أصدرت جوجل ومتحف تاريخ الحاسوب (CHM) الشيفرة المصدرية لمشروع أليكس نت، وهو الشبكة العصبية الالتفافية (CNN) التي يُنسب إليها الفضل في إحداث نقلة نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي عام 2012، بعدما أثبتت قدرة التعلم العميق على تحقيق إنجازات عجزت عنها تقنيات الذكاء الاصطناعي التقليدية.
يُمثل التعلم العميق، الذي يستخدم شبكات عصبية متعددة الطبقات قادرة على تعلم تمثيلات هرمية مباشرة من البيانات دون الحاجة إلى برمجة صريحة، تحولًا جذريًا عن كثير من أساليب الذكاء الاصطناعي التقليدية السابقة التي اعتمدت على قواعد وميزات مُصممة يدويًا.
تتوفر الشيفرة المكتوبة بلغة بايثون الآن على صفحة متحف تاريخ الحاسوب (CHM) في GitHub بوصفها برنامجًا مفتوح المصدر، وتُتيح لعشاق الذكاء الاصطناعي والباحثين لمحة عن لحظة محورية في تاريخ الحوسبة.
شكّلت شبكة أليكس نت نقطة تحول في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ استطاعت تحديد الأجسام في الصور بدقة غير مسبوقة، فصنّفت الصور بدقة ضمن ألف فئة (مثل فراولة أو حافلة مدرسية)، مع معدل أخطاء أقل بكثير من الأنظمة السابقة.
وكما هو الحال عند مشاهدة دوائر إينياك الأصلية أو رسومات آلان تورينج لآلة تورينج، قد يُتيح فحص شيفرة أليكس نت للمؤرخين المستقبليين رؤية ثاقبة حول مساهمة هذا الخرق الموثق في تحفيز تقنية أعادت تشكيل عالمنا.
وبينما مكّن التعلم العميق من تحقيق تقدم في الرعاية الصحية، والبحث العلمي، وأدوات إمكانية الوصول، فقد سهّل أيضًا تطورات مقلقة مثل التزييف العميق، والمراقبة الآلية، وإمكانية فقدان الوظائف على نطاق واسع.
لكن في عام 2012، بدت تلك العواقب السلبية بالنسبة للكثيرين وكأنها محض أحلام من عالم الخيال العلمي البعيد. وبدلًا من التركيز على ذلك، كان الخبراء مذهولين من قدرة الحاسوب أخيرًا على التعرف على الصور بدقة تقارب دقة الإنسان.
تعليم الحواسيب الرؤية
يوضح متحف تاريخ الحاسوب (CHM) في منشور مفصل على مدونته أن مشروع أليكس نت نشأ من عمل طالبي الدراسات العليا في جامعة تورونتو، أليكس كريزيفسكي وإيليا سوتسكيفر، بإشراف أستاذهما جيفري هينتون. وقد أثبت المشروع أن التعلم العميق قادر على التفوق على أساليب الرؤية الحاسوبية التقليدية.
فازت الشبكة العصبية بمسابقة ImageNet لعام 2012 بقدرتها على التعرف على الأجسام في الصور بشكل يفوق جميع الطرق السابقة. وعندما حضر يان ليكون العرض التقديمي في فلورنسا بإيطاليا بوصفه الخبير المخضرم في مجال الرؤية الحاسوبية، أدرك أهمية أليكس نت فورًا، إذ ورد أنه وقف عقب العرض ووصف الشبكة بأنها: «منعطف حاسم لا لبس فيه في تاريخ الرؤية الحاسوبية». وكما أوضحت Ars في نوفمبر الماضي، فقد مثل مشروع أليكس نت نقطة التقاء ثلاث تقنيات محورية شكلت أساس الذكاء الاصطناعي الحديث.
وفقًا لمتحف تاريخ الحاسوب، بدأ المتحف جهوده للحصول على الشيفرة ذات الأهمية التاريخية في عام 2020، عندما تواصل أمين المتحف هانسن هسو مع كريزيفسكي بشأن إصدار الشيفرة المصدرية لما لها من قيمة تاريخية. وبعد استحواذ جوجل على شركة DNNresearch عام 2013، أصبحت مالكة حقوق الملكية الفكرية للشيفرة.
عمل المتحف مع جوجل طوال خمس سنوات للتفاوض على إصدار الشيفرة وتحديد النسخة التي تمثل التطبيق الأصلي لعام 2012 بدقة، وهو تمييز مهم بسبب وجود الكثير من النسخ المعاد إنتاجها على الإنترنت تحمل اسم أليكس نت، لكنها ليست الكود الأصلي الذي تحقق به هذا الإنجاز.
كيف عملت شبكة أليكس نت؟
مع إن تأثير أليكس نت في الذكاء الاصطناعي أصبح معروفًا الآن، فإن فهم الابتكار التقني الذي حققته الشبكة يوضح سبب كونها لحظة فارقة. لم يكن هذا الإنجاز نتيجة تقنية واحدة ثورية، بل ثمرة مزج جديد بين تقنيات مطورة سابقًا.
جمع المشروع بين ثلاثة مكونات: الشبكات العصبية العميقة، ومجموعات بيانات الصور الضخمة، ووحدات معالجة الرسوميات (GPUs). شكلت الشبكات العصبية العميقة الهيكل الأساسي لأليكس نت بطبقاتها المتعددة القادرة على تعلم سمات بصرية متزايدة التعقيد. وسُميت الشبكة باسم كريزيفسكي الذي تولى تنفيذ النظام وأجرى عملية التدريب المكثفة.
على عكس أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدية التي كانت تتطلب من المبرمجين تحديد السمات التي يجب البحث عنها يدويًا، تمكنت هذه الشبكات العميقة من اكتشاف الأنماط تلقائيًا على مستويات متعددة من التجريد، من الحواف البسيطة والإكساء في الطبقات المبكرة إلى أجزاء الكائنات المعقدة في الطبقات الأعمق.
بينما استخدمت أليكس نت بنية الشبكات العصبية الالتفافية (CNN) المصممة لمعالجة البيانات الشبكية كالصورة، تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية مثل ChatGPT وClaude بشكل أساسي على نماذج المحوّل (Transformer) التي اخترعتها جوجل عام 2017. وتتميز هذه النماذج بقدرتها على معالجة البيانات المتسلسلة والتقاط التبعيات بعيدة المدى في النصوص وغيرها من الوسائط عبر آلية تُعرف بالانتباه.
لتدريب الشبكة، استخدمت أليكس نت قاعدة بيانات ImageNet، التي أسستها الأستاذة بجامعة ستانفورد، فاي-فاي لي عام 2006. إذ جمعت لي ملايين الصور من الإنترنت، ونظمتها باستخدام قاعدة بيانات WordNet. وساعد العاملون على منصة Amazon Mechanical Turk في تصنيف الصور.
احتاج المشروع قوة حاسوبية هائلة لمعالجة البيانات. إذ أجرى كريزيفسكي عملية التدريب على بطاقتي رسومات من إنفيديا مثبتتين في حاسوب بغرفته في منزل والديه.
تُجري الشبكات العصبية العديد من عمليات حساب المصفوفات بالتوازي، وهي مهام تنفذها شرائح الرسوميات بكفاءة. وكانت إنفيديا بقيادة جينسن هوانغ قد أتاحت برمجة شرائحها الرسومية لمهام غير رسومية عبر برنامج CUDA الذي أطلقته عام 2007.
يمتد تأثير أليكس نت إلى ما هو أبعد من الرؤية الحاسوبية وحدها. إذ تشغّل الشبكات العصبية العميقة الآن أنظمة توليد الصوت، وأنظمة الألعاب، ونماذج اللغة، ومولدات الصور. وهي مسؤولة أيضًا عن آثار قد تهز استقرار المجتمعات، كملء الشبكات الاجتماعية بمحتوى مولد بالذكاء الاصطناعي، وتمكين المتنمرين المسيئين، وربما إعادة تشكيل السجل التاريخي.
أين هم الآن؟
اتجه مبتكرو أليكس نت في مسارات مختلفة، وأسهم كل منهم في المجال بطرق فريدة. فبعد نجاح أليكس نت، أسس كريزيفسكي وسوتسكيفر وهينتون شركة DNNresearch Inc.، التي استحوذت عليها جوجل عام 2013. ومنذ ذلك الحين، سلك كل عضو في الفريق طريقًا مختلفًا.
فقد شارك إيليا سوتسكيفر في تأسيس OpenAI عام 2015، التي أصدرت ChatGPT عام 2022، وأطلق مؤخرًا الشركة الناشئة (Safe Superintelligence) أو SSI التي جمعت تمويلًا قدره مليار دولار.
بينما غادر كريزيفسكي جوجل عام 2017 للعمل على تقنيات تعلم عميق جديدة في شركة Dessa.
وقد اكتسب هينتون شهرة واسعة لتحذيراته من المخاطر المحتملة لأنظمة الذكاء الاصطناعي المستقبلية، واستقال من جوجل عام 2023 ليتحدث بحرية عن هذه القضية. وفي العام الماضي، أذهل المجتمع العلمي بفوزه بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024، إلى جانب جون ج. هوبفيلد، تقديرًا لعملهما التأسيسي في مجال التعلم الآلي الذي يعود إلى أوائل ثمانينيات القرن العشرين.
وعن الفضل في مشروع أليكس نت، وصف هينتون أدوار الفريق بروح دعابة خلال لقاء مع متحف تاريخ الحاسوب قائلًا: «ظن إيليا أننا يجب أن ننجزه، نجح أليكس، أما أنا… فحصلت على جائزة نوبل».
اقرأ أيضًا:
هل فقدنا السيطرة؟ الذكاء الاصطناعي ينسخ نفسه ويصدم العلماء!
الذكاء الاصطناعي في مواجهة العقل البشري: من الأذكى حقًا؟
ترجمة: لور عماد خليل
تدقيق: مؤمن محمد حلمي
مراجعة: محمد حسان عجك