الجدال بين نيلز بور و أينشتاين حول التشابك الكمّي


بدأ كل شيء في أكتوبر من العام 1927، في مؤتمر سولفاي الخامس في بروكسل. كان هذا مؤتمر لويس دي بروي الأول ، وكان “مليئا بالسرور والفضول” على أمل لقاء أينشتاين، معبوده في سن المراهقة. وقد بلغ الان من العمر 35، قال دي بروي بسعادة: “لقد أصابني بشكل خاص تعبيره المعتدل والمدروس، من خلال لطفه، وبساطته، وصداقته”

في عام 1905، ساعد أينشتاين نظرية الكم الرائدة مع اكتشافه الثوري بأن الضوء يملك خصائص كل من الموجة والجُسيم. وأوضح نيلز بور في وقت لاحق بأن هذا “التكامل”: يعتمد على كيفية مراقبة الضوء، سوف نرى إما موجة أو سلوك جُسيم. أما بالنسبة إلى دي بروي، فقد أخذ فكرة أينشتاين إلى مستوى غريب في أطروحة الدكتوراه سنة 1924 حيث تسائل (إذا كانت الموجات تتصرف كجزيئات، فربما تكون جزيئات المادة أيضا تتصرف مثل الموجات!) بعد ذلك، اثبت أينشتاين أن الطاقة يمكن تحويلها الى مادة والعكس صحيح ، عن طريق معادلته E = mc2

كان أينشتاين أول من أيّد علنا ​​فرضية بروي الجريئة. وبحلول عام 1926، وضع إروين شرودنجر صيغة رياضية لوصف مثل هذه “الموجة- المادة”، التي وصفها بأنها نوع من البحر المتلألئ للجسيمات المنتشرة”. ولكن أظهر ماكس بورن أن موجات شرودنجر هي في الواقع “موجات من الاحتمالات”. وهي تمثل الاحتمال المقاس لجُسيم يظهر في مكان ووقت معينين استنادا إلى سلوك العديد من هذه الجسيمات في التجارب المكررة. عندما يُراقب الجسيم، شيئا غريبا يحدث. الدالة الموجية “تنهار” إلى نقطة واحدة، مما تسمح لنا أن نرى الجسيم في موقع معين.

كما أن موجة احتمال بورن تتوافق بدقة مع “مبدأ الريبة” المقترح من قبل فيرنر هايزنبرج. وقد خلص هيزنبرغ إلى أنه من غير الممكن في العالم الكمومي الحصول على معلومات دقيقة عن موقع وزخم الجُسيم في ان واحد. كان يتصور القيام بقياس موقع الجسيم الكمومي، من خلال تسليط الضوء عليه، أعطاه “دفعه” تغير من زخمه، لذلك لا يمكن أبدا حساب موقع الجُسيم وزخمه بدقة في آن واحد.

يمكن اعتبار اجتماع نخبة علماء فيزياء العالم في بروكسل عام 1927 حالةً غريبة من فيزياء الكم

وتظهر الصورة الرسمية للمشاركين 28 رجلا أصحاب مظهر رصين، مع امرأة واحدةٍ وهي الفيزيائية ماري كوري. لكن صورة الفيزيائي بول إيرنفيست (Paul Ehrenfest) للخصمان المفكران. نيلز بور وآينشتاين تصوّر لنا روح المؤتمر. يظهر بور وقورا بشدة مديرا ذقنه، في حين يتراجع آينشتاين إلى الوراء ليبدو مسترخيا وحالما. هذه الصورة اللطيفة والتأملية توضّح عمق الصدام الشهير بين هذين الفيزيائيين العملاقين – وهو صراع يتوقف على المفهوم الاستثنائي للتشابك الكمومي.

في المؤتمر، عرض بور وجهة نظره لميكانيكا الكم للمرة الأولى. سميت بتفسير كوبنهاغن، تكريما للمدينة التي نشأ بها ، متكونة من فكرته الخاصة “علاقة الموجة-الجسيم” مع موجة الاحتمالات الخاصة بالفيزيائي بورن و مبدأ الريبة لهايزنبرغ

وافق معظم الحضور على وجهة النظر هذه بسهولة، لكن اينشتاين كان قلقًا ان تكون مجموعة من الجُسيمات تُحكم بواسطة الاحتمالية، بالحقيقة إن اينشتاين قد فسّر الحركة الشاذة لحبوب اللقاح في الماء الساكن (الحركة البروانية) من خلال الاستشهاد بسلوك المجموعات العشوائية لجزيئات الماء. وعلى الرغم من ذلك، فإن الجزيئات الفردية ستبقى محكومة بواسطة قوانين نيوتن للحركة. ويمكن حساب تحرّكاتها الدقيقة من حيث المبدأ. وعلى النقيض من ذلك، ترى نظرية كوبنهاغن أن الجُسيمات دون الذرية تحكمها الاحتمالات.

بدأ آينشتاين هجومه بالاعتماد على البرهان العكسي (إثبات صحة المطلوب بإبطال نقيضه) بحجة أن التمديد المنطقي لنظرية الكم سيؤدي إلى نتيجة منافية للعقل.

بعد عدة ليال بلا نوم، وجد بور عيبا في منطق أينشتاين. لم يتراجع آينشتاين: فهو متأكد من أنه يمكن أن يقنع بور بعبثية هذه النظرية الجديدة الغريبة. وأستمر جدالهم حتى مؤتمر سولفاي السادس في عام 1930، إلى أن رأى أينشتاين أنه حصل أخيرا على القطع اللازمة لهزيمة بور في المؤتمر السابع عام 1933. ولكن قبل أسبوعين من ذلك، اجبر اضطهاد النازية أينشتاين على الفرار إلى الولايات المتحدة.

عندما حان الوقت، كانت الفكرة بسيطة ومخادعة. في عام 1935 في برينستون، اينشتاين واثنين من معاونيه، بوريس بودولسكي (Boris Podolsky) وناثان روزين (Nathan Rosen )، نشروا ما أصبح يُعرف بمفارقة أينشتاين – بودولسكي – روزين، أو (اي.بي.ر-EPR ) بعد فترة قصيرة. عبّر بودولسكي عن الفكرة رياضيًّا، لذا سوف نشرحها بواسطة الحلوى

تخيّل أنك تملك قطعة حلوى حمراء وأخرى خضراء في صندوق يعزلهما عن بقية الحلوى، من الناحية التقنية تشكل قطعتا الحلوى “نظام معزول”، وأنها “متشابكة” بمعنى أن لون إحدى قطع الحلوى يعطي معلومات عن لون الحلوى الأخرى. لذا عندما تطلب من صديقٍ أن يغمض عينيه ويختار قطعة حلوى عشوائية من الصندوق، فإذا اختار اللون الأحمرفإننا سوف نعلم تلقائيا أن الحلوى المتبقية خضراء اللون
هذا هو مبدأ مفارقة (أينشتاين – بودولسكي – روزين) بمعرفتك للون قطعة حلوى صديقك فإنك ستعرف لون قطعة الحلوى الأخرى بدون أن تكبّد نفسك عناء النظر داخل الصندوق

لكن ما كان يُفترض به أن يتخلّص من تأثير المُراقب، كشفت مفارقة اينشتانين بدون قصد عن فكرة غريبة للتشابك الكمّي

وقد صيغ هذا المصطلح بواسطة شرودنجر بعد أن قرأ ورقة (أينشتاين – بودولسكي – روزين)

الآن يمكننا تطبيق نفس الفكرة على الالكترونات بدلا من اللون. كل الكترون له خاصية جوهرية تدعى (دوران-Spin), فلنتخيل شيئا مثل محور دوران الجايروسكوب. إذا تم اعداد الالكترونات في المختبر بحيث يكون عزم دورانها الكلي يساوي صفر، حينها ينص مبدأ الحفاظ على الزخم الزاوي إذا كان أحد الإلكترونات يملك محور الدوران للأعلى، فإن محور دوران الإلكترون الآخر يجب أن يكون إلى الاسفل.

حينها يكون الالكترونان متشابكان تماما كما في مثال الحلوى في مثال قطع الحلوى، يكون لون قطعة الحلوى الخاصة بصديقك ثابتا سواء تم مشاهدته أم لا. يكون الأمر على النقيض من ذلك مع الالكترونات، حتى اللحظة التي يختار بها صديقك. تقول نظرية الكم بأن هناك احتمال 50% بأن يكون دورانه للأعلى و50% ان يكون دورانه للأسفل

ورقة (أينشتاين – بودولسكي – روزين) لتفنيد نظرية الكم هي مشابهة لما ذكر سابقا

ربما تكون حالة الالكترون الذي يختاره صديقك محددة مسبقا كما في العلامة المائية “لا يمكن رؤيتها الى أن نسلط ضوءً خاصًّا عليها”، حالة دوران الالكترون يتم تحديدها في اللحظة التي نراقبه بها.

ينطوي الدوران الكمّي على “متغير خفي” يجب ان تصفه نظرية الكم بعد. بدلا من ذلك إذا كانت ميكانيكا الكم صحيحة وكاملة فإنها تتحدى المنطق السليم، حالما يتفحص صديقك الالكترون الخاص به فإن الكترونك سوف يستجيب لحظيا فاذا كان الكترون صديقك ذا عزم علوي فإن الكترونك سيكون ذا عزم سفلي وذلك لأن العلاقة بين العزمين تم انشاؤها في التجربة عندما كانت الالكترونات متشابكة لأول مرة. تماما مثل وضع قطعتين من الحلوى في صندوق بحيث يكون لون قطعة الحلوى الخاصة بك معاكسا للون قطعة حلوى صديقك، الاثار المترتبة عن ذلك عميقة. حتى لو انتقل صديقك الى طرف المجرّة فإن الالكترون الخاص بك سوف “يعرف” بطريقة ما ان يدور عكس الالكترون الخاص بصديقك في اللحظة التي يراقبه بها

وبطبيعة الحال، فإن الفعل الفوري ينتهك النظرية النسبية لآينشتاين والتي تنص (لا شيء يمكن أن يسافر أسرع من سرعة الضوء) ومن هنا وصف أينشتاين هذه المسألة الغريبة بالفعل الشبحي- spooky action at a distance

لكن ما زال يوجد الكثير، الدوران ليس الخاصية الوحيدة التي يختار صديقك ان يراقبها. ما اظهرته ورقة (أينشتاين – بودولسكي – روزين) حينها، ان الطبيعة الفيزيائية الخاصة للإلكترون تبدو وكأنها لا تملك هوية خاصة بها بدلا من ذلك فإنها تعتمد على الكيفية التي يختار بها صديقك مشاهدة الالكترون، حيث يقول اينشتاين مخاطبا بور >> هل تعتقد حقا أن القمر موجود فقط عندما تنظر اليه؟ وخلصت الورقة إلى أنه لا يوجد تعريف معقول لواقع يمكن أن يسمح بحصول ذلك

حيّرت ورقة (أينشتاين – بودولسكي – روزين) بور وجعلته يتخلّى عن فكرة أن فعل القياس يؤدي إلى تغيير عزم الجُسيم (في الواقع، سوف تُظهر التجارب في وقت لاحق أن مبدأ الريبة ليس عملا نتيجة فعل المراقب وإنما هو صلة متأصلة في الجُسيمات) لكنه لم يتخلَّ عن مبدأ الريبة في صميم ميكانيك الكم، وبدلا من الصراع مع تأثيرات العالم الحقيقي. خلص بور إلى أنه يمكننا فقط الكلام عمّا نلاحظه في بداية التجربة ونهايتها عندما يكون حالة الكترون الخاص بصديقك ذا دروان علوي ولا يمكننا الكلام حول مالذي حصل بينهما.

واصل اينشتاين وبور الجدال بينهما لبقية حياتهما، ما الذي اختلفوا فيه حقا هو طبيعة الواقع. يعتقد بور أن الطبيعة عشوائية بشكل أساسي على العكس من اينشتاين الذي قال مخاطبا بور إن الاله لا يلعب النرد مع الكون
مع ذلك فإن اينشتاين عرف حقيقة أن نظرية الكم تصف بدقة التجارب في العالم الواقعي بدلا من التجارب النظرية، لذلك اعتبر معظم الفيزيائيين أن بور قد ربح وركزّوا على تطبيق نظرية الكم وأصبحت الأسئلة حول مفارقة أينشتاين – بودولسكي – روزين) والتشابك الكمي مصلحة خاصة.

في العام 1950 وجد الفيزيائي شيانغ شي وو (Chien-Shiung Wu) و ايرفنغ شانوف (Irving Shaknov) سلوكا مرتبطا بشكل غريب في أزواج من الفوتونات. لم يكونوا يعرفون ذلك في حينها، ولكن كان ذلك أول رصد في العالم الحقيقي للتشابك الكمّي

في وقت لاحق أدرك ديفيد بوم (David Bohm) أن اكتشاف شانوف فرصة لنقل التشابك الكمّي من عالم التجارب النظرية الى المختبر. في العام 1964 حوّل جون بيل (John Bell) ورقتا مفارقة اينشتاين-روزن البديلة الى صيغة رياضية يمكن اختبارها لكنها تُركت للفيزيائي الفرنسي آلان أسبيكت (Alain Aspect) عام 1981 لأجراء اختبارها

لكن هل هذا يعني أن ” الفعل الشبحي” حقيقة؟

إن التشابك الكمي قد تم اثباته من مسافة كيلومتر أو اثنين وهذه مسافة قصيرة جدا لمعرفة ما إذا كانت هناك تفاعلات بين الالكترونات تنتقل أسرع من الضوء. قد تُصبح الأمور أكثر وضوحا في الوقت القريب حيث أعلن علماء صينيون نجاح نقل فوتونات متشابكة من قمر صناعي على بعد مسافة 1200 كم.

على الجانب الآخر، أخذ بعض الفيزيائيين جانب اينشتاين من الحجة. على سبيل المثال بينغت نوردن (Bengt Nordén)

من جامعة تشالمرز في السويد، نشر ورقة بعنوان “التشابك الكمّي: حقائق و خيال – كيف أخطأ أينشتاين بعد كل شيء؟”، مثل هؤلاء الفيزيائيين يسأل مرة أخرى عن معنى الواقع، ويتساءل ما الذي يسبب ظاهرة التشابك الغريبة. ويشير البعض إلى أن شيئا مثل “الثقب الدودي وهو نفق في الزمكان بين اثنين من الثقوب السوداء البعيدة على نطاق واسع، أحد نتائج النظرية النسبية العامة استنتج لأول مرة من قبل أينشتاين وروزين – قد يكون الآلية الكامنة وراء التشابك.

جُسيم التاكيون الافتراضي الأسرع من الضوء أيضا يُعتبر تفسيرًا منافسًا محتملًا

ولكن يتفق جميع الفيزيائيون تقريبا على أن كل ما يجري بين الجُسيمات المتشابكة، يمكن لعلماء المختبر ملاحظته بحدود سرعة الضوء أو أقل

لم يعد التشابك الكمّي مصطلحًا فلسفيًّا، على الرغم من ان الفيزيائيين يستخدمونه في تشفير المعلومات وتصميم الحواسب الكمّية المستقبلية إلا أن الصراع ما زال مستمرا مع الأسئلة المعقدة حول طبيعة الواقع الذي يُثير التشابك الكمّي


  • ترجمة : مصطفى المالكي.
  • تدقيق: بدر الفراك.
  • تحرير: زيد أبو الرب.

المصدر