مع بداية عام 2022 أصيب كل من كان لديه أمل بعودة الاقتصاد الأمريكي إلى طبيعته بخيبة أمل، خصوصًا بعد مرور عامين على الاضطراب الاقتصادي الذي سببته جائحة كوفيد-19، ومع المشكلات التي يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي منذ بداية العام (كالاضطرابات في سلاسل الإمداد، وارتفاع نسبة التضخم، والحرب في أوكرانيا) ظهرت المخاوف من دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود. فهل أصبح الاقتصاد الأمريكي فعلًا على حافة الركود؟

صرح بنك TD Securities الاستثماري بوجود احتمال يزيد على 50% لحدوث ركود في الولايات المتحدة في غضون 18 شهرًا، وتطرح كثير من المؤشرات الاقتصادية الموثوقة إنذارات تحذيرية لاحتمالية دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود. لكن لحسن الحظ، ما يزال سوق العمل في الولايات المتحدة قويًا.

انقسم الخبراء حول احتمالية كون الركود أمرًا حتميًا وسط هذه الحالة الاقتصادية الفريدة من نوعها. ذلك ما دفع رئيس الاحتياطي الفيدرالي (Jerome Powell) للقول بأنه لا يعتقد أن الولايات المتحدة قد دخلت في حالة ركود.

يدعو الاقتصاديون العالم لعدم الهلع بسبب تزايد احتمالية دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة الركود؛ لأن حالات الركود كانت شائعة في القرن العشرين، ما خلق دائمًا الكثير من الفرص للمستثمرين على المدى الطويل.

تعريف الركود الاقتصادي

لا يوجد تعريف عالمي ثابت للركود الاقتصادي، لكن التعريف الأكثر شيوعًا بين المحللين المستثمرين هو: ربعان سنويان متتاليان من النمو الاقتصادي السالب. وباعتماد هذا المقياس إذن، نجد أن الاقتصاد الأمريكي دخل بالفعل حالة الركود. إذ تقلص الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة بنسبة 1.6% في الربع الأول من عام 2022، وتقلص مجددًا بنسبة 0.9% في الربع الثاني من نفس العام.

لكن في الوقت ذاته يختلف تعريف المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER) للركود، وهو المكلف رسميًا بتحديد فترات الركود في الولايات المتحدة، وبالنسبة له التعريف يتلخص بانخفاض كبير في النشاط الاقتصادي، ينتشر في جميع مفاصل الاقتصاد، ويستمر عدة أشهر.

من الأمثلة التي تدعم هذا التعريف هو ركود جائحة كوفيد-19 الذي استمر مدة شهرين فقط؛ وهو أقل من مؤشر الربعين الموجود في التعريف الأول.

يعلق جيفري روش كبير الاقتصاديين في LPL Financial على هذا الموضوع بأن الكلمة المفتاحية في التعريف الذي وضعه (NBER) هي كلمة (انخفاض كبير)، ويجب أن يكون التباطؤ كبيرًا ومستمرًا وواسع النطاق قبل أن يصبح ركودًا، أما في الآن فإن نمو الاقتصاد الأمريكي أبطأ مما كان عليه سابقًا، لذا لا يُعد هذا التراجع في النمو انخفاضًا كبيرًا.

يشير روش إلى أن الشركات الأمريكية ما زالت توظف والمستهلكون ما زالوا ينفقون، فقد أضاف الاقتصاد الأمريكي 372 ألف وظيفة في يونيو متجاوزًا بذلك توقعات الاقتصاديين التي بلغت 250 ألف وظيفة جديدة، فهذا النوع من النمو في الوظائف لا يتزامن عادةً مع الركود. إضافةً إلى ذلك، ما زال المحللون يتوقعون تسجيل شركات S&P 500 نموًا في الأرباح بنسبة 4.3%، وكذلك نموًا في الإيرادات بنسبة 10.1% في الربع الثاني.

لا أحد يعرف حقًا متى سيصف المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الوضع الحالي للاقتصاد الأمريكي بحالة ركود، لكن بالمحصلة لا يهتم عامة الأمريكيين بهذه الأمور الفنية، خصوصًا عندما ترتفع الأسعار أكثر وتزداد الصعوبات في الأسواق المالية.

لماذا يقلق الأمريكيون من الركود؟

بعد سنوات من الإغلاقات، والقيود التي فرضتها جائحة كوفيد-19 أمِلَ الكثير من المراقبين بأن يؤدي الطلب المكبوت إلى حدوث طفرة اقتصادية بعد الوباء خصوصًا عام 2022. لكن بدلًا من ذلك يشعر الأمريكيون بالقلق بسبب التضخم والركود. فكيف حدث ذلك؟

التضخم والاضطرابات في سلاسل الإمداد:

تفاقمت مشكلة التضخم في الولايات المتحدة (التي بدأت بالفعل عام 2021) بسبب الاضطرابات في سلاسل الإمداد في آسيا والعقوبات المفروضة على قطاعي النفط والغاز الروسيين، ولم تكن إجراءات الاحتياطي الفيدرالي على المستوى المطلوب من المواجهة لإعادة السيطرة على التضخم أيضًا.

أفاد مكتب الولايات المتحدة للتحليل الاقتصادي BEA في شهر مايو بارتفاع مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي PCE بنسبة 6.3% على أساس سنوي. وذلك هو المؤشر المفضل لقياس التضخم بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي؛ أي أن التضخم ارتفع بنسبة 4.7% عن العام السابق.

بينما انخفض مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي انحفاضًا طفيفًا عن ذروته البالغة 5.3% في شهر فبراير، لكنه ما يزال بالقرب من أعلى مستوياته منذ ثمانينيات القرن العشرين.

يشعر المستهلكون بالعبء الأكبر من التكاليف المتزايدة للسلع والخدمات اليومية. إذ أفاد مكتب إحصاءات العمل في 13 يوليو بارتفاع مؤشر أسعار المستهلك (CPI) (بوصفه مقياس تكلفة المعيشة) بنسبة 9.1% عن عام 2021. لكن ذلك الارتفاع السريع في مؤشر أسعار المستهلك يُعد أحد التحذيرات التي تتنبأ بحدوث تضخم وهذا ما لم يحدث منذ أربعة عقود.

رفع الفيدرالي لأسعار الفائدة:

رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة كثيرًا عدة مرات هذا العام، من ضمنها رفع سعر الفائدة 75 نقطة أساس (bps) (وحدة قياس لاحتساب معدلات الفائدة) خلال جلسات شهري يونيو ويوليو، وذلك استجابةً لنسب التضخم المثيرة للقلق.

يقول سام ستوفال كبير المحللين الاستراتيجيين للاستثمار في CFRA أن رفع سعر الفائدة للمرة الثانية على التوالي بمقدار 75 نقطة أساس، يجعلها أكبر خطوة متطرفة أقدم عليها الاحتياطي الفيدرالي منذ بدأت اللجنة الفيدرالية للسوق الحرة FOMC بتسجيل تحركات الفيدرالي عام 1990.

تتوقع المؤسسات المالية في سوق السندات أن احتمال رفع سعر الفائدة 50 نقطة أساس هو 74%، وأن احتمال رفع سعر الفائدة 75 نقطة أساس هو 26%.

كلما ارتفعت أسعار الفائدة ازدادت تكلفة اقتراض الشركات للأموال من أجل استثمار من أجل الابتكار والنمو، وترتفع أيضًا تكاليف قروض الرهن العقاري، وقروض السيارات، ومعدلات الفائدة على بطاقات الائتمان؛ ما يقلل الدخل المتاح الذي ينفقه الأمريكيون في الاقتصاد، ما يؤثر بدوره على أرباح الشركات، وأسعار الأسهم. وبالتأكيد هذا هو الهدف المنشود، إذ يريد الاحتياطي الفيدرالي القضاء على التضخم بإبطاء الاقتصاد، وهو يعمل على ذلك آملًا بأن يحقق هدفه ذاك دون التسبب بضرر كبير.

انعكاس منحنى عائد السندات:

تصاعدت المخاوف بشأن الركود في الولايات المتحدة في أوائل شهر يوليو 2022 عندما قفز العائد على سندات الخزانة الأمريكية في عامين فوق عائد السندات الأمريكية في 10 أعوام، وهي ظاهرة تُعرف باسم انعكاس منحنى عائد السندات.

يُعد انعكاس منحنى عائد السندات مؤشرًا قويًا على احتمال حدوث ركود. نعلم تاريخيًا أن الاقتصاد الأمريكي قد وقع في حالة ركود في ثلثي الحالات التي حصل فيها انعكاس في منحنى عائد السندات. ويعد هذا الانعكاس الأعمق منذ الذي حصل عام 2007 وسبق الأزمة المالية العالمية بعام.

الرأي الذي ينفي حدوث الركود

يرى كثير من الاقتصاديين أن الاقتصاد الأمريكي يتمتع بصحة جيدة ولا يمكن اعتبار الظروف الحالية ركودًا حتى مع المخاوف والتحذيرات في الآونة الأخيرة.

يقول بيتر إيسلي رئيس إدارة محفظة الكومنولث المالية إن تقرير الوظائف الأمريكية يجب أن يُطمئن المستثمرين. إذ بلغ نمو الوظائف 4.31% على أساس سنوي؛ وهو ما لم يحدث منذ 40 عامًا. وأضاف بأنه من الصعب تفسير اعتقاد البعض بأن الاقتصاد قد دخل فعلًا في حالة ركود، بينما بقي معدّل نمو الوظائف أعلى بكثير من المتوسطات طويلة الأمد، ونمو الرواتب قد وصل لمعدلات هي الأقوى منذ عقود.

صرّح كوينسي كروسبي كبير المحللين الاقتصاديين في LPL Financial بأن سوق العمل القوي يشير إلى أن الركود ليس وشيكًا في الولايات المتحدة، إلا إذا أدّت المخاوف من حدوثه إلى تحول سلوك المستهلك، فمن المهم إذن مراقبة ما يفعله المستهلكون لا ما يقولونه فقط.

وأضاف قائلًا أن المستهلك الأمريكي يشكل 70% من الاقتصاد الأمريكي، لكنه يتعرض لكثير من الضغوط نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات والفائدة وحتى البقالة، ولهذا انخفض مؤشر ثقة المستهلك لأدنى مستوى له منذ منتصف السبعينات، وذلك وفقًا لاستطلاع أعدّته جامعة ميتشيغان.

واختتم قائلًا أن تقارير متاجر التجزئة بالتعاون مع الشركات ذات الصلة بالمستهلك يجب أن تخبرنا عن سلوك إنفاق عملائها، ويجب أن تقدم معلومات دقيقة عن توجه الاقتصاد الحالي.

قد تقدم لنا أرباح الربع الثاني لشركات مثل أمازون وتيسلا وهوم ديبوت معلومات مفيدة للأشخاص والمستثمرين الذين يترقبون احتمالية حدوث ركود.

هل يجب أن نقلق بسبب الركود؟

لا يوجد أي سبب يدعو المستثمرين للقلق في حال وقع الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود عام 2023، لأنه تاريخيًا لا يستمر الركود الاقتصادي فترات طويلة.

إذ يقدّر متوسط مدة الركود في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية بحوالي 11.1 شهرًا فقط، بينما استمر ركود جائحة كوفيد-19 مدة شهرين فقط، إضافةً إلى ذلك تعد حالات الركود شائعة جدًا في الولايات المتحدة، فمنذ الحرب العالمية الثانية تعرض الاقتصاد الأمريكي لركود واحد كل خمس سنوات.

بينما يؤدي الركود عادةً إلى فقدان الوظائف والكثير من الصعوبات المالية الأخرى للأمريكيين، فلطالما شكّل فرص شراء ممتازة للمستثمرين على المدى الطويل تاريخيًا.

قد يكون من الصعب جدًا على المستثمرين معرفة متى يصل السوق إلى القاع، بينما في حالة الركود تميل الأسهم إلى الانخفاض قبل عدة أشهر من حدوث الركود، ويصل التشاؤم هنا إلى ذروته.

في الوقت ذاته سجلت بعض الأسهم أداءً جيدًا نسبيًا خلال فترة الركود (مثل أسهم ولمارت وتارغت وهوم ديبوت) التي تفوقت على مؤشر S&P 500 كثيرًا خلال ركود عام 2008 وركود عام 2020.

اقرأ أيضًا:

ما أسباب انهيار سوق الأسهم؟

ما سبب انهيار العملات المشفرة؟ وهل ستعود لسابق عهدها؟

ترجمة: نور اتش أوغلي

تدقيق: منال توفيق الضللي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر