بشيء من التأمل والتفكير فيما يحدث الآن من تطور علمي مهول، ستجد أنّ العام 2023 هو بداية العهد التطبيقي للذكاء الاصطناعي. فمؤخرًا، وتحديدًا في شهر فبراير الماضي شهدنا ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات نمو استخدام تطبيق الذكاء الاصطناعي ChatGPT، سجل بذلك تفوّق منقطع النظير ببلوغ عدد مستخدميه إلى 100 مليون مستخدم حقيقي في شهرين فقط وهو الأعلى في التاريخ. لم يكن نصيب النجاح لتطبيق ChatGPT وحده، فرافقه ارتفاع استعمال أدوات الرسم باستخدام الذكاء الاصطناعي مثل: مولد الفن.

كما هي طبيعة الأمور، لم يكن كل شيء سلسًا لهذه التطبيقات. ففي يناير من العام الحالي، رُفعت دعوة قضائية في المحكمة الفيدرالية الأمريكية ضد مولدات الفن المُستخدمة للذكاء الاصطناعي، مثل: Stability AI و Midjourney وأيضًا DeviantArt’s DreamUp؛ بذريعة انتهاكهم حقوق الطباعة والنشر عبر استخدامهم غير المصرح به لأعمال فنانين أصلية لدى تدريب النماذج الخاصة بهم.

لم يضحِ ChatGPT بعيدًا عن مرمى تلك الدعاوى، فقد واجه مؤخرًا قضايا جنائية تتعلق بالسرقات الأدبية وتقديم أجوبة غير دقيقة ومسؤولة. وبهذا فقد أصبح ChatGPT متهمًا رسميًا، وسط أصوات منددة برفع قضايا ضده وضد مطوريه OpenAI مستقبلًا.

وفي هذا السياق، فقد أتت دعوة قضائية باسم رجل أسترالي يدعى بريان هود يشغل العمدة الحالي لمجلس ضواحي الشمال الغربي لمدينة ملبورن، وذلك على وقع ادعاء تطبيق الذكاء الاصطناعي ChatGPT بأنّ الأخير كان قد قبع في السجن لبعض من الوقت بتهمة تتعلق بالرشوة. إنّ المشكلة في هذا الادعاء لا تكمن في الاختلاق، بل على العكس كان لبريان هود دورًا إيجابيًا بارزًا في الفضح والتبليغ عن نفس قضايا الرشاوي التي نسبها ChatGPT إليه.

وفي تفصيل أكثر لتلك القضية، فقد غُرّمت شركتين مملوكتين من البنك الأسترالي الاحتياطي والمؤسسة المالية سيكارنسي وكذلك Note Printing Australia بما مجموعه 21 مليون دولار أسترالي؛ وذلك على إثر ثبوت تورطهم بتهم تتعلق بالرشاوى بعد إجراء تعاملاتهم الخاصة بتأمين عقود لأوراق نقدية لصالح مسؤولين أجانب من إندونيسيا وفيتنام وماليزيا، في عام 2012.

ومن ناحية مثبتة، كان لبريان هود دورًا فعّالًا في القضية القانونية تلك، إذ بادر بإخبار السلطات ووسائل الإعلام فور درايته بالنشاطات غير الشرعية لتلك المؤسسات المالية. وكان ذلك دافعًا لإليزابيث هولينجورت قاضي المحكمة العليا الفيكتورية للإشادة بتصرفه النبيل وشجاعته.

وفي وقتٍ لاحق، وعند سؤال تطبيق الذكاء الاصطناعي ChatGPT عن ماهية دور بريان هود الذي كان قد لعبه في قضية الرشوة الخاصة بسيكارنسي، اختلق وقتها قصة مختلفة تمامًا، جاء فيها: «لقد كان بريان هود من أوائل الأشخاص الذي اُتهموا بقضية رشوة. ففي عام 2011، وُجهّت إليه ثلاث تهم تتعلق بالرشوة؛ ذلك نتيجة تعامله مع مسؤولين أجانب من إندونيسيا وماليزيا، ولاحقًا اعترف هود بالتهم المنسوبة إليه، وعلى إثر اعترافاته كان قد أُودع السجن لمدة سنتين وثلاثة أشهر».

بعد كل هذه الادعاءات الكاذبة التي حاكها ChatGPT ضده لم يلتزم هود الصمت، إذ قدّم محاموه نيابةً عنه إشعارًا بمخاوفهم إلى مطوري ChatGPT وذلك في أواخر مارس، وعليه لم يتلقوا ردًا من OpenAI حتى وقت كتابة هذه المقالة.

توقعات تسدّ العجز

وفقًا لبيان إخلاء المسؤولية المرفق بواجهة ChatGPT فإنّ على مستخدميه توخي الحذر؛ بسبب احتمالية توليده معلومات غير دقيقة حول أشخاص أو أماكن وحتى حقائق. علاوة على ذلك، كانت قد تداولت OpenAI فكرة الموضوع التجريبي لـ ChatGPT واعتباره أداة غير مكتملة، وبررت طرحها له بأهداف متعلقة باستكشاف الأخطاء المحتملة وتعديلها. يؤمّن هذا شيئًا من الراحة حيال قضية بريان هود، إضافةً إلى اقتراحات تنسب هذه المشاكل إلى الأخطاء الدورية المتأصلة بالأدوات التقنية ككل وخاصة ما يُخضع للتدريب منها.

تعقيبًا على هذه القضية، يقول البروفيسور جيف ويب من قسم علوم البيانات في جامعة موناش: «إنّ نماذج اللغات الضخمة مثل ChatGPT هي ارتداد صوت لجميع النماذج والأنماط التي قد دُربّت عليها مسبقًا، وبهذا تتشكل لديها قواعد معرفة يمكن بواسطتها تعزيز قدرتها على التعبير أو حتى اختلاق سيناريوهات عن مواضيع ذات صلة بالنماذج اللغوية التي دُربّت عليها. وبالنسبة لقضية بريان هود فلا يمكننا تحديد أيًا من حالتيه تلك قد اتخذ ليصل إلى نتيجة تلفيقه الاتهام».

حتى وقت كتابة هذه المقالة، سُئل تطبيق الذكاء الاصطناعي ChatGPT مرارًا العديد من الأسئلة المصممة لغاية تجريب الحصول على نفس تلك النتائج الملفقة بقضية التشهير بهود، ولكنّ جميع المحاولات باءت بالفشل. من المحتمل أن تكون OpenAI أجرت تعديلات حقيقية على النموذج كرد فعل على تهم التشهير. إضافة إلى ذلك، جُربّت نفس مجموعة الأسئلة على إصدار GPT-3.5 وأعطت نفس النتيجة “أجوبة غير ملفقة”.

رغم عدم وضوح المعالم المستقبلية لقضية التشهير بهود تلك، فإن ما توضّح لغاية الآن هي المشكلات المرتقبة والكامنة وراء استخدام الذكاء الاصطناعي في مثل هذه الأمور. إذ تقتصر قدرات نماذج اللغة في الذكاء الاصطناعي على طبيعة البيانات التي دُربّت بها. ومع ذلك لا تزال تلك النماذج تفتقر التفكير النقدي أو حتى فهم الكلام المبطّن “غير المباشر بحروفه”.

على كل حال، نجح ChatGPT بإدراك أنّ بريان هود كان متورطًا في قضية جنائية متعلقة بالرشوة ضد مؤسستين ماليتين أستراليتين، لكنه لم يتمكن من إدراك أو فهم أن هذا التورط كان إيجابيًا.

كل ما يسعنا القول الآن، إنّ الأمل لا يزال موجودًا بالنسبة للتحسينات المستقبلية لنموذج GPT، كما هو الحال في إصداره الأخير GPT-4 الذي أُطلق بأوائل مارس، ووفقًا إلى تقرير OpenAI المرافق فقد كان الإصدار الأخير مبشرًا؛ لحمله تحسينات بحوالي 40% بما يخص دقته المتعلقة بالأمور الواقعية لقضايا النزاعات. ولا يمكننا الآن سوى مراقبة تلك التحسينات ومدى التحسّن في النظرة الموضوعية لـ ChatGPT.

اقرأ أيضًا:

هل سيتمكن الذكاء الاصطناعي المتقدم مستقبلًا من حل كل المسائل في عالمنا؟

الذكاء الاصطناعي يتخذ قرارات تتسم بالعنصرية والتحيز الجنسي في آخر الاختبارات

ترجمة: علي الذياب

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر