من الصعب الفوز بالنقاشات في أيامنا هذه، إذ قد تقدم نتائج الدراسات العلمية، وبراهين تاريخية وحتى بعض الصور والفيديوهات التي تعزز وجهة نظرك، ومع ذلك تبقى غير قادر على تغيير آراء بعض الناس قيد شعرة، ومنهم من يملك أفكارًا غريبة، مثل الإيمان بتسطح الأرض، أو نظرية المؤامرة بشأن وفاة إيفريل لافين (نعم، يوجد حقًا نظرية بهذا الخصوص). فهل سبق أن تساءلت عن سبب رفض البعض تغيير معتقداتهم، بصرف النظر عن مدى غرابتها، حتى عند مواجهتهم بحقائق ملموسة ثابتة ومؤكدة؟ في الحقيقة، إنه خطأ المنطق المُحفّز motivated reasoning، وكلنا مذنبون باتباعه.

المنطق المُحفَّز.. السبب وراء خسارة الجدل المدعوم بالأدلة - المنطق المُحفّز - الفوز بالنقاشات - تصديق نظريات المؤامرة والأفكار الغريبة

الجدال مع متحجري الفكر

لاحظت الباحثة في علم النفس ليون فيتسنغر، سنة 1965، أن الناس يصلون غالبًا إلى الاستنتاجات التي يريدون الوصول إليها. قد يبدو الأمرًا بديهيًّا، لكن أدمغتنا تبذل مجهودًا ضخمًا لحملنا على تصديق هذه الاستنتاجات، فما أن نرغب بتصديق أمر ما حتى نشرع في البحث عن أدلة تثبته، وما أن نجد أحدها -وإن كانت براهين واهية أو زائفة- نعطي أنفسنا أمرًا بالتصديق، فما هو إلا مبرر يسمح لنا بإيقاف إعمال العقل.

تُعرف هذه الظاهرة (ظاهرة اتخاذ القرار المنحاز المتأثر بالأهواء) بالمنطق المحفز، وتعتمد على أن الحدس والعواطف والدوافع تتفوق على البراهين والحقائق. وقد عبر الباحث في علم النفس الاجتماعي جوناثان هايت عنها بقوله: «تشبه عملية المحاكمة العقلية عمل محام يدافع عن عميله، أكثر مما تشبه دور قاض أو عالم باحث عن الحقيقة».

وقال الدكتور ستيفن نوفيلا: «إن كنت مؤمنًا مُحفَّزًا، فما من طريقة تمكنني من تقديم أي معلومة لتغيير معتقدك، لكن بصيرتك في وقت ما ستنفذ لتصل إلى ذاتك الداخلية، وإلا ستستخدم كل الأدوات لتقوية إيمانك الذي قررت اعتماده في المقام الأول. يجب عليك في لحظة ما أن تواجه ذاتك المصدقة».

تصعب المغالاة في قوة المنطق المُحفّز ، ففي دراسة أجريت عام 1986، اختار أفراد ممن حققوا نقاطًا قليلة في اختبار الذكاء قراءة مقالات تهاجم صحة اختبارات الذكاء، وعارضوا تلك التي تؤكد صحة الاختبارات. وفي دراسة معنية باختبار الصحة أجريت عام 1992 ابتدع المشاركون ممن واجهوا تنبؤات غير مرغوبة أسبابًا عدة تنتقد دقة نتائج الدراسة أكثر مما فعل المشاركون الأكثر صحة.

بل إن المنطق المُحفّز يؤثر في ما يراه الأفراد ماديًّا، إذ كان الخاضعون لدراسة أجريت عام 2006 أكثر قابلية لتحليل الرموز المبهمة التي عُرضت أمامهم على أنها أحرف أبجدية أكثر من تفسيرها بأنها أرقام بعد تحفيزهم للقيام بذلك.

يقول هايت في كتابه المهم (العقل القويم: لماذا ينقسم الناس الطيبون حول السياسة والدين): «الآن ومع إمكانية الوصول إلى محركات البحث من الهواتف الخلوية، يمكننا على مدار الساعة استحضار آراء فريق من العلماء لدعم أي استنتاج تقريبًا، مهما كان رأيك في أمور كمسببات الاحتباس الحراري أو شعور الأجنة بالألم، ما عليك إلا أن تستخدم غوغل لتجد ما يدعم اعتقادك، العلم مائدة مفتوحة أمام الجميع، وستعثر على الدراسة التي تلائمك».

هل خطر ببالك أنك أذكى من أن تقع في خطأ المنطق المُحفّز ؟ فكر من جديد! يقول نوفيلا: «من المثير للسخرية أن الأذكياء أفضل في استخدام المنطق المُحفّز ، فإن كان تحصيلك العلمي أعلى وكنت على اطلاع علمي وتفكير نقدي، فهذا يعزز من تفكيرك المحفز».

دليل المشكك إلى المنطق المُحفّز

إذا كان الأذكياء يقعون في فخ المنطق المُحفّز، وأصبح من الأسهل إيجاد البراهين التي تؤكد صحة مزاعمنا، فكيف نكافحه إذن؟ نشأت العديد من النظريات المتعلقة بمجادلة من يستخدمون المنطق المُحفّز ، ويبدو المنهج السقراطي خيارًا حتميًّا، فإذا كنت راغبًا في تجنب المنطق المُحفّز، فعليك بمبدأ التشكك العلمي، مع أنه ليس سهلًا.

يقول نوفيلا: «أن تكون مشككًا يعني أنك تعي احتياجك إلى إعطاء الأولوية للمعتقدات الصحيحة على حساب ما تفضله شخصيًّا. عليك الاهتمام بكيفية تقييمك للمعتقدات أكثر من الاستنتاج ذاته، وأن تعد معرفة أخطائك فرصةً لتغيير معتقداتك وتقليل خطأها».

من الأفضل أن تبدأ بانتقاد المصادر التي تعزز وجهة نظرك، يقول نوفيلا: «دائمًا أكون أكثر الناس تشككًا في معتقداتي أو الاستنتاجات التي وصلت إليها وإن اتفقت مع عقيدتي. فما إن أرى العالم من زاوية معينة وأصادف ما يعزز من رؤيتي له من تلك الزاوية، فعلي عندها أن أكون أكثر تشككًا في وجهة النظر تلك، وإلا سأكون أكثر عرضةً للخطأ، إذ يقوى فخ المنطق المُحفّز والانحياز على دخول تفكيري، وهذا يطرح الكثير من الأسئلة، وهي حالة نشطة تتطلب الحيطة والحذر والإخلاص والتدريب، وممارسة تمتد بامتداد حاجتك للتفكير ولا يمكن اختصارها أبدًا، وعليك أن تكون شديد الإخلاص لضبط تفكيرك».

خلاصة الأمر: لا تصدق كل ما تقرأ، باستثناء مقالنا هذا بالطبع!

اقرأ أيضًا:

كيف يؤثر الإجماع الزائف على طريقة تفكيرك في الآخرين؟

التهديدات التي تواجهها حرية الفكر ، كيف تنقذ عقلك؟

ترجمة: بشرى عيسى

تدقيق: محمد حسان عجك

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر