تبلغ الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء «ناسا» في 29 من يوليو، عامها الـ 64 منذ تأسيسها. شهدت فيها رحلةً لا تصدق لاكتشاف حجم الإمكانات البشرية، وجرأتها التي وسّعت آفاق معرفة الإنسان.

نستعرض في جولتنا إنتاج المنظمة الغزير عبر تاريخها احتفالًا بهذه المناسبة الهامة، والتي ستكون رحلةً مشوّقةً عبر بعض من أهم أحداث القرن العشرين، وهي بعض المحطّات المختارة خلال التطورات الرئيسية للمنظمة. وليس المقصود منها أن تكون دليلا شاملًا لجميع إنجازات ناسا المذهلة على مدى العقود الستة الماضية.

بداياتها: نقلتها من الحرب الباردة إلى العادم الساخن

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سرعان ما أصبح التحالف الفاتر بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي باردًا جدًا بالفعل، وبدأت الحرب الباردة.

ولَّدت العقود الخمسة التي تلتها، سباقًا تكنولوجيًا بين القوى العظمى، لتطوير فهم البشرية للتقنيات المتقدمة مثل الطاقة النووية، وعلم الصواريخ، والطيران، وبالطبع استكشاف الفضاء.

حرّضت مشاعر الفخر الوطني، والمخاوف الجادة بشأن الدفاع الوطني هذين العملاقين على بعضهما البعض. وأصبح التنافس بينهما قائمًا على أساس من يستطيع التغلب على الآخر أولًا، وفي أقرب وقت ممكن.

كان إطلاق الاتحاد السوفيتي لصاروخ «سبوتنيك 1» في الرابع من أكتوبر عام 1957، نقطة تحول حقيقية، على الأقل بالنسبة لتاريخ ناسا. والذي لعله أزعج الولايات المتحدة بشدة، وأثّر بنفس مقدار حادثة هجوم ميناء « بيرل هاربور» في نفوس المواطنين.

كانت النتيجة المباشرة لتلك الحادثة، تأسيس وكالة ناسا رسميًا في الأول من أكتوبر عام 1958. تشكلت المنظمة من دمج كل من «اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الجوية الحالية (NACA)» مع موظفيها البالغ عددهم 8,000 موظف، وميزانية 100 مليون دولار، ومختبر «لانجلي» للملاحة الجوية، ومختبر «أميس» للملاحة الجوية، ومختبر «لويس» للدفع الجوي، ومُنشأتين صغيرتين للاختبار.

تقول وكالة ناسا: «دمجت ناسا بسرعة منظمات أخرى في الوكالة الجديدة، ولا سيما فريق علوم الفضاء التابع لمختبر البحوث البحرية في ماريلاند، ومختبر الدفع النفاث الذي يديره معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الخاصة بالجيش، ووكالة الصواريخ الباليستية التابعة للجيش في هانتسفيل، ألاباما. إذ شارك فريق المهندسين التابع لـ «فيرنر فون براون» في تطوير صواريخ كبيرة. أسست ناسا في نهاية المطاف، مراكز أخرى، ولديها اليوم عشرة مراكز في جميع أنحاء البلاد».

أبحاث الطيران الرائدة التابعة لوكالة ناسا

تأسست ناسا بسرعة من سلفها «إن إي سي إي NACA» الرائدة في مجال الطيران، وواصلت تعزيز التطورات الأمريكية، والعالمية في أحدث تقنيات الدفع، والديناميكا الهوائية.

يُعد برنامج «إكس-15» الذي لا يزال مثيرًا للإعجاب، أحد أشهر أعمالهم في هذا المجال. تضمن ذلك تطوير طائرة تعمل بالطاقة الصاروخية قادرة على الطيران فوق الغلاف الجوي للأرض قبل أن تنزلق عائدةً إلى اليابسة.

ساعد هذا المشروع في جمع معلومات حيوية حول الملاحة الجوية الأسرع من الصوت، والتي ساعدت لاحقًا في تطوير برنامج المكوك الفضائي.

تعاونت ناسا أيضًا مع القوات الجوية الأمريكية خلال الستينيات في برنامج «بوينغ إكس-20 داينا -سور»، الذي صُمم للطيران حول مدار. كان مقررًا أن يكون هذا البرنامج سابقًا للطائرة الفضائية الوطنية؛ والتي تضمنت تطوير تقنيات متقدمة تفوق سرعتها سرعة الصوت.

قادت ناسا أيضًا، بين عامي 1963 و1975، أبحاثًا أساسيّة في مجال «أجسام المرتفعة» أو «الطائرات بدون أجنحة». دُمجت هذه الأبحاث لاحقًا، في التصميمات النهائية لبرنامج مكوك الفضاء خلال فترة الثمانينيات.

استخدمت الطائرة «إكس-43 إي» في عام 2004، تقنية «المحرك النفاث scramjet» المبتكرة، للطيران بسرعة تساوي عشرة أضعاف سرعة الصوت، مسجلةً رقمًا قياسيًا عالميًا لطائرات النفث الهوائية.

صنعت أولى رحلات الفضاء التابعة لناسا التاريخ

قدمت ناسا سريعًا، مساهمات كبيرة على مر التاريخ. وشملت هذه المساهمات مهمتها البارزة الأولى؛ ألا وهي مشروعا «ميركوري» و«جيميني أو الجوزاء».

طُوّر الأول لدراسة قابلية إرسال البشر إلى الفضاء، والبقاء على قيد الحياة. بعد عدة سنوات من البحث، والتطوير المكثف، أصبح «آلان بي شيبرد جونيور» أول أمريكي يطير في الفضاء.

قاد آلان كبسولة الفضاء ميركوري حول الأرض في الخامس من مايو عام 1961، في مهمة دون مدارية مدتها 15 دقيقةً. سرعان ما تبعه «جون إتش جلين جونيور»، والذي أصبح في 20 من فبراير عام 1962، أول رائد فضاء أمريكي يدور حول الأرض.

أرسل مشروع ميركوري بما مجموعه ست رحلات جوية، وحقق في النهاية هدفه الواعد؛ الذي يطمح إلى إطلاق مركبة فضاء يقودها الإنسان للدوران حول مدار الأرض، وضمان عودة ركابها سالمين إلى «تيرا فيرما». يُعد هذا إنجازًا لا يصدق في فهم الأمر بعد وقوعه.

وكان مشروع «جيميني» مشروعًا واعدًا أيضًا، أُسس على الخبرة والمعرفة التي اكتسبها علماء ومهندسو ناسا من مشروع ميركوري؛ وتمثل تقدّمُه الرئيسي في زيادة عدد الطاقم إلى رائدَيّ فضاء.

أطلق مشروع «جيميني» حتى 10 رحلات إجمالًا جمع فيها معلومات ضرورية حول انعدام الوزن بالإضافة إلى المعلومات حول العودة من خلال الغلاف الجوي للأرض بشكل مثالي، وإجراءات الهبوط المظلي على الماء، ووضع الأسس لإجراءات الالتحام في الفضاء.

مشى أول رائد فضاء أمريكي «إدوارد إتش وايت جونيور» خلال هذا البرنامج في الفضاء في الثالث من يونيو عام 1965. بهذا تغلب عليه خصمه رائد الفضاء السوفيتي «أليكسي ليونوف»، قبل بضعة أشهر فقط في مارس من عام 1965.

أهمية وخطورة مشروع أبولو

يُعد برنامج «أبولو» أشهر إنجازات ناسا، على الرغم من سيرتها الذاتية المثيرة للإعجاب بالفعل. وذلك لنجاحه في إنزال البشر على أكثر الأجسام السماوية حميميةً للأرض؛ ألا وهو «القمر».

حظي هذا المشروع بالدعم الهائل والتفويض وذلك عندما ألقى الرئيس الأمريكي «جون كينيدي» خطابه الخالد حتى الآن في 25 مايو من عام 1961.

كان هذا الإعلان استجابةً مباشرةً لتفوق الفضاء السوفيتي الواضح في ذلك الوقت بالطبع، وليس من باب الفضول العلمي الخالص. أثبتت أمريكا فيما بعد، هيمنتها العلمية والتكنولوجية على خصمها في فترة الحرب الباردة.

أثار هذا هوس كينيدي ببرنامج أبولو، والذي دام 11 عامًا استهلك فيه 25.4 مليارات دولار (214.6 مليار دولار اليوم) خلال فترة تشغيله.

لم يخلو البرنامج على الرغم من ذلك، من إخفاقاته الكارثية. كان أشهرها حريق كبسولة «أبولو 1» في 27 يناير عام 1967، والذي قُتل فيه جميع رواد الفضاء الذين كانوا على متن الطائرة خلال اختبار بروفة الإطلاق. استمر المشروع بحماس، لكنهم حرصوا على التأكد من إعادة تصميم الكبسولة بالكامل للمهام المستقبلية.

كانت مهمة «أبولو 7» في أكتوبر من عام 1968 حدثًا هامًا، نجحت فيه بالدوران حول الأرض، واختبروا تصميم وحدة القيادة الجديد. تبع ذلك على الفور، مهمة «أبولو 8» وأول دوران حول مدار القمر عشية عيد الميلاد في عام 1968.

وفى جون كنيدي أخيرًا بوعده للعالم في 20 من يوليو عام 1969، وذلك في مهمة «أبولو11» الناجحة جدًا. أصبح كل من «نيل أرمسترونج»، و«إدوين ألدرين جونيور» الملقب «باز»، أول وثاني رجُل يمشي على سطح القمر.

تلى ذلك خمس عمليات هبوط ناجحة على سطح القمر، وفشل «أبولو 13» في حادثة دفعت الطاقم الأرضي، ورواد الفضاء للتفكير بسرعة وارتجال حل لخزان الأكسجين قبل أن ينفجر في منتصف الطريق إلى القمر، وأُعيد الطاقم بأمان.

هبطت 6 مهمات من بين 17 مهمةً فقط، وما مجموعه 12 رائد فضاء على سطح القمر. ولكن بقي هناك إنجاز آخر حتى يكتمل برنامج أبولو.

شهدت بعثة مشتركة بين ناسا والسوفييت في عام 1975، أول رحلة فضائية بشرية دولية – مشروع «أبولو سويوز» التجريبي (ASTP) – بعد إطلاق المركبة الفضائية من بلدانهم، نجحوا في الالتقاء والرسو في الفضاء، وأجروا تجارب مختلفة على مدار يومين.

طورت ناسا أيضًا تلسكوبات وأقمار صناعية

شهد عام 1990 إطلاق تلسكوب «هابل» الفضائي بالغ الأهمية حول مدار الأرض. أدرك علماء ناسا فيما بعد، أنه بقدر ما كانت هذه المناسبة شديدة الأهمية إلا أن هناك مشكلةً في دميتهم الجديدة.

اكتشفوا أن الانحراف الكروي المجهري في مرآته المصقولة يسبب قيودًا كبيرةً على قوته المحتملة. صُحح ذلك الخطأ خلال مهمة مساعدة مجدولة في ديسمبر عام 1993، عندما نفذ فريق من رواد الفضاء سلسلة نشاطات خارج المركبة لتصحيح مجال هابل البصري.

استمر تلسكوب هابل بعد إصلاحه، في التقاط بعضٍ من أكثر الصور المثيرة للعوالم، والمجرات البعيدة التي لم يكن لدى البشرية أي أملٍ في رؤيتها من قبل. أعاد هذا جزئيًا، ثقة الجمهور بشكل كبير في برنامج ناسا ككل.

لم يخلُ برنامج المسبار العلمي من إخفاقاته على الرغم من ذلك، ففي 21 أغسطس عام 1993، اختفى مراقب المريخ، الذي كان مخططًا له الدوران ومراقبة المريخ، دون أن يترك خلفه أي أثر.

احتاجوا أيضًا في كثير من محطاتها التاريخية، إلى إلغاء عدد غير قليل من المشاريع، بسبب القيود في الميزانية.

ألهم هذا الفشل وكالة ناسا لبناء مركبة فضائية أفضل، وأسرع، وأرخص لزيارة المريخ ودراسته في المستقبل. كان عرضهم الأول هو «مستكشف المريخ العالمي Mars Global Explorer» الذي أُطلق في 7 نوفمبر عام 1996.

ما تزال هذه المركبة موجودةً حول المدار، ترسم خرائط للمريخ منذ وصولها إلى الكوكب الأحمر في عام 1998. هبطت مهمة «مارس باثفايندر» بنجاح على سطح المريخ في يوليو من عام 1997، واكتشفت مساحةً محدودةً من سطح الكوكب باستخدام مركبتها الجوالة «سوجورنر».

حظيت هذه المهمة باهتمام عام واسع النطاق، وشاهدها الكثيرون عبر الإنترنت في ذلك الوقت. وسرعان ما تبعتها المركبات الجوالة «سبيريت» و«أبورتيونيتي» في يناير عام 2004.

بقي استكشاف المريخ أولويةً قصوى للمنظمة خلال السنوات القليلة المقبلة، وشهد عام 1991 إطلاق مرصد «كومبتون جاما راي»، الذي انضم إلى هابل بمثابة جزء من سلسلة تلسكوبات «المراصد الكبرى» التابعة لناسا.

شهد عام 1996 إطلاق المركبة الفضائية «غاليليو»؛ التي طُوّرت لفحص كوكب المشتري وقمرهُ «يوروبا».

كشف المسبار عن معلومات مؤقتة تفيد بأن القمر ربما يحتوي على الجليد أو حتى الماء السائل؛ ما يُعد عنصرًا أساسيًا للوجود المحتمل للحياة على سطحه.

شاركت ناسا أيضًا في تطوير «التلسكوب الراديوي»، لمسح السماء بحثًا عن حياة ذكية محتملة. ونقلًا عن ناسا، واصلت الوكالة بحثها عن ما إذا كانت أي نيازك مريخية تحتوي على كائنات حية ميكروبيولوجية، ونظمت برنامج أصول للبحث عن الحياة باستخدام تلسكوبات جديدة قوية، وتقنيات بيولوجية.
أحدثت ناسا أيضًا تطورات مهمة في مجال التطبيقات الفضائية مثل الاتصالات، والأقمار الصناعية الأخرى.

أُنشئت بالإضافة إلى ذلك الأقمار الصناعية «إيكو» و«تيلستار» و«ريلاي» و«ساينكوم»؛ إما من قبل وكالة ناسا، أو من قبل القطاع الخاص بناءً على التطورات الكبيرة التي حققتها ناسا.

طوّرت ناسا مجموعة الأقمار الصناعية «لاندسات» في السبعينيات، وأُطلقت الأقمار الثلاثة الأولى في الأعوام 1972 و1975 و1978. و شاركت تلك الأقمار في تطوير مجموعة متنوعة من أبحاث علوم الأرض، مثل نظام مرصد الأرض للمركبات الفضائية وغيرها الكثير.

تستثمر ناسا بكثافة الآن في تطوير تقنيات الأقمار الصناعية الجديدة بما في ذلك نظام «تيس TESS» الجديد.

فترة من النجاح الهائل والمأساة: برنامج مكوك الفضاء

يُعتبر برنامج مكوك الفضاء الناجح للغاية، قفزةً كبيرةً أخرى في التكنولوجيا التي طورتها ناسا. فبعد ست سنوات فقط من انتهائها من برنامج أبولو، عادت ناسا للتركيز على رحلات الفضاء البشرية.

أطلق البرنامج بعد فترة وجيزة من إعلان الرئيس «نيكسون» عن خطة ناسا لتطوير مكوك فضائي «قابل لإعادة الاستخدام»، أو «نظام النقل الفضائي (إس تي إس)».

كشفوا في عام 1981، النقاب عن مشروعهم الرائد الجديد، وهو مكوك الفضاء، وأُطلقت أول مهمة «إس تي إس -1» في 12 أبريل عام 1981.

أُنشئ ما مجموعه خمس سيارات مكوكية، «أتلانتس»، «تشالنجر»، «ديسكفري»، «إنديفور» ومكوك الاختبار «إنتربرايز». نجحت جميعها في إرسال مهمات إلى الفضاء باستثناء «إنتربرايز». أرسلت البعثة التالية «أس تي إس-7»، أول امرأة أمريكية إلى الفضاء في 18 يونيو عام 1983.

أطلق برنامج مكوك الفضاء بين عامي 1983 و1986، 18 مهمةً أخرى لتأدية واجبات مختلفة، من إطلاق الأقمار الصناعية إلى اختبار الروبوتات في الفضاء. على الرغم من أن البرنامج كان يرسل البشر في مهمات الفضاء الاعتيادية فإن ذلك لم يستمر طويلًا.

تحطم في 28 يناير 1986، مكوك الفضاء «تشالنجر» بعد 73 ثانيةً من إقلاعه، ما أسفر عن مقتل جميع أفراد الطاقم السبعة على متنه. صدمت هذه المأساة العالم، وأُوقفَ المشروع لمدة عامين لإجراء التحقيقات والتغييرات على التصميم.

أُعيدَت المكوكات الفضائية المتبقية إلى الخدمة الفعلية في 29 سبتمبر 1988، مع رحلة «إس تي إس-26 آر»، التي كانت الأولى من بين 87 مهمةً ناجحةً أخرى نقلت حمولات إلى الفضاء مرةً أخرى. وأجرت التجارب، وأطلقت تلسكوب هابل في أبريل من عام 1990.

انتهت سلسلة الانتصارات هذه على نحو مأساوي، عندما تفكك مكوك كولومبيا في الأول من فبراير 2003 قبل 15 دقيقةً من هبوطه. بدأ البرنامج مرةً أخرى في 26 يوليو 2005، بعد إجراء تحقيق شامل وتجديدٍ للمكوكات المتبقية.

اقرأ أيضًا:

ناسا تؤكد أن فوهتين على سطح القمر نشأتا بسبب اصطدام صاروخ فضائي

يرغب العلماء في إرسال مسبار من ناسا لكوكب أورانوس، كأولوية بحثية

ترجمة: لجين الحفار

تدقيق: منال توفيق الضللي

مراجعة: آية فحماوي

المصدر