في عالم يتسم فيه كل شيء تقريبًا بالتغيّر، ويشار لمعظم متغيراته بأنها دلالة على التطور، فلا بد أن يطال العمل شيئًا من هذا التغيير، فهل نستطيع قول أن تخفيض ساعات العمل هو علامة على التقدم؟

منذ القرن التاسع عشر بدأ عدد ساعات العمل بالانخفاض في البلدان المتقدمة. وظهر أسبوع العمل المكون من أربعة أيام في التسعينيات بوصفه مطلبًا سياسيًا واقتصاديًا لتقسيم العمل بطريقة أكثر مساواة، وكانت الفكرة هي تقليل عدد ساعات العمل ليتمكن المزيد من الناس من الحصول على عمل.

وضع هذا النهج الاقتصادي الفرنسي بيير لاروتورو عام 1993 واختبرته فرنسا عام 1996 مع قانون دي روبين بشأن تنظيم ساعات العمل. بينما دافع كبار رجال الأعمال مثل أنطوان ريبود (الرئيس التنفيذي لشركة دانون المتعددة الجنسيات للمنتجات الغذائية) عن الفكرة بوصفها وسيلة لتعزيز التوظيف. لكن القانون أُلغي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع إصلاح العمل الذي أدخل نظام العمل بـ 35 ساعة في الأسبوع. وفي ألمانيا اعتمدت شركة فولكس فاجن نظام الأسبوع المكون من أربعة أيام عام 1994 لإنقاذ ثلاثين ألف وظيفة، ثم تخلت عنه عام 2006.

ومن زاوية أخرى أدت أزمة كوفيد وعمليات الإغلاق المرتبطة بها إلى إعادة هذا النقاش إلى دائرة الضوء، فقد أدى اعتماد العمل من المنزل على نطاق واسع، واستخدام التقنيات الجديدة وزيادة المرونة، إلى إحداث تغيير جذري في الطريقة التي نعمل بها. وقد عززت هذه الفترة أيضًا رغبة الموظفين في تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة. ونتيجة لذلك، فإن 56% من الموظفين البريطانيين يوافقون على كسب أموال أقل مقابل الحصول على مزيد من وقت الفراغ.

على هذه الخلفية يعود النقاش حول أسبوع الأيام الأربعة إلى الظهور من جديد، فبلدان آسيا وأوقيانوسيا تبحث عن طرق لتنظيم القوى العاملة لديها من أجل إعادة إشراك موظفيها، وفي نيوزيلندا أدخلت الحكومة أسبوعًا مكونًا من أربعة أيام في نهاية الوباء لتعزيز الإنتاجية وتحسين التوازن بين العمل والحياة. وفي اليابان، انضمت كثير من الشركات أيضًا مثل هيتاشي ومايكروسوفت. يعد هذا الإجراء الذي كان وسيلة لمكافحة ثقافة الإرهاق فرصة لتحسين الإنتاجية (بنسبة 40% في حالة مايكروسوفت).

تحذو أوروبا حذوهم، بدءًا بدول شمال أوروبا، تليها المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا… إلخ. ومن الممكن أن يتخذ هذا الإصلاح أشكالًا مختلفة وكل منها يطرح تساؤلات وتحديات مختلفة.

أسبوع من أربعة أيام أم أسبوع مضغوط في أربعة أيام؟

النهج الأول هو الأكثر شعبية، ففيه عدد ثابت من ساعات العمل ويتركز على مدى أربعة أيام. وهذا هو النموذج الذي تطبقه بلجيكا ودول الشمال. وفي خريف 2022، أصدرت بلجيكا قانونًا بشأن أسبوع العمل المكون من أربعة أيام يسمى (صفقة التوظيف)، إذ يستطيع الموظفين العمل أربعة أيام دون أي تخفيض في الراتب لأن وقت عملهم الأسبوعي يظل كما هو.

في إيطاليا، يفعل بنك انتيسا سان باولو الشيء نفسه. وفي فرنسا اقتُرح محاولة ذلك في مارس 2023 على موظفي أورساف بيكاردي، لكنها باءت بالفشل التام، والسبب هو الأبوة، إذ لم تعد الأيام الطويلة تسمح للآباء باصطحاب أطفالهم من المدرسة وإليها.

عمل أقل، عمل أفضل

النهج الثاني يُعد الحل المثالي لأسبوع مكون من أربعة أيام، أي أسبوع مكون من 32 ساعة، أي ساعات عمل أقصر بفضل زيادة الإنتاجية، وقد نُفّذ ذلك في جنوب أوروبا (إسبانيا والبرتغال).

تعتمد هذه الصيغة على فكرة الحفاظ على إنتاجية العمل بتحديد الوقت غير المنتج وتقليله، وتبسيط بعض العمليات، سيما إعداد التقارير والمشاركة في الاجتماعات. العمل أقل نعم، ولكن قبل كل شيء العمل بطريقة أفضل.

وفي الواقع، هذا من شأنه أن يحد من كل ما يُعد غير ضروري، لكن وضع المنظومة وفق هذا الخيار قد يقلل من قدرتها على التكيف مع التغيرات السريعة في بيئتها. فنعلم الآن مثلًا أن أوقات التوقف تسهّل تبادل المعلومات بين الفرق.

وهذا النهج متأصل بعمق في فكرة مفادها أن التكنولوجيا ستعوض عن أي خسارة في الإنتاجية، وهو موضوع متكرر منذ نشر كاتب المقالات الأمريكي جيريمي ريفكين كتاب: (نهاية العمل) عام 1995. لقد أدى وصول الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى إعادة المفهوم إلى الواجهة، حتى أن بيل جيتس يتحدث عن الوصول الوشيك للأسبوع المكون من ثلاثة أيام.

منذ ظهور العالم الصناعي سعت المنظمات باستمرار إلى تحسين وقت العمل. وكانت ببساطة تواكب خط الإنتاج سنوات عديدة، فكان الوقت المقضي في العمل ووقت العمل مترادفين تمامًا. اليوم، لم يعد علينا الذهاب إلى المكتب للعمل، لقد انتقل العمل إلى مساحاتنا الشخصية. لقد أصبح الوقت المقضي في العمل منفصلًا عن وقت العمل. في الأسبوع المكون من أربعة أيام، يكون الهدف هو تأطير العمل من حيث الزمان وليس المكان.

نحو نموذج عمل جديد؟

بدلًا من التركيز على عدد ساعات العمل، ألا ينبغي أن نتحدث عن طبيعة العمل ذاتها؟ وعلى حد تعبير الخبير الاقتصادي تيموثي باريك، نحتاج إلى التوقف عن التنبؤ بمستقبل العمل بأفكار مثل أسبوع العمل المكون من أربعة أيام، والبدء في اختراع عمل المستقبل.

تسلط مجموعة متزايدة من الأبحاث (سيما أعمال عالم الأنثروبولوجيا ديفيد جريبر) الضوء على فقدان المعنى في العمل، وصعود (الوظائف التافهة) و (ثورة أعلى الطبقة)، إذا استعرنا عنوان الصحفي جان لوران كاسيلي.

من المؤسف أن إعادة تنظيم ساعات العمل لن تكون كافية لإعادة إشراك القوى العاملة ولا تستطيع تقديم الحافز الذي يأمله المديرون. قد يؤدي ذلك فقط إلى تخفيف استياء الموظف، إذ يحتاج كبار المسؤولين إلى تفعيل (عوامل تحفيزية) حقيقية لتكون مصدرًا للرضا الشخصي والرضا، مثل تقييم العمل المنجز، أو استقلالية الموظفين، أو جعل مهام العمل أكثر إثارة للاهتمام.

ربما نحتاج إلى إنشاء يوتوبيا جديدة للعمل على غرار كتاب (الإيكوتوبيا: دفاتر وتقارير ويليام ويستون) لإرنست كالينباخ 1975، إذ تصور انفصال ثلاث ولايات في الساحل الغربي عن الولايات المتحدة لتأسيس أسلوب حياة بيئي جذري.

يتخيل كالينباخ في كتابه نموذجًا جديدًا للمجتمع يعمل الناس فيه 22 ساعة فقط في الأسبوع، وتصور هذه المدينة الفاضلة الاقتصادات التي تُخصص فيها نسبة كبيرة من الساعات المتاحة للأنشطة الاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية، وتدعو إلى تحقيق الإنجاز الشخصي والجماعي قبل النجاح الفردي. تتم إدارة الأعمال التجارية ذاتيًا، والنقل العام مجاني، والتعليم والصحة في متناول الجميع، والعنف الإجرامي غائب، والدخل الشامل ساري المفعول وإعادة التدوير، والرصانة وتراجع النمو هي القاعدة.

أراد كالينباخ أن يعطينا لمحة عن عالم يعتقد أنه أفضل، ليس فقط للبيئة، ولكن أيضًا للتوازن الفردي لكل شخص. بما أننا نعيش حياة أطول من أي وقت مضى، وبما أن العمل يشغل وقتًا أقل في حياتنا، فنحن بحاجة إلى أن نتخيل، ليس طريقة جديدة للعمل، بل طريقة جديدة للحياة.

اقرأ أيضًا:

هل يستطيع الاقتصاد الأمريكي تجنب الركود عام 2024؟

ما الذي سيشعل سوق السلع عام 2024

ترجمة: دياب حوري

تدقيق: حُسام الدِّين طَلعَت

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر