من الفطرة البشرية أن يحاول الفرد تجنب المواقف التي تسبب له المعاناة، وأن يحاول قدر الإمكان أن يجعل حياته سلسةً ومريحةً. ولكن للمفارقة، أشارت الكثير من الأبحاث إلى أن المعاناة والصدمة قد يخلّفان آثارًا إيجابيةً طويلة الأمد. فيصبح الإنسان الذي سبق وأن مر مثلًا بصدمة شديدة أكثر عمقًا وصلابةً.

وحتى أن تغييرًا مفاجئًا وجذريًا قد يضيف معنًى إلى حياته ويجعلها هادفةً. أشار بحث إلى أن ما بين النصف والثُلث من الناس تقريبًا يختبرون نضوجًا هائلًا في الشخصية بعد التعرض لأحداث مؤلمة وصادمة؛ مثل الفقدان (فقدان شخص عزيز مثلًا) أو الإصابة بمرض خطير أو التعرض للحوادث أو الطلاق، إذ يشعرون مع مرور الوقت بإحساس جديد من القوة الباطنية والثقة بالنفس والامتنان للحياة والناس من حولهم. ويطورون علاقاتٍ حقيقية وأكثر حميمةً، ومنظورًا أوسع نطاقًا يصاحبه شعور أوضح لما هو مهم في الحياة وما هو أقل أهميةً. يُشار إلى ذلك في علم النفس بـ «نضوج ما بعد الصدمة».

بحث ستيف تايلور محاضر علم النفس الأول في جامعة ليدز بيكيت طوال الـ 15 عامًا الماضية في نوع جذري من نضوج ما بعد الصدمة أُطلق عليه «التحول عبر الاضطراب»، وهو يصيب الجنود أحيانًا في ساحة الحرب أو نزلاء معسكرات الاعتقال الذين يكونون على حافة المجاعة أو الأشخاص الذين مروا بفترات حادة من إدمان المخدرات أو الاكتئاب أو الفقدان أو المرض.

صرح أشخاص عن شعورهم بأنهم يتخذون هويةً جديدةً، فيتكثف وعيهم ويتوسع إلى حدٍ بالغ مصحوبًا بشعور قوي بالعافية. فيبدو العالم من حولهم أكثر واقعيةً وجمالًا من ذي قبل؛ نظرًا لشعورهم بأنهم أكثر ترابطًا بالناس والطبيعة.

الاستفاقة من الصدمة

يتناول ستيف في كتابه الجديد «صحوات استثنائية» بعض هذه الحالات، ويبحث عما يمكننا الاستفادة منه من تلك التحولات، وكيف يمكننا استثمارها لتنمية ذاتنا. فمثلًا خضع شخص يُدعى أدريان للتحول عبر الصدمة حين كان يقضي فترته في السجن في قارة أفريقيا، دون أدنى فكرة عن موعد خروجه من السجن جالسًا في زنزانته الضيقة التي قضى فيها 23 ساعةً من يومه، بدأ أدريان في التفكير مليًا في حياته، تاركًا ماضيه خلفه، متخليًا عن أي شعور يراوده بالفشل وخيبة الأمل. لزم صحبته في الزنزانة تمثال لبوذا (مؤسس الديانة البوذية)، جلبه معه منذ رحلاته حول آسيا، فأخذ يركز انتباهه على هذا التمثال لأوقات طويلة بمثابة نوع من التأمل العفوي حتى بدأ يشعر بالسلام الداخلي على مدار الأسابيع التالية؛ حتى واجه تغييرًا مفاجئًا، وصرح: «كان الأمر بمثابة النقر على محول… كان شعور مطلق بالتحرر والخلاص والتقبُّل لكل شيء وأي شيء كان على وشك الحدوث. قد كان تحررًأ من اللوم والقلق والغضب والغرور. لثلاثة أيام كنت في حالة من شعور يمكنني وصفه على أفضل وجه بالنعمة. خفت حدته فيما بعد، ولكنه ظل باقيًا في أعماقي».

مرت امرأة تدعى إيف بتجربة مماثلة من التحول عبر الصدمة. كانت تشعر بمعاناة نفسية وجسدية بعد 29 عامًا من إدمان الكحول وحاولت الانتحار. لم تلبِ محاولة إيف مغزاها، ولكن جلبت المواجهة مع الموت بعض التغيير إلى حياتها، وتلاشى لديها الشعور المُلح بالرغبة في شرب الكحول. شعرت إيف بشعور مختلف كثيرًا إلى حد صاغته لي بقولها: «نظرت إلى نفسي في المرآة ولم أعرف نفسي».

شعرت إيف بالتحرر رغم حيرتها بعض الشيء فيما يتعلق بتحولها، وتزايد وعيها وشعورها بالامتنان والارتباط (بما حولها). الآن لم تعد تشعر إيف بالرغبة في الشرب مجددًا وأقلعت عن شرب الكحول إلى حد الثمالة لـ 10 أعوام.

انهيار الهوية بعد الصّدمة

يجدر بالذكر أن التحول عبر الصدمة لا يتعلق بالأمور الدينية، فهي تجربة نفسية جوهريًا، مرتبطة بانهيار الهوية الشخصية. يحدث ذلك حسب رأيي بزوال الروابط النفسية؛ مثل الأمل والطموحات والأحلام والمعتقدات والمكانة والأدوار الاجتماعية والممتلكات. تدعم هذه الروابط شعورنا الطبيعي بذاتنا وهويتنا، فتنهار هويتنا بتلاشيها. عادةً ما تكون التجربة مؤلمةً، ولكن يبدو أنها تسمح بظهور هوية جديدة لبعض الأشخاص. ويشير بحثي إلى أن تغيير تبعي وعميق جذريًا كهذا يستمر عادةً لفترة غير محددة، وهذا أحد الأسباب التي تجعلني لا أؤمن بتفسير تلك الظاهرة على أنها خداع للذات أو الانفصال عنها؛ وهي عملية ذهنية ينفصل عبرها الفرد عن أفكاره ومشاعره وهويته.

يكشف التحول عبر الاضطراب عن القدرة الهائلة التي تكمن في الإنسان ومرونته إلى حد التكيف مع التغييرات التي تطرأ بداخله، وهو الأمر الذي نغفل عنه حتى نقع في طريق التحديات والأزمات. ويتلخص القول أنه في صدد انهيارنا قد يثير الاضطراب والصدمة يقظتنا.

اقرأ أيضًا:

ماهي الصدمة؟ وكيف نتعامل معها؟

اضطراب ما بعد الصدمة: الأسباب، الأعراض، التشخيص، والعلاج

ترجمة: سامية الشرقاوي

تدقيق: إيناس خير الدين

مراجعة: آية فحماوي

المصدر