على مر الزمان، كان الذكاء الاصطناعي مجرد فكرة خيالية تُعرض في الأفلام وروايات الديستوبيا كخطر يسيطر على العالم ويهدد الوجود البشري. وبات مع تطور العلم، وتقدم التكنولوجيا حقيقةً واقعة، وأصبح يستخدم في الكثير من جوانب الحياة العلمية والعملية عنصرًا لا غنى عنه، حتى أن البرامج التي تعمل به مثل “شات جي بي تي” لديها القدرة على إحداث ثورة في كفاءة وفعالية وسرعة العمل الذي يؤديه الإنسان.

يحدث هذا في الكثير من القطاعات، مثل الرعاية الصحية، والتصنيع، والجوانب الأخرى كلها من حياتنا تقريبًا، بما فيها الأسواق المالية.

بينما يوفر الذكاء الاصطناعي الكثير من الفوائد، يشير الاستخدام المتزايد لهذه التقنيات في الأسواق المالية أيضًا إلى مخاطر محتملة. وبالنظر إلى جهود وول ستريت السابقة لتسريع التداول من خلال تبني أجهزة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي نستطيع استنتاج الكثير حول الآثار المترتبة على استخدامها في صنع القرار.

برنامج تداول الوقود يوم الاثنين الأسود:

في أوائل الثمانينيات، ومع تطور التكنولوجيا ودخولها القطاع المالي، بدأ المستثمرون في استخدام برامج الكمبيوتر لتنفيذ الصفقات بناءً على قواعد وخوارزميات محددة مسبقًا، وساعدهم هذا في إكمال الصفقات الكبيرة بسرعة وكفاءة.

في ذلك الوقت، كانت هذه الخوارزميات بسيطة نسبيًا وكانت تُستخدم أساسًا لما يسمى دليل المراجحة، التي تتضمن محاولة الاستفادة من الفروق بين سعر مؤشر الأسهم (مثل S&P 500) وسعر الأسهم التي يتكون منها.

مع تقدم التكنولوجيا وتزايد البيانات المتاحة، أصبح هذا النوع من تداول البرامج معقدًا أكثر، ومع خوارزميات قادرة على تحليل بيانات السوق المعقدة وتنفيذ التداولات بناءً على مجموعة واسعة من العوامل، تزايدت أعداد متداولي البرنامج في هذه التجارة السريعة الكبيرة “غير المنظمة”، إذ تُتداول أصول تزيد قيمتها عن تريليون دولار يوميًا، ما تسبب في زيادة تقلبات كبرى السوق.

أدى ذلك في النهاية إلى الانهيار المدوي لسوق الأوراق المالية في عام 1987 المعروف باسم الاثنين الأسود، إذ سجل مؤشر داو جونز في ذلك الوقت أكبر انخفاض في تاريخه، وانتشرت آثار ذلك في جميع أنحاء العالم.

نتيجة لذلك، وضعت السلطات التنظيمية عددًا من التدابير لتقييد استخدام تداول البرنامج، بما في ذلك قواطع دائرة التداول التي توقف التداول عندما حدوث تقلبات كبيرة في السوق، وقيود أخرى، ولكن على الرغم من هذه الإجراءات، استمرت شعبية التداول بواسطة البرامج بالازدياد في السنوات التي أعقبت الانهيار.

التداول عالي التردد (HFT):

في عام 2002، قدمت بورصة نيويورك نظام تداول مؤتمت بالكامل، ونتيجة لذلك، وبتكنولوجيا أكثر تقدمًا، أفسح الطريق أمام متداولي البرنامج إلى أتمتة أكثر تطورًا.

يستخدم التداول عالي التردد برامج الكمبيوتر لتحليل بيانات السوق وتنفيذ التداولات بسرعات عالية للغاية، وعلى عكس متداولي البرامج الذين يشترون ويبيعون سلالًا من الأوراق المالية بمرور الوقت للاستفادة من فرصة المراجحة (فرق في أسعار الأوراق المالية المتماثلة التي يمكن استغلالها لتحقيق الربح).

يُستخدم التداول ذوو التردد العالي بواسطة أجهزة كمبيوتر فائقة التطور وشبكات عالية السرعة لتحليل بيانات السوق وتنفيذ التداولات بسرعة البرق، إذ يمكن للمتداولين إجراء صفقات في حوالي 64/1 مليون جزء من الثانية، مقارنةً بالثواني العديدة التي استغرقها التجار في الثمانينيات.

عادةً ما تكون هذه التداولات قصيرة المدى بطبيعتها، وقد تتضمن شراء نفس الورقة المالية وبيعها عدة مرات في غضون نانو ثانية (واحد من مليار من الثانية)، فتحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعي كميات كبيرة من البيانات في الوقت الفعلي وتحدد الأنماط والاتجاهات التي لا تظهر على الفور للمتداولين من البشر، ويساعد هذا المتداولين على اتخاذ قرارات أفضل وتنفيذ التداولات بوتيرة أسرع مما هو ممكن يدويًا.

من تطبيقات الذكاء الاصطناعي المهمة الأخرى في التداول عالي التردد هي معالجة اللغة الطبيعية، التي تتضمن تحليل بيانات اللغة البشرية وتفسيرها مثل المقالات الإخبارية ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وبتحليل هذه البيانات، يمكن أن يحصل المتداولون على رؤىً قيمة حول معنويات السوق وتعديل استراتيجيات التداول الخاصة بهم وفقًا لذلك.

فوائد التداول بالذكاء الاصطناعي:

يعمل هؤلاء المتداولون ذوو الترددات العالية والقائمون على الذكاء الاصطناعي بشكل مختلف تمامًا عن الأشخاص العاديين. فدماغ الإنسان بطيء وغير دقيق ومعرض للنسيان، حتى إنه غير قادر على حساب النقاط العائمة السريع وعالي الدقة اللازم لتحليل كميات ضخمة من البيانات لتحديد إشارات التداول.

أجهزة الكمبيوتر أسرع بملايين المرات، مع ذاكرة ثابتة، وقدرة غير محدودة على تحليل كميات كبيرة من البيانات في أجزاء من الثانية.

وهكذا، تمامًا مثل معظم التقنيات، يوفر التداول عالي التردد العديد من الفوائد لأسواق الأسهم.

عادةً ما يشتري هؤلاء المتداولون بالذكاء الاصطناعي الأصول ويبيعونها بأسعار قريبة جدًا من سعر السوق، ما يعني أنهم لا يفرضون على المستثمرين رسومًا عالية، ويساعد ذلك على ضمان وجود مشترين وبائعين دائمًا في السوق، ما يساعد بدوره على استقرار الأسعار وتقليل احتمالية حدوث تقلبات مفاجئة في الأسعار.

يمكن أن يساعد التداول عالي التردد أيضًا في تقليل تأثير عدم كفاءة السوق بتحديد أخطاء التسعير في السوق بسرعة واستغلالها. على سبيل المثال، يمكن أن تكتشف خوارزميات التداول عالي التردد تقويم سهم معين بأقل من قيمته الحقيقية أو المبالغة فيه، وعندها يُوجّه المتداول لتنفيذ الصفقات للاستفادة من هذه التناقضات، وبذلك يمكن أن يساعد هذا النوع من التداول على تصحيح أوجه القصور في السوق وضمان تسعير الأصول بدقة أكثر.

سلبيات التداول بالذكاء الاصطناعي:

السرعة والكفاءة سيف ذو حدين، ويمكن أن يسببا الضرر أيضًا. قد تتفاعل خوارزميات التداول عالي التردد بسرعة كبيرة مع الأحداث الإخبارية وإشارات السوق الأخرى التي قد تسبب ارتفاعات مفاجئة أو هبوط في أسعار الأصول.

إضافةً إلى ذلك، فإن الشركات المالية المعتمدة على التداول عالي التردد قادرة على استخدام سرعتها وتقنيتها لاكتساب ميزة غير عادلة على المتداولين الآخرين، ما يزيد من تشويه إشارات السوق.

أدى التقلب الذي أحدثته هذه الوحوش التجارية المتطورة للغاية العاملة بالذكاء الاصطناعي إلى الانهيار المفاجئ في مايو 2010، عندما تراجعت الأسهم ثم تعافت في غضون دقائق (اختفاء ثم استعادة حوالي تريليون دولار من القيمة السوقية)، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأسواق المتقلبة هي الوضع الطبيعي الجديد.

بهذه السرعة التي يحلل بها التداول ذو التردد العالي البيانات وبتغيير بسيط في ظروف السوق يمكن أن يؤدي إلى عدد كبير من الصفقات، ما يؤدي إلى تقلبات مفاجئة في الأسعار وزيادة التقلبات.

إضافةً إلى ذلك، أظهرت بعض الأبحاث أن معظم المتداولين يستخدمون خوارزميات متماثلة، ما يزيد من مخاطر فشل السوق، فمع زيادة عدد المتداولين في السوق، يمكن أن يؤدي التشابه في هذه الخوارزميات إلى قرارات تداول مماثلة، وهذا يعني أن جميعهم قد يتداولون في نفس الجانب من السوق إذا أصدرت خوارزمياتهم إشارات تداول متماثلة، أي أنهم قد يحاولون جميعًا البيع في حالة الأخبار السلبية أو الشراء في حالة الأخبار الإيجابية، وإذا لم يكن هناك من يأخذ الجانب الآخر من التجارة، فقد تنهار الأسواق.

دخول شات جي بي تي:

يعني ذلك أننا أمام عالم جديد من خوارزميات التداول التي يدعمها (شات جي بي تي) والبرامج المماثلة التي قد تكون مشكلة الكثير من المتداولين إلى نفس الجانب من صفقة التداول وتزيد الأمر سوءًا.

عمومًا، يفضل البشر ترك اتخاذ القرارات لأجهزتهم الذكية الخاصة، ولكن إذا استمد الجميع قراراتهم من برنامج ذكاء اصطناعي مماثل، فقد يحد ذلك من تنوع الآراء.

مثلًا، إذا اعتمد جميع البشر على شات جي بي تي لاتخاذ قرار بشأن أفضل جهاز كمبيوتر للشراء، فسيتجه كل المستهلكون إلى نوع واحد بعيد عن غيره، ولك أن تتخيل حجم المشكلة حينها، فسيؤدي هذا إلى نقص في بعض المنتجات والخدمات إضافةً إلى ارتفاع حادٍ في الأسعار.

عمومًا، يفضل المستهلكون بالفعل تبني السلوك الجمعي (سلوك القطيع)، والدليل على ذلك بملاحظة تفضيلات الأسواق من شراء المنتجات والنماذج نفسها، وتستفيد بعض مواقع التسوق مثل Amazon من ذلك السلوك، إذ تحفز المراجعات المستهلكين على الاختيار من بين عدد قليل من أفضل الخيارات.

تصبح هذه المشكلة أعمق أكثر عندما تُتخذ قرارات الذكاء الاصطناعي بناءً على معلومات متحيزة وغير صحيحة؛ يمكن أن تعزز خوارزميات الذكاء الاصطناعي التحيزات الموجودة عندما تُهيأ الأنظمة على مجموعات بيانات متحيزة أو قديمة أو محدودة، وقد تعرض شات جي بي تي وأدوات مماثلة لانتقادات كثيرة لتقديمهم وقائع خاطئة.

إضافةً إلى ذلك، نظرًا إلى أن حوادث السوق نادرة نسبيًا، فلا توجد الكثير من البيانات عنها، ونظرًا إلى أن الذكاء الاصطناعي يعتمد على البيانات المتاحة للتعلم، فإن افتقارهم إلى المعرفة المحيطة بها قد يزيد من احتمالية حدوثها.

في الوقت الحالي على الأقل، قد تمنع معظم البنوك موظفيها الاستفادة من شات جي بي تي والأدوات المماثلة، إذ حُظر استخدامه في كل من بنك (Citigroup)، و(Bank of America)، و (Goldman Sachs)، والعديد من المقرضين الآخرين بالفعل في غرف التداول، مشيرين إلى مخاوف تتعلق بالخصوصية.

لكن كل التوقعات تشير وبشدة إلى أن البنوك تتبنى في النهاية الذكاء الاصطناعي القابل للتعلم، بمجرد حلها للمخاوف التي تساورها معها، لأن المكاسب المحتملة كبيرة جدًا بحيث لا يمكن تفويتها، وهناك خطر أن يتخلف المنافسون عن الركب.

لكن المخاطر على الأسواق المالية والاقتصاد العالمي كبيرة وواردة الحدوث أيضًا، ولذلك على العالم التقدم بحذر بهذا الاتجاه.

اقرأ أيضًا:

بعد النجاح الهائل، هل سيأخذ شات جي بي تي وظيفتك؟ إليك دليل شامل ونظرة مستقبلية

هل سياخذ الروبوت مكانك في سوق العمل ؟

ترجمة: دياب حوري

تدقيق: هزار التركاوي

المصدر