عصر النهضة بفلورنسا، حيث العلم والفن ولا شئ سواهما، حيث الخلاف الضاري بين فلورنسا وروما ” مقر البابوية “، وقبل ثلاث ايام من وفاة احد اباطرة الفن والنحت في التاريخ ” مايكل انجلو “، وُلِدَ عالم ممن سيغيروا طريقة العلم ومساره، وكأن القدر اختار للعالم استمرارية نحو التطور العلمي، هذا الشخص هو محور حلقتنا اليوم ” غاليليو غاليلي “.

كان لوالد غاليليو اثر كبير، في تحديد طريقة تفكير ابنه، فوالد غاليليو كان مؤمن بتشجيع الفكر الحر، الغير مقيد بأي قيود لاهوتية، بل يجب على الجميع التساؤل، لأن التساؤل وحده هو من سيقود الفرد للحقيقة. درس غاليليو الرياضيات بجامعة بيزا، وفي عام 1592 التحق بطاقم التدريس، بعد ان اثبت كفاءة ومهارة عالية، وقضى بهذه الهيئة 18 عام، تعتبر من اخصب وازهى ايام حياته.

نقد غاليليو العديد من افكار ارسطو، فمثلًا اعتقد ارسطو، بأن حركة الجسم لا يمكن ان تستمر، الا اذا ظل الجسم على تماس مع القوة المحركه له، ولكن غاليليو اثبت، بأن حركة الجسم لا تتوقف، عند انفصاله عن الجسم المُسبب لحركته، بل تتناقص سرعته تدريجيًا، ويتوقف هذا على مقدار الأحتكاك الذي يلاقيه الجسم، وقد قاد هذا التفسير غاليلو لمفهوم ” العطالة “.

لم تكن مساهمات غاليليو في العلم فيزيائية فقط، بل انه اتجه لعلم الفلك، فقام بمحاولات رصد عديدة للقمر وكوكب المشترى، فاستطاع ان يفسر تضاريس سطح القمر، بعد ان قام برصده عدة مرات، مما جعله ينفر من التزمت الديني، فرصد غاليليو على سطح القمر العديد من المرتفعات، والوديان والسهول، مما دفعه للأعتقاد بأن القمر والأرض اصلهما ومادتهما واحدة، وحينها تعارض هذا مع فكرة مركزية الأرض السائدة، والتي تتضمن على ان الأرض مركز الكون، ومادتها لا شبيه له في مكان اخر.

تضامن غاليليو مع نظام كوبرنيكوس ومركزية الشمس، وضعه في خلاف حاد مع الكنيسة، لا سيما وأن الكنيسة وقتها، قد عانت من الأنشقاق، بسبب حركات الأصلاح البروتوستانتي، مما دفع الكنيسة لتوقيع عقوبات رادعة على كل محاولة تخالف منهجها المُتبع، وبالفعل مخاوف غاليليو من مواجهة هذه السلطة الدينية، تأكدت بعد اعدام ” جيوردانو برونو “، بعد اعلانه بأن الكون لا نهائي وبه عدد لا نهائي من العوالم، ورفض التراجع عن افكاره، فعوقب بالسجن 6 سنوات، ثم تم اعدامه.

وفي عام 1616م، حدث ما كان يخشاه غاليليو فقد وُجهت اليه بعض التحذيرات، من محكمة التفتيش التابعة للسلطة الدينية، تحذره فيها من تمسكة بمبدأ مركزية الشمس، او محاولة نشر هذا المبدأ وتروجيه، وتعليمه للناس، وبما أن غاليلو رجل تجريبي اكثر من برونو، فقد علم ان ليس هناك اي فائدة من الموت بالأعدام، دون تحقيق اي مصلحة، لذلك وافق على شروط المحكمة. ولكن عام 1623م، صعد ” اوربان الثالث ” على كرسي البابوية، وقد جمعته صداقة قديمًا بغاليليو، وظن به غاليليو انه سوف يكون نصيرًا للعلوم والفنون، وقد كان بالفعل، فهذا الرجل سمح لغاليليو بعرض نظريتة، تحت مُسمى تأملات كونية، ولكنه كان يعارض مضمونها.

اعداء غاليليو في مقر البابوية، لاحظوا بزوغ نجمه، واضمحلال فلسفة ارسطو، فهمسوا في اذن البابا، بأن غاليليو قد تخطى المسموح، ووجب عليه القدوم للمحاكمه، وقد كان هذا عام 1632، وحُكم عليه بالركوع والأعتراف بخطأ نظرية مركزية الشمس، واقيم في منزله بفلورنسا، ثمان سنوات تحت الأقامة الجبرية.

غاليليو له دور كبير في تحرير العلم، من التأملات الفلسفية الزائفة، او التي ليس لها قيمة، كما انه ارسى مفاهيم علمية كثيرة، طورت من العلم خاصة في مجال الميكانيكا، فعلم الميكانيكا نشأ من مرحلتين، المرحلة الأولى علم الحركه ( Kinematics )، فهذا العلم يدرس حركة الأجسام دون معرفة الأسباب التي ادت لهذه الحركة، والعلم الثاني هو علم التحريك ( Dynamics (ynamics ثاني هو علم التحريك دون معرفة الأسباب التي ادت لهذه الحركة، لها قيمة، كما انه ارسى مفاهيم علمية كثيرة، طورت من العلم ل) ، فهذا العلم يدرس القوى التي تؤثر على الأجسام المتحركه، ولكن علم الميكانيكا لم يتطور تمامًا الا بعد نشر نيوتن قوانينه عن الحركة.

لم يتوقف غاليليو عند هذا الحد، فدرس سقوط الأجسام الحر، أي الحركة التي تواجه اي نوع من المقاومة، ولكنه اخذ في الحسبان مقاومة الهواء للأجسام الساقطة، وذلك لأنه لم يكن بالأمكان الوصول لمكان مفرغ نهائيًا من الهواء، فأحضر كرات معدنية صغيرة ذات كتل مختلفة، وبما ان مقاومة الهواء تتوقف على مساحة الجسم المواجه للهواء، فأن الكرة تواجه مقاومة اقل من اي جسم اخر، وبسبب عد توافر كاميرات تقوم بتصوير السقوط الحر ببطء، فابتكر غاليليو طريقة تساعده في حل هذه المعضلة، فاستخدم الأسطح المائلة الملساء ليقيس التغير في سرعات الجسم الساقط.

ملاحظات غاليليو لم تنتهِ عند هذا الحد، فهذه الملاحظات كانت مفتاح لقوانين نيوتن فيما بعد، واولها هو مفهوم العطالة، حيث لاحظ غاليليو، بأن الكرة المتحركة على جسم منحنِ، تزداد سرعتها بأزمنة متساوية، لكن ما أن تصل لسطح افقي فأنها تتحرك بأستمرار بسرعة ثابتة، وقد عارض هذا المبدأ ارسطو، القائل بأن عندما تؤثر قوة ما في جسم فأن تأثيرها يتضح في جعله متحركًا بسرعة ثابته، ولكن تجارب غاليليو اثبتت ان القوة تؤثر في سرعة الأجسام المتحركة، سواء بالزيادة او النقص، وهنا ربط غاليليو لأول مرة بين القوة والسرعة.

شهرة غاليليو العظيمة، اكتسبها من تليسكوبه الفلكي، الذي انتقل بعلم الفلك من علم يحتمل الصواب والخطأ في الرصد العيني، الى علم لا يخطأ ويقرب الحقيقة الاف المرات، وبعد العديد من محاولات الرصد من غاليليو بمقرابه الفلكي، توصل الى اربع حقائق، اثبتت صحة نظام كوبرنيكوس الشمسي، وبطلان نظام بطليموس، وهم :-

1 – سطح القمر ملئ بالحفر والمرتفعات، وبالتالي بطلت فكرة ان الأجرام السماوية كاملة .

2 – اوجه اطوار كوكب الزهرة والقمر متشابهين، مما يدل على ان كلاهما يدور حول الشمس لا حول الأرض.

3 – هناك اربعة اقمار تدور حول المشترى، مما يدعم نظام كوبرنيكوس الشمسي.

4 – درب التبانه تتألف من العديد من النقط المضيئة البعيدة جدًا، والتي فسرها فيما بعد على انها نجوم.

الى هنا ينتهي قطار رحلتنا في فلورنسا، وعند غاليليو، وهذا القطار الذي سينتقل بنا الى انجلترا، حيث يقطن السير، الذي سنتعرف اسهماته في عدة حلقات قادمة.


 

المصدر الأول

المصدر الثاني

المصدر الثالث