كانت بداية القائد المغولي جنكيز خان (1162-1227) متواضعةً، لكنه أسس أكبر الإمبراطوريات مساحةً في التاريخ، إذ وحد قبائل الهضبة المنغولية ثم فتح بنفسه أجزاءً واسعةً من آسيا الوسطى والصين، وتابع خلفاؤه ما بدأه فاستمروا بتوسيع الإمبراطورية حتى ضمت فيتنام وكوريا وبولندا وسوريا، فحكم المغول في أيام مجدهم نحو 30 مليون كيلومتر مربع، كلها أراض متصلة تقارب مساحتها مساحة قارة إفريقيا.

لم يتورع جنكيز خان عن ارتكاب المذابح ضد السكان لضم بلادهم لدولته، لكنه منح الحرية الدينية لرعاياه ومنع التعذيب وشجع التجارة وخلق أول نظام بريد دولي في العالم، ثم مات سنة 1227 في أثناء حملة عسكرية ضد مملكة شيا الغربية في الصين، ولا يُعرف مكان دفنه.

منع جنكيز خان رسم صورته أو نقشها على العملة أو نحت تمثال له، فلم تظهر صوره إلا بعد موته.

جنكيز خان في حياته المبكرة

وُلِد تيموجين (الذي عُرِف لاحقًا باسم جنكيز خان) نحو 1162 في منطقة بين منغوليا وسيبيريا حاليًا، وتقول الأسطورة إنه وُلد وفي يده اليمنى جلطة دم.

في ذلك الوقت كانت عشرات القبائل البدوية تتقاتل باستمرار في سهوب آسيا الوسطى وينهب بعضها بعضًا، ولم تكن أم جنكيز خان إلا سبية خطفها أبوه، وهكذا ترعرع تيموجين في جو من العنف والتقلب، وقبل بلوغه العاشرة مات أبوه مسمومًا على يد قبيلة معادية، ثم هجرته قبيلته -هو وأمه وإخوته السبعة- لكيلا تضطر إلى إطعامهم.

لم يمر كثير من الوقت حتى قتل تيموجين أخاه غير الشقيق، وبإزاحة هذا الأخ الأكبر تزعم العائلة الفقيرة، أما عشيرته التي هجرته سابقًا فقد أسرَته لاحقًا لكنه تمكن من الفرار.

تزوج تيموجين (بورته) التي أنجبت له 4 أولاد وعددًا غير معلوم من البنات، وقد أنقذ زوجته بشجاعة بعد اختطافها، ثم بدأ بتكوين التحالفات وبناء سمعته بوصفه محاربًا، فجذب عددًا متزايدًا من الأتباع.

جنكيز خان: مؤسس أكبر إمبراطورية في التاريخ - القائد المغولي جنكيز خان - أكبر الإمبراطوريات مساحةً في التاريخ - أول نظام بريد دولي في العالم

إن معظم ما نعرفه عن نشأة جنكيز خان مصدره كتاب (التاريخ السري للمغول)، وهو -على حد علمنا- أقدم كتاب تاريخي وأدبي عند المغول، وقد كُتب بعد موت جنكيز خَان بوقت قصير.

جنكيز خان وتوحيد المغول

اختار تيموجين وضع الرجل المناسب من حلفائه في المكان المناسب، بدلًا من عادة تعيين الأقارب، وأعدم بعد كل نصر قادة القبائل المعادية لكنه ضم أعضاءها إلى قبيلته، ومنع أتباعه من أخذ الغنائم حتى تحقيق النصر الكامل، ونظم المحاربين في فرق من 10 أفراد دون أخذ صلة القرابة بعين الاعتبار.

كان تيموجين أرواحيًا، أي إنه آمن بأن الأرواح تملأ الكون وتتدخل في شؤون البشر فتضرهم وتنفعهم، لكن ديانات أتباعه تنوعت، فكان منهم المسيحي والمسلم والبوذي.

في عام 1205 قضى تيموجين على كل منافسيه ومنهم صديقه المقرب السابق (جاموكا)، وفي العام التالي دعا إلى اجتماع لممثلي مختلف جهات المنطقة فأسس دولةً تقارب مساحتها مساحة منغوليا الحالية، وأعلنه الممثلون حاكمًا للعالم فدعوه بلغتهم (تشينغِس خان)، وعرفه العالم باسم (جنكيز خان).

جنكيز خان وتأسيس الإمبراطورية

حكم جنكيز خان نحو مليون نسمة بعد أن وحد قبائل السهب المنغولي، ومن تشريعاته أنه ألغى الألقاب الموروثة ليقضي على أسباب الحروب القَبَلية، وحرّم بيع النساء وخطفهن ومنع استرقاق أي مغولي، وجعل الإعدام هو عقوبة سرقة المواشي.

وضع جنكيز خَان أيضًا نظامًا للكتابة، وأجرى الإحصاء السكاني بانتظام، ومنح السفراء الأجانب حصانةً دبلوماسية، وسمح بحرية المعتقد قبل أن تُعرف هذه الفكرة في أي مكان آخر.

كانت أولى حملات جنكيز خان خارج منغوليا حملته ضد مملكة شيا الغربية الواقعة شمال غرب الصين، وقد شنّ المغول هجومهم الشامل بعد سلسلة من الغارات سنة 1209 فوصلوا إلى أبواب (ينشوان) عاصمة المملكة.

لم يكن للجيش المغولي -على عكس سائر الجيوش- خط إمداد سوى قافلة ضخمة من الخيول، وقد تكوّن الجيش في معظمه من فرسان متمرسين في الغارات، مجهزين بالأقواس والسهام القاتلة، وفي ينشوان تظاهر الجيش بالانسحاب، وهو تكتيك عُرف به المغول، ثم ضرب الحصار حول المدينة وحاول إسقاطها، ورغم فشل المحاولة استسلم ملك شيا الغربية ودفع الجزية.

ثم التفت المغول إلى أسرة جين في شمال الصين فهاجموها بعد أن أخطأ حاكمها وطلب خضوع جنكيز خان. أخذ المغول -رغم قلة عددهم نسبيًا- يخربون الريف بين سنتي 1211 و1214 فتدفق النازحون إلى المدن وندر الطعام، وانتهى الأمر بجيش جين إلى قتل عشرات الآلاف من الفلاحين من بني جلدتهم، وفي سنة 1214 حاصر المغول العاصمة زونغدو (بكين الحالية)، فوافق حاكمها على دفع كميات كبيرة من الحرير والفضة والذهب والخيول إلى المغول.

سرعان ما نقل حاكم جين بلاطه جنوبًا بعد أن رأى التهديد المغولي بأم عينيه، فاتخذ مدينة (كايفنغ) عاصمةً جديدةً له، أما جنكيز خان فقد عد هذا القرار خرقًا للاتفاق المعقود بينهما، فدمر (زونغدو) بمساعدة الفارين من جيش (جين).

وفي سنة 1219 بدأت الحرب بين المغول والإمبراطورية الخوارزمية (تركمانستان وأوزبكستان وأفغانستان وإيران حاليًا)، وكان سبب الحرب هو أن السلطان الخوارزمي كان قد وافق على عقد معاهدة تجارية مع المغول، لكن أول قافلة أرسلوها نُهبت وقُتل تجارها، وأتبع السلطان ذلك بقتل بعض سفراء جنكيز خان.

لم يهتم جنكيز خَان بقلة عدد جنده قياسًا بجند خوارزم، فاكتسحها المغول وأسقطوا مدنها واحدةً تلو الأخرى، ولم تسلم منهم حتى المدن الكبرى مثل بُخارى وسمرقند وجرجانية، وقتل المغول كبراء المدن والجنود المقاومين لكنهم حافظوا -كالعادة- على حياة العمال المهرة كالنجارين والصاغة، أما العمال غير المهرة فقد استُخدموا دروعًا بشرية في الحملات التالية.

لا يُعرف على وجه الدقة عدد من قُتِل في حروب جنكيز خان، ويعود ذلك جزئيًا إلى محاولة المغول إظهار أنفسهم بمظهر القساة عديمي الرحمة ليرهبوا أعداءهم.

موت جنكيز خان واستمرار إمبراطوريته

في سنة 1225 عاد جنكيز خان إلى منغوليا مسيطرًا على أراض شاسعة امتدت من بحر اليابان شرقًا حتى بحر قزوين غربًا، لكنه لم يكتف بذلك بل وجه اهتمامه مجددًا إلى مملكة شيا الغربية، التي امتنعت عن إمداده بالجنود إبان غزو مملكة خوارزم.

استمر جنكيز خَان في حملته على شيا الغربية، رغم تردي صحته بعد سقوطه من فوق ظهر جواده، ما سبب له جروحًا داخليةً في مطلع 1227، ومات جنكيز خان في 18 أغسطس 1227 قبل أن تسحق جيوشه شيا الغربية بقليل.

فتح جنكيز خان من الأراضي ضعف ما فتحه أي قائد آخر في التاريخ، فأقام خط تواصل بين حضارات الشرق والغرب، وواصل خلفاؤه -ومنهم أوقطاي خان وقوبلاي خان- مسيرته ففتحوا الشرق الأوسط وشرق أوروبا وما تبقى من الصين، وغزوا اليابان وجاوة (في إندونيسيا) قبل أن تنهار إمبراطوريتهم في القرن الرابع عشر، واستمر نسل جنكيز خان بالحكم حتى خُلِع آخر أحفاده سنة 1920.

اقرأ أيضًا:

ارث جنكيز خان الجيني في خطر … رجال آخرون دخلوا في المنافسة

ما الذي وقف في وجه حرب المغول وحال دون استعمارهم لأوروبا؟

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: حسام التهامي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر