طالما حيرت فيزياء الكم عقولنا بمفاهيم مثل التراكب الكمّي والتشابك الكمّي، وهي أمور تبدو مناقضة للبديهة. ومع ذلك قد تكون فيزياء الكم أغرب مما نتصور، إذ تشير ورقة بحثية نُشرت حديثًا إلى إنه حتى الحقائق في العالم الدقيق، عالم الجسيمات والذرات، قد تختلف من مراقب لآخر.

تجربة جديدة في فيزياء الكم قد تغير رؤيتنا للعالم الواقعي - تجربة الشق المودوج - تجربة شقي يونغ - التراكب الكمومي - المفعول الشبحي

لشرح الفكرة، دعونا نعود لمبدأ التراكب الكمّي superposition، الذي يقول إن جسيمًا كمّيًّا يمكن أن يكون في مكانين مختلفين (حالتين كمّيتين) في اللحظة ذاتها، ولكن ما إن يُرصَد هذا الجسيم، فإن هذا التراكب ينهار، ويُرصَد الجسيم في مكان واحد فقط (حالة كمّية واحدة). أُثبتت هذه الفكرة مرارًا، وإحدى أشهر التجارب التي توضح هذه الفكرة هي تجربة الشق المزدوج double slit experiment الشهيرة.

شاهد الفيديو:

سنة 1961، اقترح الفيزيائي يوجين فيجنر Eugene Wigner تجربةً فكريةً مثيرة للاهتمام. تساءل فيجنر ماذا سيحدث إذا طبقنا قواعد فيزياء الكم على مراقب يراقبه مراقب آخر؟ لتفهم هذا، تخيل صديقًا لفيجنر يرمي قطعةً نقدية.

القطعة في حالة تراكب كمّي بين الرأس والذيل (المقصود وجهي العملة، الصورة والكتابة)، وفي كل مرة يرميها الصديق سيرصد إما رأس أو ذيل ، وبعد كل رمية يسجل الصديق رؤيته للقطعة النقدية (إما رأس أو ذيل).

يرصد فيجنر صديقه، ولكنه لا يعرف النتيجة التي يحصل عليها الصديق بعد كل رمية. لذا وفقًا لميكانيكا الكم، يرى فيجنر صديقه مع قطعة العملة في حالة تشابك كمّي entangled، إذ إنه -الصديق- مترابط مع النتائج المحتملة للعملة.

الآن بوسع فيجنر التحقق من حالة التراكب بإجراء تجربة تدخل interference experiment، التي ستمكنه من معرفة الحقيقة.

لاحقًا، عندما يقارن الصديقان ما سجلاه حول حالة القطعة فإنهما سيختلفان. سيرصد صديق فيجنر حالات محددة (إما رأس أو ذيل)، في حين سيرصد فيجنر حالات تراكب (رأس وذيل معًا في كل مرة). هذا يعني أن الحقائق التي رصدها كل منهما مختلفة.

في البداية تجاهل فيجنر النتيجة، إذ إن كائنًا واعيًا لا يمكن مقارنته بجسيم كمّي، لكنه تراجع بعد ذلك عن موقفه، ووفقًا لمراجع ميكانيكا الكم فإن هذا الوصف صحيح تمامًا.

التجربة

حتى وقت قريب، لم تُنفَّذ الكثير من التجارب عمليًّا حول هذه التجربة الفكرية، ولكن الباحث أسلاف بروكنر Časlav Brukner من جامعة فيينا تمكن أخيرًا من إثبات أنه -وفق فرضيات معينة- يمكن استخدام تجربة فيجنر الفكرية لإثبات إن الحقائق المرصودة في فيزياء الكم ذاتية، أي تتوقف على المراقب.

اقترح بروكنر طريقة لاختبار هذه الفكرة، بترجمة سيناريو فيجنر وصديقه باستخدام إطار أنشأه الفيزيائي جون بيل John Bell لأول مرة سنة 1964. لنفترض إنه لدينا اثنين من (فيجنر وصديقه) بدلًا من واحد، كل منهما في غرفة منفصلة، سيراقب بروكنر كلا الزوجين، ويجري القياسات على الحالة المشتركة، داخل الصندوق وخارجه.

بهذه الطريقة يمكن قياس ما يعرف بتباين بيل Bell inequality. إذا خالفت النتائج المرصودة تباين بيل فيمكن استنتاج إمكانية اختلاف الحقائق بين مراقب وآخر في ميكانيكا الكم.

أُجريت التجربة للمرة الأولى في جامعة هيروت-وات Heriot-Watt في إدنبره، باستخدام حاسوب كمّي صغير يحتوي 3 أزواج من الفوتونات المتشابكة.

يمثل الزوج الأول من الفوتونات العملة المعدنية، ويمثل الزوج الثاني رمي العملة (تُمثَّل هنا بقياس استقطاب الفوتونات) داخل الصندوق، ويبقى خارج الصندوق زوج إضافي يمكن قياسه أيضًا.

استغرق العلماء أسابيع لجمع بيانات كافية، وأثبتوا في النهاية أن النتائج المرصودة بالفعل تخالف تباين بيل.

لكن النظرية تستند إلى افتراضات معينة، مثل فرضية عدم تأثر نتائج القياس بالإشارات المتحركة أسرع من الضوء، وافتراض أن المراقب لديه حرية اختيار ما يسجله من قياسات، وقد لا يكون الأمر كذلك.

سؤال مهم آخر: هل يمثل الفوتون مراقبًا واعيًا؟ وفق نموذج بروكنر، لا يُشترط أن يكون المراقب واعيًا، لكنه مع ذلك يجب أن يكون قادرًا على تسجيل نتائج القياس.

على أي حال، علينا إعادة التفكير في إمكانية أن تتضمن نماذجنا الحالية لميكانيكا الكم النتائج الجديدة. يرى البعض أن التفسير يكمن في فكرة شبيهة بفكرة الأكوان المتعددة parallel universes، في حين يرى آخرون إن هذا دليل يدعم فرضية أن ميكانيكا الكم لا تشرح النظم المعقدة فوق درجة معينة، وغيرها من الأسئلة حول هذا الموضوع، لكن الأمر المؤكد أن مستقبلًا مثيرًا ما زال ينتظرنا.

اقرأ أيضًا:

لأول مرة في فيزياء الكم.. وضع جزيء واحد مكون من ألفي ذرة في مكانين بنفس الوقت

حواسيب المستقبل: الحواسيب العصبونية والحواسيب الكمومية

ترجمة: مهران يوسف

تدقيق: بدر الفراك

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر