رصد علماء الفلك ظاهرة معتادة في الكون في 2017 لكنها فريدة إلى حد ما، إذ لاحظوا دخول جسم غريب عن المجموعة الشمسية بسرعة كبيرة إلى أقرب نقطة له من الشمس، وهو كويكب من منطقة مختلفة من المجرة وكأنه مراسل بين العوالم يبدو بشكل السيغار، وأسموه أومواموا التي تعني الكشّاف بلغة هاواي.

وقد استدل علماء الفلك على بعض خصائصه، كطبيعته الحجرية لأنه لم يشتعل كما يحدث مع المذنبات الجليدية عند اقترابها من الشمس، وأنه لم يصدر إشعاعات كهرومغناطيسية أيضًا لأن أقوى التلسكوبات الراديوية لم يجد له أثرًا، وأن مداره جاذبيّ الطبيعة نظرًا إلى انجذابه نحو الشمس «فهو جسم صغير غير ذي عطالة بحسب تأثير الضغط الإشعاعي جوار الشمس»، وأن سرعته قبل دخول النظام الشمسي تتوافق مع الشروط المعيارية لتحرك الأجسام ضمن مجرة درب التبانة من حيث السرعة، ما سمح باستثناء عشرات النجوم القريبة من مجموعتنا الشمسية بوصفها مصدرًا لقدومه، لأنه لو أتى منها لكانت سرعته أعلى بكثير. لكنهم حصروا أربعة نجوم مختلفة من المحتمل أنه قد مر بقربها قبل مليون سنة بسرعة كافية تسمح بأن يكون أحد هذه النظم النجمية مصدرًا له.

لكننا لا نعرف مصدره بالضبط، فهل مر بمجموعتنا الشمسية من قبل؟ وهل مر «أو أحد ملحقاته» بنظم نجمية أخرى؟ فوفقًا لإحدى الفرضيات قد يكون تشكل من أحد الانفجارات الناجمة عن تأثيرات مدّية، عندها سيكون أكثر ندرة من حزام الكويكبات أو أجسام سحابة أورت التي تشكلت مباشرةً من السديم الأصلي. ولكن المؤكد أن إجسامًا مثل أومواموا تمثل حلقة وصل بين النظم النجمية عند النظر إلى مقاييس زمنية من رتبة ملايين إلى عشرات الملايين من السنين، بل إن أحد التقديرات تتنبأ بعبور 10 آلاف كويكب في مدار نبتون كل يوم.

من المثير للاهتمام استكشاف هذا الكويكب لأنه من نوع يناسب نقل الحياة بحالة سبات من مجرة إلى أخرى. وبذلك لن تكون المهمات الفضائية لنقل الحياة مستحيلة مع إنها أبطأ بكثير عند مقارنتها بسرعة هذه الكويكبات، نظرًا إلى أن قدرتنا على رصد أمثال أومواموا ستتحسن كثيرًا في المستقبل. بينما تطرح فكرة أخرى أن بعض هذه الأجسام الخارجية علِقت في نظامنا الشمسي بعد خسارتها جزءًا من طاقتها عند مرورها قرب المشتري، وقد رشّح علماء الفلك بعضًا منها، وهذه المقاربة ستجعل مهمات الاستكشاف الخارجية أسهل.

لكن عمومًا ظاهرة التواصل بتبادل المواد ليست غريبة في الكون، فحتى الكواكب في مجموعتنا الشمسية تفعل ذلك بتواتر عال، حتى أن الأرض تحوي 10 عينات صخرية من المريخ، مع إنه لم تعد بعد مهمة فضائية من ذاك الكوكب بهذه المواد. والهطولات النيزكية على سطح المريخ تسمح بخروج هذه الأجسام إلى الفضاء بسبب غلافه الجوي الرقيق، وقد يبلغ بعضها الأرض مخترقًا غلافها الجوي لتسقط مثل النيازك العادية. وبمقارنة تركيبات مختلف النيازك مع ما ترصده مهام ناسا الروبوتية على المريخ، نستطيع تمييز النيازك من المريخ عن غيرها.

يجب ألّا ننسى أن نظامنا الشمسي يستغرق نحو 220 مليون سنة في الدوران حول مركز المجرة، وقد حقق نحو 20 دورة منذ تشكله قبل 4.5 مليار سنة، ما يعني أنه في أثناء ظهور الحياة على سطح الأرض كان نظامنا الشمسي حديث الولادة قد أكمل ثلاث دورات صادف خلالها الكثير من الأجسام من مختلف النظم النجمية الأخرى.

في مؤتمر حول «هجرة الحياة في الكون» في بيركلي عام 2019 كانت السمة العامة بأننا لا نعرف شيئًا عن الحياة في الكون ناهيك بهجرتها، لكن بالنظر إلى أمواموا يصبح الحديث المدهش معقولًا، فغالبًا لا تحتاج الحياة إلى سفن فضائية صخرية عملاقة للانتقال من نظام كوكبي إلى آخر، وبالنظر إلى ضآلة حجم البكتيريا بوصفها أصغر الكائنات الحية التي نعرفها، أو حتى الفيروسات التي تعيش وتتكاثر داخل البكتيريا، بوسعنا تخيل آليات أخرى مناسبة لهذا النوع من الانتقال.

فتستطيع كريستالات الجليد والغبار الميكروية مثلًا أن تتحمل ظروف الفضاء وأن تحتوي على البكتيريا والجراثيم، وقد تنتشر في الفضاء انطلاقًا من طبقات الجو العليا للكوكب. وعندما تصبح الأبعاد بهذا الصغر، تتفوق قوى الدفع «المعتمدة على الإشعاع النجمي ومساحة السطح» على قوى الجاذبية «التي تعتمد على الكتلة»، والأمر أشبه بأثر ضئيل يتركه الكوكب. وبفضل الإشعاعات قد يصل الغبار الكوكبي الذي يحوي حياة بحالة سبات إلى سرعات عالية تمكنه من التحرك خارج نظامه النجمي والانتشار في نظام نجمي آخر أو سديم تتوفر فيه ظروف التكاثر والتطور. وقد اعتدنا الظن بأن الفضاء واسع وخال غالبًا وغير مناسب للحياة، ولكن ربما يجب أن نغير رأينا، لأن الفضاء أقل خُلوًّا مما نظن. في الواقع تتواصل مختلف الأجزاء من المجرة بتبادل المواد على مدى زمني يكافئ زمن ظهور الحياة على كوكبنا.

لكن ما احتمال نجاة الحياة في الفضاء؟ يبدو أن الطبيعة تفاجئنا حتى هنا على الأرض، إذ توجد أنواع كثيرة من الحياة التي تتحمل ظروفًا شديدة كتلك الموجودة في الفضاء، ويتمثل ذلك بفراغ شبه تام ودرجات حرارة شديدة التطرف وإشعاعات مؤيّنة. بعض أنواع الأشنات والبكتيريا والجراثيم قادرة على النجاة بعد خسارة مياهها والدخول في حالة عدم نشاط تام تستطيع الدوام فترات طويلة جدًا، لتظهر منها مجددًا ما إن تجد نفسها في جو رطب. أُجريت هذه الاختبارات في مختلف المختبرات وعلى محطة الفضاء الدولية، وحتى العوالق التي تتكون من عُضيّات معقدة أظهرت قدرة على مقاومة الظروف القاسية.

يُعد «دب الماء» من الحالات الاستثنائية، فهو حيوان ميكروي بطول 0.5 ميليمتر يعيش في الماء، له 8 أرجل وفم وجهاز هضمي ونظام عصبي بسيط وبنية دماغية وقادر على التكاثر الجنسي. ويعيش في آلاف البيئات المختلفة ولكل منها خصائصها الاستقلابية، فللنجاة في ظروف الجفاف الطويلة يستطيع جسمه الوصول إلى حالة تجفيف كاملة يخسر فيها نحو 90% من الماء لينقلب إلى بنية صغيرة تشبه البرميل، وعند اكتمال عملية التجميد الجاف هذه يصبح معدل الاستقلاب عنده أبطأ بعشرة آلاف مرة، ومن المدهش أنه يستطيع الصمود بهذه الحالة طوال عقود ويستيقظ منها حالما يتعرض للرطوبة مدة 20-30 دقيقة. وإضافةً إلى ذلك، يستطيع دب الماء النجاة حتى في الفضاء الخالي حيث لا يوجد ضغط جوي ودرجة الحرارة تتراوح من الصفر المطلق إلى 150 درجة مئوية، ويستطيع تحمل إشعاعات بمستويات تفوق تحمل البشر بمئة مرة، والحمض النووي محمي ببروتين يقلل الضرر الإشعاعي. والسر وراء قدرته على التصلب هي سكر تريهالوز الذي نستخدمه كثيرًا في الصناعات الغذائية، فعند الجفاف يستبدل السكر بجزيئات الماء داخل الخلايا ليصبح دب الماء بحالة زجاجية.

فهل هذه المعلومات كافية لنفترض قدوم هذه الحيوانات الميكروية من الفضاء؟ ليس تمامًا، فمن المرجح أن استقلابها غير المعتاد نتج عن تطور حدث للتكيف على الأرض. في الواقع يُعد دب الماء من الكائنات الحية القليلة التي لم تتأثر بأحداث الانقراض الخمسة التي أصابت الأرض، ولهذا السبب ربما هم أفضل المرشحين لرحلة طويلة في الفضاء على متن كويكب أو مذنب. وقد نال هذا الكائن شهرة إعلامية بعد مهمة بريشيت التي تحطمت على القمر في أبريل 2019، لأن المسبار حمل مستعمرة من هذه الحيوانات الميكروية في حالتها الجافة، ونظرًا إلى حجمها الميكروي من المرجح أنها نجت من الاصطدام وستبقى بحالة عدم نشاط فترة طويلة وجاهزة للاستيقاظ من سباتها. ولو أن كويكبًا كان بدل هذا المسبار، لكان لدينا مثال ملموس لكيفية انتقال الحياة إلى الأرض. أو كيف يمكن انتقال الحياة من الأرض إلى كواكب المجرة.

ما زال سؤال أصل الحياة مفتوحًا، لكننا نقترب خطوة تلو الأخرى من تقديم إجابة، وقد سمحت القدرات الحسابية العالية في العقد الأخير بمحاكاة إنتاج أنظمة جزيئية متزايدة التعقيد بدءًا من أول مبدأ من ميكانيكا الكم وصولًا إلى آلاف الذرات، ويزدهر هنا «علم الأحياء المحوسب».

في الوقت ذاته نشهد تطورًا هائلًا في القدرة على فك تشفير الحمض النووي والتلاعب به إلى درجة إنشاء أول بنية جينية بسيطة قادرة على إعادة النسخ ومشتقة من كائنات حية، ونتحدث بذلك عن تركيب الحياة من حمض نووي من تصميم البشر، وهو مجال واعد ومتطور.

لذلك من المحتمل أن خلق البنى الجزيئية المعقدة التي تحتاج إليها الحياة، أو تأكيد وجود جزر من الاستقرار الجيني في تطور حياة البكتيريا أو الفيروسات، هدفان قابلان للتحقيق في المستقبل. وعندها سنمتلك أداة أخرى لفهم تطور الحياة على الأرض، ومن يدري، ربما سنكتشف أن الفضائيين ما هم سوى أشكال من الحياة البيولوجية التي عاشت معنا منذ بدء الزمن بينما كنا نبحث عنهم في المريخ أو تحت السطح الجليدي للمشتري أو أقمار زحل.

اقرأ أيضًا:

في ظل فوضى الكون، ما سبب بقاء الأرض منذ مليارات السنين إلى يومنا هذا؟ ما الذي يحمي كوكب الأرض؟

بحث جديد يفترض أن الحياة شائعة في جميع أنحاء الكون ، فقط ليس بالقرب منا

ترجمة: علي الذياب

تدقيق: محمد حسان عجك

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر