وفقًا لنظرية الانفجار الكبير the Big Bang theory، قبل 13.8 مليار عام، توسع الكون في صورة كرة ملتهبة شديدة الكثافة متناهية الصغر من المادة تزداد برودةً كلما توسعت، وأطلقت التفاعلات التي شكلت النجوم الأولى والمجرات، وكل أشكال المادة التي نعرفها والموجودة اليوم.

لكن قبل أن ينطلق الكون في مرحلة التوسع المستمر، يعتقد العلماء أنه قد حدثت مرحلة أعنف في العمر المبكر للكون، وهي مرحلة التضخم الكوني cosmic inflation، وهو تضخم استمر لأقل من تريليون جزء من الثانية، تضخمت المادة الباردة المتجانسة خلاله بسرعة هائلة، وسبق مرحلة الانفجار الكبير التي اتسمت بسرعة أقل وشكلت الكون الشاب.

دعمت الأدلة الحديثة كلتا النظريتين (الانفجار الكبير والتضخم الكوني)، لكن الاختلاف الشديد بين طبيعة المرحلتين أدى إلى صعوبة تفسير وفهم الطريقة التي تلت فيها إحداهما الأخرى.

علماء ينفذون محاكاة لمرحلة إعادة التسخين التي حركت الانفجار الكبير - توسع الكون في صورة كرة ملتهبة شديدة الكثافة متناهية الصغر من المادة

صمم الفيزيائيون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وكلية كينيون Kenyon، وغيرهما، محاكاةً لمرحلة وسطية من الكون المبكر، ربما تكون مرحلةً انتقالية بين التضخم الكوني والانفجار الكبير. سُميت هذه المرحلة مرحلة إعادة التسخين Reheating، والتي حدثت في نهاية التضخم الكوني، وتضمنت عمليات مقاومة المادة الباردة المتجانسة لتحويلها إلى «الحساء» المعقد شديدة الحرارة الذي كان موجودًا في بداية الانفجار الكبير.

يقول ديفيد كايزر David Kaiser، أستاذ تاريخ العلوم والفيزياء في MIT: «مرحلة إعادة التسخين التي تلت مرحلة التضخم هي المرحلة التي هيأت الظروف لحدوث الانفجار الكبير، وبعبارة أخرى، هي التي أدت إلى حدوث الانفجار. إنها الفترة الانتقالية التي انتهت بعدها الحرارة الشديدة وبدأت الأشياء بالتحرك بسلاسة».

صمم كايزر وزملاؤه محاكاةً تفصيلية تُصور كيف تفاعلت أشكال متعددة من المادة خلال هذه الفترة الفوضوية في نهاية التضخم. أظهرت المحاكاة أن القدر الهائل من الطاقة الذي سبب مرحلة التضخم يُعاد توزيعه سريعًا حتى في جزء أصغر من الثانية، وبطريقة تُنتج الظروف المطلوبة لبدء الانفجار الكبير.

وجد الفريق أن هذا التحول الأقصى يكون أسرع وأكثر فاعلية إذا عدّلت التأثيرات الكمّية الطريقةَ التي تستجيب بها المادة للجاذبية في ظروف الطاقة العالية جدًا، منحرفةً بذلك عن توقعات النسبية العامة عن تفاعل المادة مع الجاذبية.

يقول كايزر: «هكذا يمكننا سرد القصة كاملة، من التضخم إلى فترة ما بعد التضخم، إلى الانفجار الكبير وما بعده. يمكننا تتبع مجموعةً مستمرة من العمليات تتوافق كلها مع الفيزياء المعروفة حتى نصل إلى تفسير مقبول للطريقة التي تشكل بها الكون كما نراه اليوم».

نُشرت النتائج التي توصل إليها الفريق في Physical Review Letters.

«متزامنةً مع نفسها»

تتوقع نظرية التضخم الكوني، التي اقترحها لأول مرة في الثمانينيات آلان غوثAlan Guth ، أستاذ الفيزياء في MIT، أن الكون قد بدأ في صورة نقطة ضئيلة جدًا من المادة، أصغر بنحو مئة مليار مرة من حجم البروتون، مليئة بمادة فائقة الطاقة، لدرجة أن قوى الجاذبية الهائلة الناتجة عن الانضغاط أصبحت بمثابة محرك للتضخم. أدت هذه القوة الدافعة -مثل شرارة المنصهر- إلى انفجار الكون الوليد بسرعة غير مسبوقة، إلى ما يقارب أوكتليون octillion ضعف حجمه الأصلي (الأوكتيليون 1 وبجانبه 26 صفرًا) في أقل من تريليون جزء من الثانية.

يقول كايزر: «تتميز المراحل المبكرة من إعادة التسخين بالرنين، أي هيمنة صورة واحدة من صور المادة عالية الطاقة، تهتز ذهابًا وإيابًا متزامنةً مع نفسها عبر مساحات واسعة من الفضاء، ما يؤدي إلى إنتاج سريع لجسيمات جديدة، لكن هذا السلوك لن يستمر إلى الأبد، فما إن تنتقل الطاقة إلى صورة ثانية من صور المادة، تصبح التموجات أكثر تقلبًا وتغيرًا عبر الفضاء.

أردنا في المحاكاة قياس المدة التي يستغرقها تأثير الرنين حتى ينتهي، والتي تستغرقها الجسيمات الناتجة حتى تتباعد، لتصل إلى نوع من التوازن الحراري، وهي الظروف التي أدت إلى الانفجار الكبير».

تمثل عمليات المحاكاة الحاسوبية التي صممها الفريق شبكةً كبيرة عينوا عليها صورًا متعددة من المادة، وتتبّعوا كيف تتغير طاقتها وتوزيعها في الفضاء على مدار الوقت. نتيجةً لتغيير الظروف، استندت الشروط الأولية للمحاكاة إلى نموذج تضخمي معين، أمدّنا بتوقعات حول توزيع المادة في الكون المبكر في أثناء مرحلة التضخم الكوني.

اختار الفريق هذا النموذج تحديدًا لتطابق توقعاته مع قياسات خلفية الإشعاع الكوني الدقيق cosmic microwave background، وهو الوهج المتبقي من الإشعاع المنبعث عند 380 ألف عام فقط بعد الانفجار الكبير، والذي يُعتقد أنه يحتوي آثارًا من فترة التضخم.

تعديل كوني

تتبعت المحاكاة سلوك نوعين من المادة ربما كانا سائدين في أثناء التضخم الكوني، ويشبهان إلى حد بعيد هيغز بوزون Higgs boson الذي لوحظ مؤخرًا في تجارب أخرى.

قبل بدء المحاكاة، أضاف الفريق تعديلًا طفيفًا إلى وصف الجاذبية في النموذج، إذ يجب ألا يكون تأثير الجاذبية المستخدم في المحاكاة مماثلًا للتأثير المعتاد للجاذبية، والذي تشرحه نظرية النسبية العامة لآينشتاين.

وفقًا للنسبية العامة، فإن الجاذبية ثابتة ولا تتوقف على طاقة الأجسام، وهو ما يسمى بالاقتران المحدود minimal coupling، لكن في ظل وجود كم هائل من الطاقة مثل الذي من المتوقع وجوده خلال التضخم الكوني، فإن المادة تسلك سلوكًا مختلفًا، وتتفاعل مع الجاذبية بطرق معدلة وفقًا لميكانيكا الكم والتفاعلات على المستوى الذري.

لذلك، تتفاعل المادة مع الجاذبية بطريقة أكثر تعقيدًا بقليل في ظروف الطاقة العالية للغاية المتوقّعة في التضخم الكوني. تتنبأ تأثيرات ميكانيكا الكم بأن قوى الجاذبية يمكن أن تختلف في المكان والزمان عند التفاعل مع مادة فائقة الطاقة، وهي ظاهرة تُعرف باسم الاقتران غير المحدود nonminimal coupling.

ضمّن كايزر وزملاؤه الاقتران غير المحدود في نموذجهم التضخمي، ولاحظوا كيفية تغير توزيع المادة والطاقة مع تزايد هذا التأثير الكمي أو تناقصه.

وأخيرًا، لاحظوا أنه كلما زاد تأثير الجاذبية المعدل كميًا على المادة، تسارع انتقال الكون في أثناء التضخم من حالة المادة الباردة المتجانسة إلى صور المادة الأعلى حرارةً والأكثر تنوعًا، والتي تميز الانفجار الكبير.

من طريق ضبط هذا التأثير الكمي، يمكن أن يحدث هذا الانتقال الحاسم خلال 2-3 طيات الكترونية e-folds، إشارةً إلى الوقت الذي يستغرقه الكون ليتضاعف 3 مرات في الحجم تقريبًا، وبهذا تمكنوا من محاكاة مرحلة إعادة التسخين خلال الوقت الذي يستغرقه الكون ليتضاعف 3 مرات في الحجم، وذلك لمرتين أو ثلاث، وللمقارنة، استغرقت مرحلة التضخم نفسها نحو 60 طية إلكترونية.

يضيف كايزر: «كان زمن إعادة التسخين جنونيًا (يقصد أنه كان سريعًا جدًا)، إذ تتغير طبيعة الأشياء سريعًا، وقد أظهرنا أن تفاعل المادة كان سريعًا لدرجة حدوث الاسترخاء في نفس الوقت تقريبًا، من أجل تهيئة الظروف للانفجار الكبير بدقة. لم نتوصل إلى مثل هذا الاكتشاف من قبل، لكن هذا ما توصلنا إليه عبر هذه المحاكاة، وكل هذا باستعمال الفيزياء المعروفة، ولذلك فهو أمر مثير للاهتمام حقًا».

اقرأ أيضًا:

الانفجار العظيم: ادعاء كبير، ما سبب اعتقادنا بصحته ؟

الانفجار العظيم – كيف بدأ الكون ؟

ترجمة: أسامة ونوس

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: اسماعيل اليازجي

المصدر