قبل حوالي 66 مليون سنة فوجئت الأرض بحدث كارثي غيّر مجرى الحياة فيها، إذ اصطدم بها كويكب بعرض 12 كيلومترًا، وتحديدًا في المحيط قرب ما يعرف اليوم بجزيرة يوكاتان في المكسيك. وكانت عواقب هذا الحدث عظيمةً، فقد نجم عنه تغيّر بيئي وبيولوجي أدّى بدوره إلى فقدان الأرض لثلاث من أصل أربع فصائل حيوانية ونباتية. وبنتيجته خسرت الأرض أكثر كائناتها شهرةً وهيمنةً وهي الديناصورات التي وُجدت على الأرض قبل 165 مليون سنة.

من الواضح أن اصطدام كويكب ذي سرعة عالية يماثل في حجمه جبلًا سيكون له تأثيرًا في بيئته، لكن القضاء على مجموعة متنوعة من الحيوانات التي ازدهرت طوال 165 مليون سنة يُعد أمرًا مدهشًا بعض الشيء. والسؤال هنا يتعلق بكيفية فناء الديناصورات، وهل من الممكن لكويكب مشابه تغيير الحياة المستقبلية على الأرض بالدرجة نفسها؟

كيف عسانا نتأكد من تورط هذا الكويكب بانقراض الديناصورات؟

بالنظر إلى الكائنات الموجودة اليوم على كوكب الأرض، سنلاحظ نقصًا كبيرًا في بعض الصفات، كالأسنان الطويلة والجلد المتقشر، إضافة إلى غياب بعضها عن مناطق جغرافية معينة، فوفقًا لسجل الحفريات، انتشرت الديناصورات في مختلف بقاع الأرض تحت شتّى الظروف البيئية آنذاك.

واليوم وبعد كل هذا الوقت، يستدل علماء الأحفوريات على اللحظات المفصلية التي يرجح فيها انقلاب الظروف البيئية آنذاك، من خلال دراسة محتويات طبقة مميزة من الصخور الرسوبية، تسمى بحدود العصر الطباشيري-الباليوجيني (K–Pg).

يُذكر في هذا السياق موقع الكاف في تونس الذي يُستخدم عادةً لتمثيل هذه الطبقة معياريًا، مع إن الغبار المضغوط لهذه الطبقة في الواقع يمتد حول الكوكب بسماكة تتراوح ما بين (2-3) سنتيمترات.

مع إن هذا الانقراض خلّف نتائج سلبية لأنواع كثيرة من الديناصورات، فإن بعض الأنواع استطاعت تغيير سلوكياتها لتتكيف مع ما يحيط بها من البيئات المختلفة والمتنوعة، هذا ما قد يفسر وجود الأصناف الصغيرة ذات الريش على كوكبنا اليوم التي نسميها الطيور.

ومع إن الصخور الرسوبية رقيقة جدًا، فإن العلماء يستطيعون العودة عبرها عشرات الآلاف من السنين، إذ يفترض علماء الأحافير بأنّ أنواع الديناصورات قد انقرضت تدريجيًا نسيبًا وليس دفعةً واحدةً.

ومن الأمثلة المبرهنة على فرضيتهم، عثور الجيولوجي الأمريكي والتر ألفاريز على صخور لحدود K–Pg بعد دراسته التشكيلة الفوضوية للطبقات الصخرية في بعض الجبال الإيطالية في سبعينيات القرن الماضي، ذلك للاستدلال بها على الزمن الفعلي لتشكّل تلك الطبقات.

اقترح والده الفيزيائي لويس ألفاريز الحاصل على جائزة نوبل استخدام النظير بيريليوم 10 بصفته مؤقِّتًا، وذلك لتحديد الوقت بدقة عبر قياس مقدار انحلاله في كل طبقة. ظل هذا الاقتراح محطّ ثناء لولا حقيقة أن مادة البريليوم قد تلاشت منذ فترة طويلة، ولم تترك شيئًا ذا قيمة للقياس. على إثر ذلك اقتُرح استبداله بعنصر آخر هو الإريديوم.

مثلما هو الحال مع العديد من العناصر الثقيلة الموجودة على سطح الأرض، يغوص الإريديوم باتجاه نواة الكرة الأرضية على مدار تاريخها، نتيجةً لتراكم الطبقات الغبارية فوقه، وبهذا فإنّ أية عملية اكتشاف له من شأنها إعطاء تقدير دقيق للزمن.

أما ما عُثر عليه من عنصر الإريديوم في طبقات قريبة من السطح، فما هو إلا ضباب خفيف من الغبار اليومي القادم من الفضاء، الذي غالبًا ما يكون مُحمَّلًا بأتربة ومعادن.

ومن بين مكونات هذا الضباب توقّع ألفاريز ووالده أن وجود ذرة إريديوم واحدة من بين كل 10 مليارات ذرة إجمالًا احتمال عادي. لكن ما صدمهم هو وجوده بشكل مركّز بنسبة أعلى بثلاثين مرة مما كان متوقعًا، والأكثر إثارةً للدهشة هو وجوده في مستويات مركّزة داخل الطبقة نفسها في جميع أنحاء الكوكب.

ذاك الاندفاع من الإريديوم يعني أكثر من الغبار الكوني اللطيف المعتاد، وقد استبعدت المستعرات العظمى (Supernovas) لأنه لم يوجد أي أثر لنظير البلوتونيوم 244 الذي عادةً ما يرافق ارتفاع الإريديوم داخل الطبقات، وسبّب ذلك كلّه عندها حيرةً كبيرةً لدى الباحثين.

حظيت ثمانينات القرن الماضي باهتمام الجيولوجيين والكيميائيين وعلماء الأحفوريات، وذلك نتيجة تجميع ألفاريز ووالده لسيناريو منطقيّ حول تأثيرات فرضية اصطدام الكويكب بالأرض.

لاحقًا وبعد نشرهما للفرضية، قامت شركة تنقيب عن النفط بحفر بئر بعمق 180 كيلومترًا تحت نهر يوكاتان. وفي تسعينيات القرن الماضي عُثر على موقع الاصطدام وهو فوهة تشيكشولوب (Chicxulub)، وعليه استُدل على الإريديوم وتحديدًا في صخور حدود K-Pgán.

صورة خريطة المكسيك مع دائرة حمراء فوق يوكاتان، موقع فوهة تشيكشولوب التي خلّفها اصطدام كويكب من المحتمل أن يكون قد قضى على الديناصورات.

صورة خريطة المكسيك مع دائرة حمراء فوق يوكاتان، موقع فوهة تشيكشولوب التي خلّفها اصطدام كويكب من المحتمل أن يكون قد قضى على الديناصورات.

حتى يومنا هذا ما يزال التشكيك قائمًا في حقيقة اصطدام كويكب بكوكب الأرض قبل ما يقارب 66 مليون سنة، وتزامنه مع حادثة انقراض هائل، والموضوع الذي ما يزال موضع نقاش حتى الآن أكثر من ذلك هو بالتحديد: كيف تسبّب كويكب متوسط الحجم بمثل هذه المذبحة؟

كيف تسبّب كويكب في حوادث انقراض أنواع عديدة؟

لا يختلف شخصان في رأيهما حول مقدار التأثير السلبي للكويكب لدى اصطدامه بالأرض، الأمر الذي من شأنه تحويل منطقة الاصطدام التي تزخر بالحياة إلى مكان فارغ من أي مظهر حياتيّ. ناهيك بالغازات والتغييرات الطارئة على الغلاف الجوي التي من شأنها قلب نسب غازات الغلاف الجوي، وتغيير درجات الحرارة والإخلال بموازين السلاسل الغذائية، بطريقة مفاجئة وخطرة قد تؤدي إلى زوال الكثير من الأنواع بسرعة كبيرة.

توجد الكثير من الأدلة التي تُشير إلى إمكانية تعرض الكرة الأرضية لاهتزازات عالية التواتر نتيجة الاصطدام بصخور K-Pg، فقد أشارت موجات تسونامي (megaripples) إلى هول الطاقة الناجمة عن الانفجار.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ المسحات الكيميائية التحليلية لكثير من العناصر الأرضية أظهرت أرجحيةً كبيرةً لتعرض كوكب الأرض لشتاء كوكبي عام نتيجة حجب أشعة الشمس. وقد أظهرت التجارب أيضًا علامات حدوث تغيير جذري في كيمياء المحيطات، ما قد يفسر الخسارة الفادحة في مظاهر الحياة البحرية.

ربما يتساءل البعض: هل من شأن هذه التغيّرات حقًا تفسير حجم هذا الانقراض المُدمّر؟ الإجابة هي بالطبع نعم. صحيح أنّها كانت مجرد صخرةً عملاقةً ولّدت تأثيرًا كبيرًا، لكن في الوقت عينه أثبتت الحياة مدى ديناميكيتها الهائلة ومرونتها في مواجهة التغيّرات الكبيرة.

لكن لا يمكن إسقاط هذا الكلام على الديناصورات، وبخاصة الكبيرة منها التي كانت أكثر عرضةً للتغيرات البيئية واسعة النطاق ما يُعزى إليه سبب انقراضها. أما بالنسبة للكويكب فهي فرضية تثير جدلًا حادًّا على الدوام، ولا يوجد دليل أو اتفاق على تفصيل منها سوى صعوبة إثبات الأدلة أو تفسيرها بطريقة أو بأخرى.

يُرجح العلماء أيضًا انبعاث بعض المواد السامة نتيجة الانفجارات البركانية آنذاك والموجودة فيما يعرف اليوم بالهند، كل هذا أدى إلى تفاقم أحداث ذلك اليوم الرهيب على الديناصورات وانقراضها بالنتيجة. ومع إننا واثقون من شدة الأنشطة الجيولوجية وكثافتها في تلك الفترة، فإننا غير متأكدين من حقيقة تأثيرها في النظام البيئي العالمي.

تركّز إحدى الفرضيات التي نالت أهميةً وشهرةً واسعةً في السنوات الأخيرة على تحديد مكان التأثير بدقة أكبر، إذ إن الأمر لم يكن يتعلق بالحجم بل بمكان يسبب تأثيرًا كبيرًا في الغلاف الجوي لكوكب الأرض، فحتى قطع الصخور الفضائية ذات الحجم المتوسط تستيطع بدء فترات تبريد طويلة الأمد وخطيرة جدًا إذا ضربت مكانًا على سطح الأرض يحتوي وسطًا خصبًا من المعادن المناسبة.

بكلمات أخرى، يمكن القول بإنّ الطاقة التدميرية لنيزك ما ترتبط ارتباطًا قويًا بزمان الضربة ومكانها. فهذا النيزك البالغ عرضه 12 كيلومترًا لربما يكون أثره أقل تدميراً لو أنه اصطدم بعد بضع ثوانٍ في مكان مختلف قليلاً وبدرجة مختلفة أيضًا، ما كان ليجعله أقل سوءًا بالنسبة للديناصورات. فالموضوع مسألة توقيت رهيب لبضع ثوان مُدمرة.

هل يمكن أن تحدث هذه الثواني القليلة الرهيبة مرة أخرى؟

من المعلوم أنّ الحياة على كوكب الأرض معرضة بسهولة لتأثيرات متعددة ومهددة بأحداث كثيرة، مثل الاصطدام بكويكبات ضخمة جدًا. لكن علماء الفلك والفضاء يبقون متيقّظين لرصد تلك الصخور الكبيرة التي قد تعبر مدارنا، لتنبيه البشرية بأي خطر محتمل قادم من الفضاء في وقت ما من المستقبل.

وعليه توجد برامج رصد الكويكبات الفضائية القريبة من الأرض التي تُعنى بتحذير البشرية ومنحنا معلومات عن التأثيرات المدمرة المحتملة لأي خطر فضائي مُحدق، وقد أشارت إلى أنه ليس هناك ما يدعو للقلق في المستقبل القريب.

لكن دائمًا ما توجد بعض الاستثناءات، فبعض الصخور قد تختبئ في وهج الشمس، وبعض الكويكبات قد تدفعها الجاذبية بسرعة وبطرق يصعب التنبؤ بها، لكن ما زال أمامنا مُتسع من الوقت للتفكير في حلول معقولة وفعّالة.

ولكن بالنظر إلى كفاية الوقت، قد نتوقع أن تشهد الأرض تأثيرًا مشابهًا مرةً أخرى. أي إذا لم نتمكن من استخدام التكنولوجيا لتجنب التعرض للاصطدام، فسوف نحتاج إلى الاستعداد لنوع من العواقب البيئية.

أثبتت التجارب التي دارت حول حدث انقراض الديناصورات، بإنّ هناك الكثير من المتغيرات التي من شأنها تحديد مقدار الضرر الناجم عن اصطدام كويكب ما بالكرة الأرضية. فتأثير صغير المفعول في المكان الخاطئ من شأنه التسبّب بكوارث بيئية وجيولوجية جمّة، بينما لا يوجد قلق كبير حيال حجم التأثير فيما لو كان على بقعة أقل ازدحامًا.

وتشترك كلتا الحالتين بأمر شبه مؤكد، وهو قوة النظام البيئي. لأن النظام البيئي الضعيف من شأنه حتمًا إحداث فناء تام للحياة والعكس صحيح. لذلك يجب على البشرية تدارك الأمر وإيجاد خطط بيئية من شأنها الإنقاذ أو حتى التخفيف من وطأة نهاية العالم الكونية المحتملة، إن كانت تريد تجنب مصير الديناصورات.

اقرأ أيضًا:

انقراض الديناصورات كان بسبب تغير في فيزياء الكون

هل كان نيزك سبب انقراض الديناصورات، أم أنها كانت مهددة بالانقراض قبل سقوطه؟

ترجمة: علي الذياب

تدقيق: منال توفيق الضللي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر