العالم بول ديراك. بحلول عام 1933 في ألمانيا وعقب تولي هتلر مقاليد الحكم، كان ألبرت أينشتاين قد غادر ألمانيا متوجهًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليُجري عقب ذلك آخر الخطوات للانضمام إلى معهد الدراسات المتقدمة الذي افتُتح بعد ذلك أواخر عام 1933، ليُوكل إليه بعد ذلك برفقة الرياضي أوزوالد فيبلن Oswald Veblen مهمة توظيف أفراد من الوسط العلمي.

صورة لديراك على أرض المعهد، التُقطت في سنة 1962 تقريبًا وهو يعمل على صيانة الحديقة وتنظيف الممرات في نهاية الأسبوع.

صورة لديراك على أرض المعهد، التُقطت في سنة 1962 تقريبًا وهو يعمل على صيانة الحديقة وتنظيف الممرات في نهاية الأسبوع.

كان فيبلن قد سأل أينشتاين مرةً عن الشخص الذي اختاره لينضم إليه، فكانت إجابة أينشتاين أن بول ديراك هو أفضل اختيار لهذا المنصب. كانت توصيات أينشتاين صائبة بالفعل، فعلى غرار ثلاثين مترشحًا استطاع ديراك أن يشغل كرسي لوسيان للرياضيات Lucasian Chair of Mathematics الذي كان من نصيب نيوتن في ما مضى، وكان على مشارف أن يصبح أصغر الفيزيائيين الحاصلين على جائزة نوبل إلى غاية الحصول عليها من طرف T.D. Lee سنة 1957.

بوجود كل هذه المغريات حول ديراك، فإن أينشتاين كان يعلم يقينًا أنه سيكون من الصعب على ديراك التخلي على منصبه المريح في جامعة كامبردج، ومع العديد من المحاولات، استطاع المعهد ضم ديراك لفريقهم في النهاية ليصبح مُضيفه العلمي الثاني للسنوات الخمس والثلاثين اللاحقة.

في سنة 1931، وذلك بعد سنة من تأسيس المعهد، دُعي ديراك إلى جامعة برنستون Princeton University عن طريق فيبلن ليتولى منصب بروفيسور بالجامعة، وبموازاة ذلك استطاع ديراك أن يصنع لنفسه اسمًا في الأوساط العلمية الراقية بصفته أحد مؤسسي النظرية الكمية عن طريق وصف أدق مستويات المادة، وعلى عكس العديد من الأوراق البحثية في هذا المجال، والتي بقيت على رفوف أرشيف الفيزياء، فإن أطروحات ديراك بها من الدقة والأناقة الرياضية ما يتجاوز عصره بأشواط.

و في هذا الصدد يقول البروفيسور إميريتوس فريمان دايسون Emeritus Freeman Dyson: «إن اكتشافات ديراك العلمية تبدو مثل تماثيل رخامية نُحتت في السماء وأُنزلت الواحد تلوَ الآخر»، كمثال على أناقة المعادلات التي صيغت من طرف ديراك تلك التي تصف سلوك الإلكترون عن طريق الجمع بين النظرية الكمومية والنظرية النسبية الخاصة.

في سنة 1928 عند نشر هذه المعادلة، كان الفيزيائيون من كل أنحاء العالم ينظرون بدهشة إلى هذا العمل العلمي الفني البديع الذي فسر به مفهوم اللف المغزلي للإلكترون الذي اكتُشف سابقًا من طرف العلماء قبل ثلاث سنوات.

بالعودة إلى يوم وصول الدعوة الموجهة لديراك من طرف فيبلن إلى جامعة برنستون، كان ديراك بالفعل قد غادر كامبردج إلى جامعة سانت جونز St. John’s College في خطوة سابقة منه لإبراز أهمية الجانب النظري للفيزياء وذلك عبر تشجيع طلبته إلى المبادرة بالتطبيق الرياضي باعتباره خطوةً أولى لتفسير الظواهر الفيزيائية بدل الركون إلى النتائج التجريبية لوحدها.

بعد يوم من وصوله إلى جامعة برنستون، نظّم ديراك بالاشتراك مع الفيزيائي النمساوي ولفغانغ باولي Wolfgang Pauli ملتقى حول أهمية التنظير الرياضي في الفيزياء واقترح من خلال ذلك وجود جسيم مماثل للإلكترون في الكتلة ومعاكس له في الشحنة عُرف في ما بعد بالبوزيترون، أما باولي فقد اقترح وجود جسيم عديم الشحنة والكتلة اكتُشف بعد ذلك تحت اسم النيترينو، وذلك كله عبر معادلات رياضية بحتة، وقد شدّدا في العديد من المحافل العلمية على أهمية الجانب النظري للبرهنة على وجود جسيمات جديدة رياضيًا على الرغم من إجماع الوسط الفيزيائي على أن مهمة اكتشاف هذه الجسيمات الجديدة تختصّ بها معامل البحث التجريبية.

صورة لبول ديراك في الوسط، مع ج. روبرت أوبنهايمر على اليسار وأبراهام باي على اليمين يحتسون الشاي بالمعهد ظهيرة يوم ما من سنة 1947.

صورة لبول ديراك في الوسط، مع ج. روبرت أوبنهايمر على اليسار وأبراهام باي على اليمين يحتسون الشاي بالمعهد ظهيرة يوم ما من سنة 1947.

وبالفعل، بعد عدة أسابيع، كان ديراك يُلقي محاضرة حول النظرية الكمومية شرح من خلالها تنبؤاته حول البوزيترون، ولكن للأسف اعتُبر ذلك المجهود من الخرافات العلمية التي لم يُكتب لها أن ترى النور.

في صيف سنة 1932، كان الفيزيائي كارل أندرسون Carl Anderson على وشك إنجاز أحد أهم الاكتشافات العلمية في الفيزياء بعد رصده لأول مرة ما يُدعى بالمادة المضادة (على شكل بوزيترون) عبر تحليل جزء من الأشعة الكونية المتساقطة على سماء لوس أنجلوس. بذلك تكون تنبؤات ديراك الفيزيائية الممزوجة بجزء من اليقين الرياضي مصدر إلهام للعديد من الفيزيائيين لاحقًا.

في أواخر خريف 1934، كان بول قد بدأ عمله رسميًا بمعهد الدراسات المتقدمة، وبمجهود فردي منه، كان ديراك يشق طريقه نحو صياغة معادلات فيزيائية أساسية عبر مقاربة رياضية لتصبح هذه التجربة من أفضل ذكرياته لاحقًا.

لكن ما لبث أن تشتت انتباهه بحادثتين خلال تلك السنة؛ أولهما اعتقال صديقه الفيزيائي الروسي بيتر كابيتزا Peter Kapitza من طرف قوات الشرطة التابعة لستالين خلال إجازته الصيفية، وفور سماعه الخبر، حاول ديراك لأشهر عديدة الاتصال بالسفير الروسي في واشنطن من أجل الإفراج عن صديقه، أما الحادثة الثانية؛ فهي تعرفه على أخت صديقه الفيزيائي الهنغاري إيغن وينغر Eugene Wigner التي أصبحت زوجته لاحقًا.

كل ما قيل عن هذه الزيجة بين ديراك وزوجته مانسي بلازس Manci Balazs هو أنها كانت غريبةً، لأنه كان معروفًا عن ديراك بروده وانعزاله، أما زوجته فقد كانت دافئة واجتماعية وودودة وواثقة بنفسها، وعلى الرغم من ذلك، فقد دام زواجهما قرابة نصف قرن لتنتهي الزيجة بوفاة ديراك.

خلال الحرب العالمية الثانية، ساهم ديراك في الهندسة أكثر منها في الفيزياء، وذلك بالعمل في منزله في كامبردج، حيث أجرى بعض الحسابات حول أسلحة نووية لصالح الحكومة البريطانية وطوّر طريقة جديدة لفصل النظائر (ما زالت بعض تقنياته تُستعمل في الصناعة النووية إلى يومنا هذا).

لكن بعد العديد من الخلافات، اضطر ديراك إلى الهرب إلى المملكة المتحدة عبر قبول دعوة من صديقه القديم روبرت أوبنهايمر في سنة 1947-1948.

ساعدت الإقامة المؤقتة لديراك على استعادة أبحاثه في المجال الكمومي التي فقدها أثناء الحرب، إذ ساعدته ظروف العمل في المعهد على القيام بأعمال مبهرة في مجال الأقطاب المغناطيسية، وقد عمل خلال هذه الفترة مع العديد من القامات العلمية أمثال أينشتاين، ونيلز بور، وأوزوالد فيبلن، بالإضافة إلى تكوين صداقة مع العالم فريمان دايسون الذي كان من أكبر معجبيه.

على الرغم من اجتهاد ديراك ومثابرته على العمل، فقد خصص نهاية الأسبوع للقيام بنشاطات اجتماعية مع زملائه (تذكُر ابنته الكبرى احتساءها الشاي في منزل أينشتاين في أحد أيام الآحاد).

خصص ديراك أيام السبت لمساعدة فيبلن في أعمال صيانة لحديقة المعهد.

في منتصف عمره، ظل ديراك وفيًا لعمله واستمر في العمل لصالح المعهد من 1958-1959 عبر صياغة النظرية النسبية العامة لأينشتاين بطريقته الخاصة باستعمال معادلات ميكانيكا الكم والاعتماد على بعض التقنيات التي وضعها الرياضي الأيرلندي ويليام هاملتون William Hamilton. بعد أربع سنوات، عاد ديراك إلى عمله في النظرية الكمومية ليفتح بذلك الطريق لنظرية الأوتار الفائقة لاحقًا من طرف غوغ.

كتب لاحقًا ورقة بحثية يصف فيها بعض المعادلات الفيزيائية، وكانت من الأناقة والانسجام ما يجعلها تشبه إيقاع النغمات الموسيقية ،وهذا ما دعا الفيزيائي الهنغاري ناندور بلازس Nandor Balazs إلى وصف ديراك بموزارت العلوم.

منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي، كان ديراك مقتنعًا أن النظرية الكمية غير قادرة على وصف أبسط التأثيرات بين الإلكترون والبروتون. خلال قراءته المعادلات الكمية، وجد ديراك العديد من المقادير غير المنتهية في حين أنها يجب أن تكون مضبوطة، وذلك نابع من اعتقاده أن معادلات الطبيعة يجب أن تكون منسجمة في حين أن معادلات ميكانيك الكم بشعة ببساطة. بعد العديد من العقود، استمر ديراك برفض أن هذه المشكلة الكمية قد حُلّت، وأصر على أنها يجب أن تُحلّ جذريًا من خلال صياغة معادلات كمية جديدة.

كتب الفيزيائي جون ويلر John Wheeler من جامعة برنستون رسالة مميزة لديراك في عيد ميلاده الثمانين، في 8 آب/أغسطس سنة 1982 يقول فيها: «أكتب لك لأُطلعك على أن العديد من الشباب وحتى الكبار ينظرون إليك كبطل ونموذج للإنسان الذي يضع الأمور في نصابها، وكمثال للإنسان الطموح المحب للجمال».

في الوقت الذي تسلّم فيه الرسالة، تحدث ديراك مع إدوارد ويتن، وهو أحد معجبيه الصغار الذي صار لاحقًا عضوًا في المعهد، قائلًا إن الاعجاب كان متبادلًا. في سنة 1983، رشح معجبه ويتن لنيل جائزة بابال Papal Award بسبب «طرقه اللامعة لحل العديد من المشاكل في الفيزياء الرياضية». وكان ذلك على ما يبدو آخر ما كتبه ديراك.

كانت آخر زيارات ديراك للمعهد في سنة 1979 عندما حضر احتفالية الذكرى المئة لميلاد أينشتاين. كان ديراك حينها قد قبل العمل أستاذًا زائرًا بجامعة ولاية فلوريدا في تالاهاسي Florida State University in Tallahassee ليكون هو وزوجته أكثر قربًا من ابنتهما التي كانت تعمل في مجال الأبحاث الفلكية.

حصل ديراك بعد ذلك على تقاعد مريح. في مقابلة له سنة 1984 قبل وفاته، تحدث ديراك بعاطفة وبشيء من الحنين حول المعهد قائلًا: «إنه الجنة».

اقرأ أيضًا:

أشهر وافضل أقوال الفيزيائي بول ديراك

الفيزيائي الذي ساهم في تأسيس الديناميكا الكهربية الكمية: السيرة الذاتية لبول ديراك

ترجمة: ياسمين نصر الله

تدقيق: علي قاسم

مراجعة: اسماعيل اليازجي

المصدر