نشرت مجلة نيتشر (Nature) الشهيرة مقالا بعنوان “ستيفن هوكينغ يشك في طبيعة الثقوب السّوداء”، ولكن بعدها بقليل تمّ تعديل العنوان إلى “ستيفن هوكينغ: لا يوجد ثقوب سوداء”. يتحدث المقال عن بحث هوكينغ الأخير الذي نشره على شبكة الإنترنت على arXiv، وهو ما لا يفعله عادةً. الورقة البحثية -التي لم يتم مراجعتها من النظراء بعد (Peer review)- عبارة عن صفحتين بدون أي حسابات رياضية، ومن المفترض أنه ملخّص لما قاله في مؤتمرٍ علميّ، ولكن في الحقيقة هو رأي قد طرحه منذ عشرة أعوام  في المؤتمر العالمي عن النسبية العامة والجاذبية الـ17.

الثقوب السوداء هي مناطق فائقة الكثافة تنشأ من النجوم الكبيرة بعد “موتها”، جاذبية الثقوب السّوداء كبيرة جدًا بحيث لا يستطيع الضوء نفسه أن يفلت منها – ولهذا تبدو لنا سوداء، لأن الضوء يذهب ولا يعود. الثقوب السوداء هي محلّ اهتمام علماء الفيزياء النظرية وعلماء الفلك. عند الحديث عن طبيعة الثقوب السوداء، فهنالك تعارض بين النسبية العامة والفيزياء الكمّية – وهما عمادَي الفيزياء الحديثة. هناك المفارقة المعروفة بـ”مفارقة المعلومات”، ومفارقة أخرى، “الجدار الناري”، التي أتى بها بولشينسكي في عام 2012. [نرجو مراجعة مقالنا عن الخبر للمزيد من التفاصيل].

حين يتحدّث ستيفن هوكينغ، فعليك أخذ الملاحظات، ذلك لأنه عالم كبير معروف بذكائه، ولكن هل يخطئ هوكينغ؟ بالطبع يخطئ. آخر رهان كان قد خسره هوكينغ كان مع الفيزيائي جوردون كين من جامعة ميتشيغن، حيث راهن هوكينغ على 100$ بأنه لن يتمّ اكتشاف بوزون هيغز، ولكن بعد اكتشاف الجسيم في سيرن، أقر هوكينغ بخسارته للرهان مؤكدًا أن هذا اكتشاف رائع وأن بيتر هيغز يستحق من أجله جائزة نوبل (وهو ما حدث بالفعل في نوبل للفيزياء عام 2013).

هناك رهان آخر خسره هوكينغ وسماه “أكبر خطأ فاضح” في حياته العلمية. وهو الرهان الذي بدأ عام 1997 واستمر لمدة 7 أعوام، بينه هو وكيب ثورن وبين جون بريسكل من جامعة كالتك، حيث رأي هوكينغ وثورن أنّ المعلومات حين تدخل إلى الثقوب السوداء يتمّ فقدانها إلى الأبد، بينما رأى بريسكل أن هذا يخالف قوانين الفيزياء. وفي الحقيقة هذا كان مثار جدل بين العلماء، فهناك أيضًا من عارض هوكينغ مثل ليونارد سسكيند مؤلف كتاب “حروب الثقوب السوداء: معركتي مع ستيفن هوكينغ من أجل جعل ميكانيكا الكمّ بأمان”، وجيرارد تهوفت أحد أكبر علماء الفيزياء النظرية في العالم.

ولكن، هل ادّعى هوكينغ فعلا بأنه “لا يوجد ثقوب سوداء”، أم أنّ هذا مجرّد عنوان الصحف لجذب انتباه القارئ؟ في الواقع، هذه الجملة مأخوذة نصًا من الورقة البحثية، ولكن ليس ما يقصده هوكينغ هو أنه لا يوجد ثقوب سوداء في الكون، بل الثقوب السوداء بالتعريف المعروف علميًا هو غير صحيح، في رأيه. “غياب أفق الحدث يعني أنه لا يوجد ثقوب سوداء – بمعنى النُظُم التي لا يمكن للضوء أن يهرب منها”، كما قال في البحث، مفترضًا “الأفق الظاهري” بدلا عن أفق الحدث، حيثُ يمكن للمعلومات أن تفلت. (نرجو مراجعة مقالنا عن الخبر للمزيد من التفاصيل في هذا الشأن). ولكن ما هو رأي العلماء؟

مما لا شك فيه، لا إختلاف على وجود الثقوب السوداء، ففي النهاية لقد تمّ ملاحظة هكذا أشياء في الكون، الإختلاف هو على طبيعتها الفيزيائية. تقول كاترين ماك، عالمة الفيزياء الفلكية “قول هوكينغ بعدم وجود ثقوب سوداء يشبه قول الاتحاد الفلكي الدولي بأن بلوتو ليس كوكب. فلا شيء تغير فيما نلاحظه”. شبه أيضًا يان أونيل، رئيس تحرير أخبار ديسكفري عن الفضاء، تعريف هوكينغ بـ”الثقب الرمادي” بدلا من الثقب الأسود. أما برايان كوبرلاين، أستاذ الفيزياء بجامعة روشستر فيقول: “إن كان هوكينغ محقًا، فقد حلّ مفارقة المعلومات/الجدار الناري التي أزعجت الفيزياء النظرية. ولكن الثقوب السودااء لا زالت موجودة، تلك الموجودة في منتصف مجرتنا لم تذهب، ولكن قد يفتقدوا أفق حدث.”

أخذًا في الإعتبار أن الورقة لا تدخل في التفاصيل، بل هي مجرد ملخص للفكرة، أو الخطوط الرئيسية لها، فمن الصعب الحكم على الفور بأن الإدعاء صحيح أو خطأ، ولكن هنالك بالفعل شك بين العلماء. يقول بولشينسكي: “لا يتضّح (من الورقة البحثية) ماذا يتوقع (هوكينغ) من شخص يقع داخل الصقب الأسود أن يرى. يبدو أنه يُبدل الجدار الناري بجدار فوضى، وهو ما قد يكونان نفس الشيء”.

سامويل برونشتين من جامعة يورك بالولايات المتحدة، والذي دخل في مثل هذه الجدالات بشأن الثقوب السوداء، أيضًا غير مقتنع: أنا لا أرى أي دليل يوضّح أن ما يتحدث عنه لا يمتلك جدار ناري”. بينما الفيزيائي دون بيدج، خبير الثقوب السوداء بجامعة ألبرتا بكندا الذي تعاون مع هوكينغ في السبعينيات، يقول “وجهة النظر التي يقدمها تبدو منطقية، يمكنك القول أنه لمن الجذري الإقتراح بعدم وجود أفق حدثـ ولكن هذه حالات كمومية بشكل عالي، كما يوجد غموض عن ماهية الزمكان نفسه، فما بالنا بوجود منطقة محددة يمكن تعريفها بأفق الحدث.”

بيدج يلفت الانتباه أنه بمفهوم مثل الأفق الظاهري يفتح الباب أمام سيناريو بعيد حيث “سيمكن لأي شيء من حيث المبدأ الخروج من الثقب الأسود”. إذا كان هوكينغ على حق، فقد يفتقد أيضًا الثقب الأسود لتفرد في لُبه، بدلا من هذا، المادة ستبقى مؤقتًا فقط خلف الأفق الظاهري، حيث تنجذب إلى الداخل بسبب جاذبية الثقب الأسود، ولكن لن تتكسّر في منتصفه. معلومات هذه المادة لن تضيع، بل يتظهر بطريقة مختلفة تمامًا في هيئة “إشعاع هوكينغ”ـ بحيث يكون من المستحيل معرفة ماذا دخل إلى الثقب، “قد تكون أسوأ من محاولة إعادة تركيب كتاب من رماده بعد حرقه” على حد قول بيدج، أو كما شبهها هوكينغ في الورقة البحثية كمحاولة توقع الجو قبلها بوقت كبير.

رافييل بوسّو، عالم الفيزياء النظرية بجامعة بيركلي في كاليفورنيا، وتلميذ سابق لستيفن هوكينغ: “فكرة عدم وجود نقطة من بعدها لا يمكنك الهروب من الثقب الأسود، هي في حد ذاتها فكرة مشكوك فيها أكثر من فكرة وجود الجدار الناري، ولكن حقيقة أننا لازلنا نناقش مثل هذه الأسئلة بعد 40 عامًا من أبحاث هوكينغ الأولى عن الثقوب السوداء والمعلومات هو شهادة على الأهمية الهائلة لهذا”.

في النهاية، يعترف ستيفن هوكينغ بأن التفسير الكامل يحتاج إلى نظرية تدمج بنجاح الجاذبية مع قوى الطبيعة الأخرى. “الإجابة الصحيحة تبقى لغزًا.” بكلمات هوكينغ.