من الصعب تقدير القوة الخارقة للأنف البشري، إذ تشير الأبحاث إلى أن البشر يستطيعون تمييز أكثر من تريليون رائحة، وهذا مثير للإعجاب خاصة عند تذكر أن كل رائحة على حدة هي مادة كيميائية ذات بنية فريدة. وعليه سيكون تعليم شم الروائح للذكاء الاصطناعي إنجازًا كبيرًا.

يحاول الخبراء تمييز الأنماط أو فهم المنطق المتعلق بكيفية تحديد البنية الكيميائية للرائحة، ما سيسهّل عملية تصنيع الروائح صناعيًا، أو حتى اكتشاف روائح جديدة. ويمثل ذلك تحديًا بالغ الصعوبة، إذ إن مادتين كيميائيتين متشابهتين جدًا قد تكونا مختلفتي الرائحة. وعندما يكون تحديد الروائح مهمة معقدة، يتساءل العلماء: هل يمكن تدريب الحواسيب لتنفيذ هذه المهمة؟

ما زالت حاسة الشم واحدة من أكثر الحواس غموضًا بالنسبة للعلماء، فبينما يستطيع البشر تفسير ما يرونه ويسمعونه وتمييزه بدقة، يبقى مفهوم حاسة الشم أقل وضوحًا. فما نراه تفسره مجموعة من أطوال الموجات الضوئية، ما نسمعه مجموعة من الموجات الصوتية ذات ترددات وتواترات معينة، ومع إن التفهم الشامل للبصر والسمع موجود، فلا وجود للمستوى ذاته من فهم الروائح وعملية استشعارها.

في دراسة حديثة نُشرت أغسطس 2023 في مجلة (ساينس)، درّب الباحثون شبكة عصبونية على ما يقارب 5000 مركب، إذ تألفت البيانات من مجموعتين رئيسيتين. تحتوي الأولى على مركبات العطور، أي الجزيئات التي تحمل روائح مختلفة، بينما تتضمن الثانية ملصقات تصف الروائح مثل فاكهي أو جبني.

وباستخدام هذه البيانات، تمكن الذكاء الاصطناعي من إنتاج ما يسمى بخريطة الرائحة الرئيسية، والتي أظهرت بصريًا العلاقات بين مختلف الروائح. وعندما اختبر الباحثون هذا الذكاء الاصطناعي بتعريضه لجزيء عطري جديد، تمكن البرنامج من التنبؤ وصفيًا بما ستكون عليه رائحته.

طلب فريق البحث من لجنة تتألف من 15 فردًا بالغًا (ينحدرون من خلفيات عرقية متنوعة ويعيشون بالقرب من فيلادلفيا) المشاركة في تجربة، إذ طُلب منهم شم نفس الرائحة ووصفها بالكلمات، وقد تبين أن الوصف الذي قدمته الشبكة العصبونية كان أفضل حقيقةً من وصف أفراد اللجنة العاديين في معظم الأحيان. وذلك وفقًا لما قاله أليكس ويلتشكو أحد الباحثين والرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة أوسمو، تعمل هذه الشركة على منح الحواسيب حاسة الشم وقد تعاونت مع باحثين من غوغل وجامعات أمريكية مختلفة في هذا العمل. يقول سانديب روبرت داتا، أستاذ علم الأعصاب في جامعة هارفارد: «إن الرائحة أمر شخصي للغاية».

عمل داتا سابقًا في أوسمو مستشارًا، ولكنه غير مشارك في الدراسة الجديدة.

وفقًا لذلك، إن أي بحث يتعلق بطريقة وصف للروائح وتسميتها، يجب أن ينوّه بحقيقة العلاقة المباشرة بين طريقة تمييز الروائح وربطها معًا، وبين الذكريات والثقافات، ما يوضح سبب صعوبة تحديد أفضل وصف لرائحة. ومع ذلك، توجد جوانب مشتركة للإدراك الشمي أُكِّدَ ارتباطها مباشرة بالكيمياء، وهذا ما تلتقطه خريطة الذكاء الاصطناعي.

يضيف داتا أنه من المهم ملاحظة أن هذا الفريق ليس الأول أو الوحيد الذي استخدم النماذج الحاسوبية للتحقيق في العلاقة بين الكيمياء والإدراك الشمي، إذ توجد شبكات عصبونية أخرى وكثير من النماذج الإحصائية التي دُرِّبت لمطابقة التراكيب الكيميائية مع الروائح، لكن في الحقيقة، إن إنتاج الذكاء الاصطناعي الجديد خريطة للروائح، وتمكنه من التنبؤ بروائح الجزيئات الجديدة، يعد أمرًا مذهلًا.

يقول أنانداسانكار راي (الذي يدرس حاسة الشم في جامعة كاليفورنيا ريفرسايد) في بريد الكتروني كتبه في عمله: «تنظر هذه الشبكة العصبونية بدقة إلى التركيب الكيميائي والروائح، لكن هذا لا يظهر مدى تعقيد التفاعلات التي تحدث بين المواد الكيميائية ومستقبلاتنا الشمية».

تنبأ راي أيضًا برائحة المركبات بناءً على أي من المستقبلات الشمية تنشطت، التي يبلغ عددها 400 تقريبًا عند البشر.

وأوضح أنه من المعلوم أن المستقبلات الشمية تستجيب لارتباط المواد الكيميائية بها، لكن العلماء لا يعرفون بالضبط ما هي المعلومات التي تنقلها هذه المستقبلات إلى الدماغ، أو كيف يفسر الدماغ هذه الإشارات، وأوضح أنه من المهم صنع نماذج تنبؤية مع أخذ علم الأحياء في عين الاعتبار.

إضافة إلى ذلك، ولمعرفة إلى أي مدى يمكن تعميم هذا النموذج، يشير راي إلى أنه كان يجب على الفريق اختبار الشبكة العصبونية على مجموعات بيانات إضافية منفصلة عن بيانات التدريب، ويضيف أنه حتى ذلك الحين لا نستطيع تحديد مدى فائدة هذا النموذج على نطاق واسع.

أضف إلى ذلك، لا تأخذ هذه الشبكة العصبونية بالحسبان إمكانية تغير تلقينا للرائحة مع اختلاف تراكيز الروائح، ومن الأمثلة المذهلة حقًا على ذلك أحد مكونات بول القطط الذي يسمى MMB، يقول داتا: «هذا المكون هو ما يجعل بول القطط كريه الرائحة … ولكنه بتراكيز منخفضة جدًا، تكون رائحته جذابة جدًا وقد تكون لذيذة، وهو موجود في بعض أنواع القهوة والنبيذ». ويضيف داتا أنه سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت النماذج المستقبلية ستأخذ ذلك في الحسبان.

من المهم التذكر عمومًا أن خريطة الرائحة الرئيسية هذه لا تشرح قدرة الدماغ على الإبحار في عوالم من المواد الكيميائية، وإعطاء استجابة مختلفة لكل تركيبة مختلفة، إذ يقول داتا: «يظل هذا لغزا عميقًا»، ويشير إلى أن الخريطة قد تسهل التجارب التي تساعد على فهم كيفية إدراك الدماغ للروائح.

يدرك ويلتشكو ومعاونوه محدودية خريطتهم، إذ يقول ويلتشكو: «هذه الشبكة العصبونية، قادرة على التنبؤ بجزيء واحد فقط في كل مرة، لكن عملية الشم لا تتم أبدًا بجزيء واحد فقط في كل مرة، بل تتم دائمًا باشتراك مزيج من الجزيئات».

من الزهرة إلى فنجان قهوة الصباح، معظم الروائح هي في الواقع مزيج من روائح مختلفة، ستكون الخطوة التالية للباحثين هي معرفة إن كانت الشبكات العصبونية قادرة على التنبؤ برائحة مجموعة المواد الكيميائية.

في النهاية، يتصور ويلتشكو عالمًا تكون فيه الرائحة قابلة للرقمنة بالكامل مثل الصوت والرؤية، ويأمل في المستقبل أن تتمكن الآلات من اكتشاف الروائح ووصفها، مثل إمكانيات تحويل الكلام إلى نص على الهواتف الذكية، أو على غرار الطريقة التي يمكن بها طلب أغنية معينة من مكبر صوت ذكي، ستستطيع تلك الآلات إصدار روائح معينة عند الطلب، ولكن يوجد الكثير الذي يجب القيام به قبل أن تصبح هذه الرؤية حقيقة، وفيما يتعلق بمهمة رقمنة الرائحة، يقول ويلتشكو: «هذه خطوة أولى وحسب».

اقرأ أيضًا:

قناع جديد قد يساعدنا على إرسال الروائح عبر تقنية الواقع الافتراضي

كم هو عدد الروائح التي يستطيع أنف الانسان تمييزها؟

ترجمة: يوسف الشيخ

تدقيق: نور حمود

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر