يعتبر المخيخ واحدًا من أكثر المناطق المعروفة في الدماغ، ويمثل 10٪ فقط من الحجم الكلي للدماغ، (المكوّن من المخ، المخيخ والنخاع المستطيل)، لكنه بالمقابل يحتوي على أكثر من 50 % من خلايا الدماغ العصبية.

على الرغم من قدرته الهائلة على معالجة المعلومات، فقد افترض العلماء فيما مضى أن دور المخيخ يكمن خارج نطاق الوعي، وبذلك يقتصر دوره على تنسيق الأنشطة البدنية مثل الوقوف والتنفس.

لكن علماء الأعصاب في العام الماضي اكتشفوا دورًا هامًا للمخيخ في عملية الاستجابة للمكافئة وهي إحدى الدوافع الرئيسية التي تشكل السلوك البشري.

هذا الاكتشاف لا يقتصر على فتح آفاق بحث جديدة للمنطقة الصغيرة والتي ظلت لقرون مرتبطة بشكل أساسي بالمهارات الحركية والحسية، فهو بالإضافة إلى ذلك يشير إلى أن الخلايا العصبية -تسمى بالخَلاَيا الحُبَيبِيَّة- والتي تشكل جل خلايا المخيخ تعمل بطرق لم نتوقعها مطلقًا.

«بالنظر إلى وجود جزء كبير من الخلايا العصبية في المخيخ، كان هناك تقدم طفيف نسبيًا في فهم دور المخيخ ضمن الصورة الكاملة لآلية تحليل الدماغ للمهام، وكان جزء كبير من سوء الفهم هذا مبنيًا على الافتراض بأن دور المخيخ ينحصر بتنظيم المهام الحركية فحسب». وذلك حسب تصريح أحد أعضاء الفريق البحثي Mark Wagner – مارك واجنر-، من جامعة ستانفورد.

ويضيف مارك: «أتمنى أن يساعدنا هذا الاكتشاف بالقيام بدراسات أخرى في مناطق دماغية أكثر أهمية كالقشرة الدماغية، والذي سيساعدنا أيضًا في فهم الصورة الكليّة لعمل الدماغ».

المخيخ موجود في الجزء الخلفي من الدماغ، ويتصل مع القشرة الحركية بشكل كبير-وهي جزء من القشرة الدماغية الموجودة في الفص الجبهي للدماغ- والمسؤولة عن التخطيط والتحكم في الحركات الإرادية وكبحِها عند الضرورة.

على الرغم من ظهور بعض التلميحات التي تشير إلى علاقة المخيخ بالعمليات المعرفية مثل وظيفة الانتباه أو حتى اللغة، اقتصرت الأبحاث السابقة على الخلايا الحبيبية بربطها بالوظائف الأساسية الحسية أو الحركية.

وهذا أمر منطقي، إذ أن الأعراض التي تظهر لدى شخص يعاني من تضرر في المخيخ غالبًا ما تكون عبارة صعوبات في الحفاظ على توازنه، أو أداء مهارات حركية دقيقة مثل الوصول للأشياء والإمساك بها، أوالبقاء في وضعية الانتصاب وقوفًا.

وقال Lecon Lo – ليكون لو- أحد الباحثين: «إن كان لديك اضطراب في المخيخ، فإن أول ما سيظهر عليك من عوارض هو الخلل في التنسيق الحركي».

ولكن قد يكون هناك الكثير من الوظائف لهذه المنطقة، ذلك وقد ثبت أن الدماغ البشري يحتوي على ما يقارب الـ60 مليار خلية حبيبية مخيخية –والذي يفوق عدد الخلايا العصبية الباقية مجتمعة– هذه الحقيقة تجعل مهمة دراسة المخيخ مستحيلة.

لمعرفة كيفيّة سيطرة المخيخ على عضلات الفئران، استخدم فريق جامعة ستانفورد تقنية جديدة لمراقبة الخلايا الحبيبية، والتي ألقي عليها اسم التصوير بالكالسيوم ثنائي الفوتون، فقد مكنتهم هذه التقنية من تسجيل نشاط العصبونات (الخلايا العصبية) في ذات الوقت.


بإمكانك رؤية نتيجة هذا النوع من التصوير في الصورة، إن اللون الأخضر الزاهي ليس لونًا خاطئًا، إنه في الواقع نتيجة لمادة تسمى بروتين الفلورسنت الأخضر، أو GFP

ينتج هذا البروتين بشكل طبيعي عن طريق الحيوانات ذات التألق الحيوي كقنديل البحر، ولأن إدخاله إلى الجينوم يلحق القليل من الضرر على الخلايا، فقد تم استخدامه لهندسة أشياء مثل Glofish -جلوفش- (وهي أسماك تتألق بفعل الصبغات الجينومية) وفئران “النيون”.

كما أنها سهّلت على الباحثين تتبع نشاط بعض الخلايا آنيًا، فعند إدخالها في الحمض النووي DNA للمخلوق ستضيء في كل مرة يتم ترجمتها إلى RNA أو إلى بروتين.

لمعرفة ما يمكن أن يكشفه GFP في الفئران الخاصة بهم، حفّز الباحثون الفئران للتحرك عن طريق تقديم محلول لذيذ مكون من مياه السكر في كل مرة تقوم الفئران بدفع الرافعة.
وتوقعوا رؤية ما يجري في المخيخ استجابة لهذه الحركات الجسدية، لكن ما حدث كان مفاجأة، فقد اتضح أنّ هنالك صلة واضحة بين الخلايا الحبيبية واستجابة المكافأة المحرّضة بماء السكر.

كما يشرح الفريق، فإن بعض الخلايا الحبيبية تنشطت فعلًا عندما دفعت الفئران الرافعة، لكن مجموعة أخرى من الخلايا الحبيبية كانت تنشط عندما كانت الفئران تنتظر المكافأة أو تحصل عليها.

وعندما توقفوا عن إعطائها المكافأة بالكامل، أدّى ذلك إلى تعطيل مجموعة أخرى من الخلايا الحبيبية في المخيخ.
وأضاف Lecon Lo – ليكون لو-: «لقد كانت فعلًا ملاحظة جانبية، إن الخلايا تستجيب للمكافأة حقًا».

كما وأشارت جيسيكا هول في مجلة “إكستريم تيك” في عام 2017، أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها ربط منطقة من الدماغ باستجابة المكافأة بدلًا عن التنسيق الحركي، العقد القاعدية الموجودة في قاعدة الدماغ الأمامي مثال حي على ذلك، إذ تعمل هذه العقد أيضًا على هاتين الوظيفتين، وتشيرهذه الدراسة الجديدة إلى أن المخيخ يبدو معقدًا بشكل مماثل.

وبالطبع، نتائج الدراسة حتى الآن لم تلاحظ إلا على الفئران، لذلك لا يمكننا الجزم من أنها ستشير إلى نفس النتائج إلى حين تطبيقها على البشر.

لكن المخيخ يُعتبر منطقة تحتوي على واحد من أقدم الارتباطات التطورية في جميع مناطق الدماغ، كما ويتم توصيله بطرق متشابهة في جميع أصناف الفقاريات، لذلك قد تكون هناك فرصة جيدة لتشير الدراسات لنتائج مشابهة في البشر أيضًا.

إنه مجرد تذكير آخر بتعقيد الدماغ اللامتناهي في الثدييات، وكنتيجة لرغبتنا نحن البشر بتحزيء الأشياء، فإننا نخاطر بفقدان الأدوار المتقنة التي تلعبها كل منطقة في طريقة تفكيرنا وشعورنا وتحركنا.


  • ترجمة: د.محمد خالد الحورية
  • تدقيق: آية فحماوي
  • تحرير: أحمد عزب
  • المصدر