تفشى الطاعون أو الموت الأسود في أوروبا بين عامي 1346 و1353، غير أن جائحات هذا المرض المميت لم تتوقف في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. من الحقائق الأكثر شيوعًا عن مرض الطاعون في أوروبا أنه انتشر بواسطة الجرذان، لكن هل هذا ما حدث حقًا؟

تسبب البكتيريا اليرسينية الطاعونية مرض الطاعون، في بعض مناطق العالم تعيش البكتيريا طويلًا في القوارض البرية والبراغيث التي تصيبها، لذا تُعد هذه الحيوانات «المستودع الطبيعي» لبكتيريا الطاعون.

مع أن دورة مرض الطاعون تبدأ عادةً بالقوارض، فإنه ينتشر أحيانًا إلى البشر. من المصادر المحتملة لجائحات الطاعون الحيوانات التي كانت تعيش في أوروبا، لكن من المحتمل أيضًا أنه قد انتشر مرارًا من آسيا، ولا يزال العلماء غير متيقنين مما حدث فعلًا بين هذين الاحتمالين.

أظهرت دراسة حديثة أن الظروف البيئية في أوروبا كانت لتمنع استمرار الطاعون في الحيوانات المضيفة على المدى الطويل، إذن كيف صمد الطاعون في أوروبا طوال تلك السنين؟

تطرح الدراسة احتمالين: الأول أن الطاعون انتشر إلى أوروبا من حيوانات آسيوية، الثاني أن الطاعون عاش لدى الحيوانات المضيفة في أوروبا على المدى المتوسط والقصير. من المحتمل أن ما حدث فعلًا هو مزيج بين الاحتمالين.

الانتشار السريع لمرض الطاعون والجائحات التي سببها خلال القرون اللاحقة تشير إلى أن الجرذان غالبًا لم تكن الناقل الرئيسي للمرض كما ظننا، إذ إن تحركات الجرذان أبطأ من أن تنقل المرض بهذه السرعة.

المناخ الأوروبي:

فحص الباحثون عدة عوامل للتحقق من قدرة الطاعون على الاستمرار عند الحيوانات المضيفة على المدى الطويل في أوروبا، مثل خصائص التربة والمناخ وأنواع القوارض والتضاريس، إذ تؤثر جميع هذه العوامل في إمكانية استمرار الطاعون في الحيوانات المضيفة.

مثلًا، يُعد الأس الهيدروجيني المرتفع، والتركيزات العالية لبعض العناصر في التربة مثل النحاس والحديد والمغنيسيوم، ودرجات الحرارة المخفضة، والتضاريس المرتفعة، وندرة الأمطار، ظروف مواتية لوجود الحيوانات المضيفة باستمرار، مع أن السبب الدقيق غير معروف حتى الآن.

أجرى الباحثون تحليلًا للمقارنة، ووجدوا أن احتمالية استمرار مرض الطاعون لدى القوارض البرية على مدار قرون كانت أضعف خلال الفترة من 1348 إلى بداية القرن التاسع عشر مقارنةً بالوقت الحالي، إذ تستبعد البحوث الشمولية وجود هذه الحيوانات في أوروبا، بخلاف الحال في الصين وغرب الولايات المتحدة، حيث تتوفر الظروف البيئية الملائمة للحيوانات الحاملة لبكتيريا الطاعون.

أيضًا، كان بإمكان الطاعون أن يستمر في القوارض المضيفة لآلاف السنين في أواسط آسيا. تشير عينات الحمض النووي والنصوص القديمة إلى أن الطاعون انتشر سابقًا إلى أوروبا من أواسط آسيا، ويبدو أنه استقر لدى القوارض البرية على المدى القصير أو المتوسط، وهو ما حدث غالبًا في أواسط أوروبا.

لكن نظرًا إلى أن التربة المحلية والظروف المناخية لم تكن مواتية لاستمرار الطاعون عند القوارض الأوروبية على المدى الطويل، فقد أُعيد استقدام المرض.

هذان الاحتمالات غير متناقضين بالضرورة، إذ إن من المحتمل أن كلاهما قد حدث في الوقت ذاته.

الاختلافات الجذرية بين موجات الطاعون:

قارن الباحثون بين جائحات مرض الطاعون المختلفة للتعمق في دراسة دور الجرذان في نشر المرض في أوروبا. بدأت جائحة الطاعون الأولى في بداية القرن السادس واستمرت حتى نهاية القرن الثامن، أما الجائحة الثانية التي سُميت «الموت الأسود» فبدأت في ثلاثينيات القرن الرابع عشر واستمرت خمسة قرون، وبدأت الجائحة الثالثة عام 1894 وهي مستمرة إلى يومنا هذا في بعض مناطق العالم مثل مدغشقر وولاية كاليفورنيا.

أصيبت الغالبية الساحقة من الحالات في هذه الجائحات بالطاعون الدبلي، الذي تصيب فيه البكتيريا الجهاز اللمفاوي عند البشر، بخلاف الطاعون الرئوي الذي يصيب الرئتين.

يختلف الطاعون المسبب للجائحة الثانية عن الجائحات الأحدث من ناحية الخصائص والانتقال، ومن أبرز الاختلافات معدل الوفيات الذي بلغ 50% من الحالات في الجائحة الثانية، في حين بالكاد يصل إلى 1% في الجائحة الثالثة، وكانت معدلات الوفيات خلال الجائحة الثالثة أكثر انخفاضًا في أوروبا.

يكمن الاختلاف الثاني في طرق انتقال الطاعون ومعدلات انتشاره بين الجائحتين الثانية والثالثة، إذ توجد فروقات كبيرة في سرعة نقل البضائع والحيوانات والبشر بين أواخر العصور الوسطى والوقت الحالي، مع ذلك انتشر الموت الأسود ومعظم موجات الطاعون التي تلته بسرعة مدهشة، إذ انتشر يوميًا بمعدل انتشار الجائحات الحديثة السنوي.

بناءً على ما ورد من المؤرخين والأطباء والوثائق، اتضح أن مرض الطاعون في الجائحة الثانية انتشر بمعدل أسرع وعلى نطاق أوسع من أي مرض آخر خلال العصور الوسطى، بل ظل المرض الأسرع انتشارًا على الإطلاق حتى جائحة الكوليرا عام 1830، ووباء الإنفلونزا بين عامي 1918 و1920.

بصرف النظر عن كيفية بدء موجات الجائحة الثانية في أوروبا، فإن من المعروف أن القوارض البرية تتحرك بوتيرة أبطأ بكثير من أن تنقل المرض بهذه السرعة، لا سيما الجرذان.

الاختلاف الثالث يتمثل في الكثير من التباين في الطبيعة الموسمية لمرض الطاعون، إذ تماشت موجات الجائحة الثالثة مع دورات الخصوبة لدى براغيث الجرذان، ويزداد معدلها عندما تتراوح درجات الحرارة بين 10 و25 درجة مئوية، وفي الظروف الرطبة نسبيًا، مع أن الطاعون يتطلب معدل هطول أمطار منخفض ليستوطن الحيوانات المضيفة.

بالمقابل، تمكن الطاعون خلال الجائحة الثانية من الصمود خلال أشهر الشتاء، مثلما حدث في منطقة البلطيق بين عامي 1709 و1713، أما في مناخ البحر المتوسط منذ عام 1348 حتى القرن الخامس عشر، فقد كان الطاعون مرضًا صيفيًا يبلغ ذروته خلال شهري يونيو ويوليو، عندما يكون المناخ جافًا وحارًا.

ذلك على عكس توقيت انتشار الطاعون في المناطق ذاتها خلال القرن العشرين، فنظرًا إلى انخفاض الرطوبة وارتفاع درجات الحرارة، أصبح الطاعون أقل انتشارًا بين الجرذان والبشر خلال تلك الأشهر.

تثير هذه الفروقات سؤالًا مهمًا: هل اعتمد انتقال الطاعون الدبلي على الجرذان التي تتحرك بوتيرة بطيئة رغم قدرته على الانتقال بفعالية أكبر بين البشر مباشرةً؟ يتوقع العلماء إمكانية حدوث ذلك بواسطة الطفيليات الخارجية مثل البراغيث والقمل، أو عبر الإفرازات التنفسية واللمس.

يتطلب كشف دور البشر والجرذان بدقة في جائحات الطاعون السابقة المزيد من البحث، لكن تبين لنا الدراسة الحالية أن تعاون العلماء والمؤرخين على حل ألغاز الماضي يساعد على اختصار الطريق.

اقرأ أيضًا:

كيف كان يعالج الطاعون في القرون الوسطى؟

دراسة تقترح الأصل الحقيقي للطاعون الأسود

ترجمة: رحاب القاضي

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: نغم رابي

المصدر