويل من تعقيد خطاب البنك الفيدرالي عندما لم يستبعد صراحةً تخفيض البنك من حجم الزيادات في نسبة الفائدة في اجتماع مناقشة السياسات القادم وأن تكون الزيادة بربع نقطة أساس. قرأت أسواق المملكة المتحدة أيضًا خطوة بنك إنجلترا بأنها متساهلة إلى حد ما وخفضوا من توقعاتهم للزيادات القادمة.

أهم سؤال يراود المتعاملين في هذه الأسواق المختلفة هو ما ستكون عليه السياسات غير المعلنة للبنوك المركزية المختلفة في 2023 عندما ينخفض التضخم الرئيسي. يرى الكثير من الاقتصاديين أن صنّاع القرار يريدون أن يتحركوا بحزم قبل أن ينخفض التضخم على نحو غير كافٍ وتجعل الظروف الاقتصادية رفع نسب الفائدة أمرًا أصعب بحيث يكاد يستحيل تفسيره.

يقول داريو بيركينز الخبير في الاقتصاد الكلي العالمي بشركة (تي اس لومبارد) الاستشارية إن الكلام بحزم في السياسة النقدية هو أحد الحيل التي يستعملها مصرفيو البنوك المركزية ليخلقوا مناخًا من الحيطة والحذر في المفاوضات على الأجور وتحديد الشركات الكبرى للأسعار، قائلًا إن لهم حافزًا في «المبالغة في مخاطر الركود» لأن ذلك يساعد على تعديل الضغط التضخمي.

لكن مجموعةً كبيرةً من الاقتصاديين يتخوفون من أن هذه التصريحات المتشددة من البنوك المركزية مُحقة وأن صناع القرار سيتجاوزون الحدود، ويُسببون ركودًا أعمق مما يريده المسؤولون أو يظنونه ضروريًا لكبح الأسعار.

يعتقد الكثير من متابعي البنك المركزي الأوروبي مثلًا أن المؤسسة كانت متشائمةً جدًا حيال التضخم ومتفائلةً جدًا حيال نسبة النمو خلال توقعاتها، ما تركها معرضةً لمخاطرة رفع نسب الفائدة على نحو مبالغ فيه.

يقول كارستن برزيسكي، رئيس قسم الأبحاث في الاقتصاد الكلي ببنك ING الهولندي أن البنك المركزي الأوروبي ربما يُجبَر على التراجع عن خططه للترفيع في النسب على نحو حاد عندما يُدرك أن «تنبؤاته لاقتصاد منطقة اليورو متفائلة أكثر مما ينبغي».

يرى توم بورسيلي كبير الخبراء في الاقتصاد الأمريكي بالبنك الاستثماري (ار بي سي لأسواق رأس المال) نفس الرأي بخصوص البنك الفيدرالي ويقول:

«سيحدث الانعكاس أسرع مما قد يروق للبعض، وأظن أن ذلك سينطبق على معظم البنوك المركزية في العالم … هذه الاقتصادات الكبيرة إما تقترب من ركود وإما على أبواب ركود أو هي في ركود بالفعل. لا حاجة إلى قراءة الفنجان لإدراك ما سيأتي في المستقبل القريب».

هذه الرؤى متباينة بين من يقولون إن البنوك المركزية تُبدي تخوُفًا معقولًا من مخاطر التضخم طويل الأمد وبين من يعتقدون أن الرسائل شديدة اللهجة حقيقية ومبالغ فيها، هذا التباين يعكس صعوبة تقدير الآفاق الاقتصادية لعام 2023.

تتوقف نسبة النمو والتضخم في كل البلدان تقريبًا على تطور الحرب في أوكرانيا (ما سيؤثر في أسعار الطاقة) وعلى نجاح الصين في الابتعاد عن سياسة صفر-كوفيد، وعلى التأثيرات غير المضمونة للزيادات في نسب الفائدة المُفعلة سابقًا، وعلى احتمالية أن يشد الأفراد والشركات أحزمتهم إذا حصل انكماش، ما سيجعل الأمر أكثر سوءًا بطريقة ملحوظة.

بدأ البنك الانجليزي بالفعل باستعمال كلمة ركود لوصف ما يرتقبه في المملكة المتحدة، مُحذرًا أن الانكماش الحالي قد يطول. بينما يتحدث البنك المركزي الأوروبي عن احتمالية ركود قصير وسطحي سيستمر فقط في الربعين القادمين، بينما يقول بوويل في البنك الفيدرالي أنه لا يمكن التنبؤ بوقوع الولايات المتحدة ستقع في ركود أم لا، إذ ما يزال الهبوط الآمن إمكانية مُحتملة لاقتصاد الولايات المتحدة.

لم توضع البنوك المركزية أمام تحدي مقاومة موجة تضخم خطيرة منذ 40 سنة، والقليلون فقط يجزمون إن كان المسؤولون يبذلون مجهودًا كافيًا أو أقل من اللازم أو أكثر من اللازم إلى حد الآن في ما يخص نسب الفائدة لضمان عودة استقرار الأسعار في الاقتصادات المتقدمة.

اقرأ أيضًا:

هل يفيد رفع أسعار الفائدة في كبح التضخم؟

ما هو التضخم المصحوب بركود اقتصادي؟

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: حسام التهامي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر