تشير كاثرين مان الباحثة في البنك الإنجليزي إلى أن بريطانيا تواجه مشكلة التضخم أكثر من الولايات المتحدة ومنطقة اليورو. إذ تشير أحدث أرقام التضخم الرسميّة في المملكة المتحدة إلى تباطؤ ارتفاع الأسعار، من معدلات مزدوجة إلى 8.7% في 12 شهرًا حتى أبريل 2023، ولكن هذا ما يزال أعلى من معدلات التضخم التي توقعا البنك الإنجليزي بنسبة 8.2% في بدايات 2023.

وبهذا يكون معدل التضخم في المملكة المتحدة مرتين تقريبًا مقارنةً مع المعدل الأمريكي المكافئ، وأعلى من معدل التضخم في منطقة اليورو البالغ 7% في شهر أبريل، الذي تباطأ إلى 6.1% في شهر مايو.

تعرّضت هذه المناطق الثلاث إلى صدمة اقتصادية بسبب جائحة فيروس كورونا، إذ عانت الدول الأوروبية والمملكة المتحدة ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الطاقة نتيجةً للحرب الروسية في أوكرانيا، ولكن توجد مشكلتان محددتان للمملكة المتحدة تزيد معاناة التضخم، وهي: الصدمة الاقتصادية الناجمة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، واعتماد المملكة المتحدة قطاع الخدمات المالية.

نتيجة لذلك، فإن رفع البنك الإنجليزي لأسعار الفائدة لن يكون كافيًا للحد من التضخم؛ ويجب على الحكومة البريطانية أن تؤدّي دورًا في إعادة توازن الاقتصاد بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، بعيدًا عن قطاع الخدمات المالية والصناعات التقليدية الأخرى، مثل: الصناعات التحويلية.

تعدُّ أسعار الفائدة أداةً غامضةً لمكافحة التضخم، وهي ما تزال الأداة الرئيسة للبنوك المركزيّة، فهي تؤثّر في الاقتصاد بطرائق عدّة، وأبرزها: تقليل الطلب على السلع والخدمات بزيادة تكلفة أنواع مختلفة من الديون، مثل: الرهون العقارية.

ولكن أسعار الفائدة تؤثّر أيضًا في قدرة الشركات على سداد ديونها، وتقليل قيمة الضمانات التي تقدّمها للبنوك لتأمين قروضها؛ وهذا يضغط على ميزانيات البنوك، وذلك إن زيادة أسعار الفائدة تؤثّر سلبًا في القطاع الماليّ، لأنّ المخاطرة أكبر، فهؤلاء المقترضين لن يتمكّنوا من سداد قروضهم؛ وهذا هو السبب في أنّ القطاع المالي المتجاوز يسبب صداعًا لبنك المملكة المتحدة عندما يحاول معالجة التضخم.

الماضي الصناعي للمملكة المتحدة

كان للمملكة المتحدة اقتصاد متوازن يُوزَّع بالتساوي بين قطاعي التصنيع والخدمات في خمسينيات القرن الماضي، وهكذا ساهم التصنيع (كقطاعات الغاز والكهرباء والمياه) بأكثر من 40% من الناتج الاقتصادي الإجمالي للمملكة المتحدة حينها، بينما بلغ حصة القطاع الخدماتي 50%، والجدير بالذكر أن المملكة المتحدة كانت مسؤولة عن ربع التجارة العالمية في قطاع التصنيع.

أعطت الحكومة آنذاك الأولوية لإنتاج التصدير، ما جعل المملكة المتحدة مركزًا رائدًا في بناء السفن، ومركزًا أوروبيًا لإنتاج السيارات والفحم والصلب والمنسوجات لبيعها إلى الدول الأخرى، وساهمت الصناعات القائمة على العلوم أيضًا (الإلكترونيات والحواسيب والهندسة) في تطور في المملكة المتحدة، واستفادت البلاد من هذه الثورة التكنولوجية الثالثة.

ولكن التقدّم في الصناعات المؤسَّسة على العلوم لم يحدث في الوقت المناسب لموازنة انهيار التوظيف في قطاع التصنيع في المملكة المتحدة بدءًا من الستينيات.

وفي بداية عام 2011، كان 80% من العمال البريطانيين في قطاع الخدمات، و10% فقط في قطاع التصنيع، وتوجد عوامل مختلفة تفسّر هذا الانخفاض في وظائف التصنيع، كاستبدال الوظائف الروتينية بالروبوتات والأنظمة الصناعية الحديثة، وارتفاع الواردات من الصين والدول الناشئة، والسياسات الحكومية.

في السبعينيات، ركّزت الحكومة على سياسات اقتصادية تهدف إلى انتعاش سوق الإسكان ومركز المال في لندن، وقيل للجمهور البريطاني: «إن مستقبلهم يكمن في العمل بعقولهم وليس أيديهم». ونفّذت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر سياسات إعادة الهيكلة الصناعية، واستمرّت تحت حكم توني بلير، وديفيد كاميرون.

عُرضت هذه السياسات على أنها تحديث اقتصادي سيعمل على تحسين أجور العمال والمجتمع كلّه، حتى الحكومة التي تشكلت من الحزب العمالي المرتبطة تقليديًا بطبقة العمال، كانت مقتنعة بأن المستقبل يكمن في الاقتصاد المعرفي، وشرعت في جعل بريطانيا مقدمة عالمية في مجال تقديم الخدمات.

صعود مدينة لندن، وقطاع المال، والتأمين، والعقارات تحت حكومتي الحزب الحاكم والحزب العمالي قد غير منحى الاقتصاد في المملكة المتحدة. فمثلًا استنفدت المدينة أفضل الأشخاص المتعلمين من المناطق والمهن الأخرى، وأحضرتهم إلى وظائف عالية الأجر في لندن، وأشخاص كان بإمكانهم أن يصبحوا علماء أو مهندسين؛ أصبحوا مصرفيين أو مديري صناديق التحوط.

مع أن المدينة تولّد 85 مليار جنيه إسترليني سنويًا، وتوظّف أكثر من 580,000 شخص، لكنها ليست دجاجة البيض الذهبي لبريطانيا، بل إنها حجبت القطاعات الأخرى التي سمحت سابقًا بالازدهار في البلاد كلّها.

والآن، يسبب القطاع المالي في المملكة المتحدة مشكلة أخرى، تتمثل بإنّ هيمنة مؤسسات القطاع المالي صعّبت على البنك المركزي مكافحة التضخم، بسبب المخاوف من آثار زيادة أسعار الفائدة على الميزانيات المصرفية.

من أجل التصدي للتضخم العنيد

لهذا السبب لن تكون السياسة النقدية وحدها قادرة على احتواء التضخم في المملكة المتحدة، تحدَّث البنك عن الصعوبات التي واجهها في توقّع الارتفاع الحالي، الذي ما زال يستمر في معدل التضخّم، ولكن تقدُّم التقنيات الإحصائيّة، وقوة الحوسبة قد ساهمت في تحسين القدرة على توقع التضخم.

من ناحية أخرى، قد تكون السياسات الحكومية غير المتوقعة، أدت إلى تحديات أكبر مع هيكلة الاقتصاد البريطاني.

لم تكن لدى نماذج البنك فرصة كبيرة لمراعاة التوتر السياسي، والتغييرات الاستراتيجية الناجمة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، فقد أصبحت التجارة مثلًا أكثر صعوبة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد الانفصال، ما يقلل من المعروض، ويرفع أسعار المنتجات، وهناك أيضًا أشخاص يغادرون الاتحاد الأوروبي مقارنة مع من يصلون إلى المملكة المتحدة، ما يضع ضغطًا على الأجور في قطاعات معينة ويزيد من مشكلة التضخم.

الخروج من الاتحاد الأوروبي جنبًا إلى جنب مع القطاع المالي الضخم في المملكة المتحدة، يجعل مهمة بنك المملكة المتحدة في التحكم في التضخم أكثر صعوبة.

تحتاج الحكومة إلى إعادة توازن الاقتصاد البريطاني، مع القطاعات العلمية التي تؤدّي دورًا مهمِّا يضمن قدرة بنك المملكة المتحدة على ضبط أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، دون القلق بشأن تأثير ذلك على القطاع المالي الضخم.

اقرأ أيضًا:

ذروة التضخم ومعضلة البنوك المركزية

هل يفيد رفع أسعار الفائدة في كبح التضخم؟

ترجمة: عمرو سيف

تدقيق: دانا فيصل توفيق

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر