لا بد من أنك شعرت بالنشوة وانخفاض في مستويات التوتر والقلق والألم بعد ممارسة التمارين الرياضية، لكن هل تساءلت يومًا ما هو المسؤول عن شعورك بما يسمى «نشوة العداء»؟

قد يفاجئك بحث جديد في علم الأعصاب المختص بالتمارين الرياضية.

تُعزى نشوة العداء إلى مواد كيميائية تُنتَج طبيعيًا في جسم الإنسان والحيوان على حدٍ سواء بعد ممارسة التمارين الرياضية استجابةً للألم والتعب، تسمى الإندورفينات.

تلخّص الدراسة الجديدة ما يقارب عقدين من العمل حول هذا الموضوع، إذ وجد الباحثون أن ممارسة التمارين الرياضية تزيد على نحوٍ موثوق من مستويات الكانابينويدات الداخلية -وهي جزيئات كيميائية تحافظ على التوازن الداخلي في الدماغ والجسم- في عملية تسمى «الاستتباب الداخلي». قد يفسر هذا التعزيز الكيميائي الطبيعي بعض فوائد ممارسة التمارين الرياضية على الدماغ والجسم.

ستؤثر هذه الدراسة في كل من يمارس الرياضة لخفض مستويات الضغط النفسي، وستكون بمثابة حافز للذين لا يمارسون الرياضة بانتظام.

الفوائد الصحية لممارسة الرياضة

أثبتت الدراسات على مر العقود أن التمارين الرياضية مفيدة للصحة البدنية، إذ وجدت هذه الدراسات ارتباطًا وثيقًا بين النشاط البدني بمختلف شداته وانخفاض خطر الوفاة المبكر وعشرات الحالات الصحية المزمنة، بما في ذلك مرض السكري وارتفاع ضغط الدم والسرطان وأمراض القلب.

في الآونة الأخيرة -على مدار العقدين الماضيين- تزايدت الدراسات حول فوائد ممارسة التمارين الرياضية فتبين أنها مفيدة أيضًا للصحة العقلية، إذ ارتبطت ممارسة التمارين الرياضية بانتظام بمستويات منخفضة من القلق والاكتئاب والتوتر واحتمال أقل للإصابة بمرض باركنسون وغيرها من مشكلات الصحة العقلية والعصبية الشائعة، إضافةً إلى تحسن في الأداء المعرفي والحالة المزاجية وتعزيز شعور الثقة بالنفس.

من غير الواضح بعد ما هو المسؤول عن هذه التعزيزات الصحية العقلية، لكننا نعلم أن ممارسة التمارين الرياضية لها تأثيرات متنوعة في الدماغ، بما في ذلك زيادة معدل الأيض وتدفق الدم وتعزيز تكوين خلايا دماغية جديدة -يطلق على هذه العملية تكوين الخلايا العصبية- وزيادة إطلاق العديد من المواد الكيميائية في الدماغ، التي تسمى بعوامل التغذية العصبية مثل عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ BDNF.

يساهم BDNFبصورة معقدة في مرونة الدماغ أو التغيرات في نشاط الخلايا الدماغية بما في ذلك العمليات المتعلقة بالتعلم والذاكرة.

أثبت العلماء أن ممارسة التمارين الرياضية تزيد من مستوى الإندورفينات في الدم، التي تعد أحد المركبات الأفيونية الطبيعية في الجسم إذ تؤثر هذه المركبات الكيميائية في الدماغ وتساعد على تخفيف الألم.

ساهمت بعض الأبحاث في ثمانينيات القرن الماضي في تعزيز الاعتقاد السائد بأن إطلاق هرمون الإندورفين مرتبط بالشعور بالنشوة المعروفة باسم نشوة العداء.

تساءل العلماء منذ فترة طويلة عن دور الإندورفينات في الشعور بنشوة العداء، فالإندورفين لا يمكنه عبور الحاجز الدماغي الدموي الذي يعد عائقًا يُبقي الدماغ آمنًا من جزيئات وعوامل ممرضة معينة، لذلك من غير المحتمل أن يكون الإندورفين هو المسؤول الأساسي عن الفوائد المتعددة لممارسة التمارين الرياضية، بما في ذلك تحسين الحالة المزاجية والعقلية.

من خلال هذه النقطة، يضيء بحثنا وأبحاث الآخرين في هذا المجال على نوع آخر من الجزيئات الطبيعية التي تُنتج في الجسم وتعد سببًا في حدوث نشوة العداء، تُعرف بالكانابينويدات الداخلية endocannabinoids.

دور الكانابينويدات الداخلية

قد تكون على دراية بنبات القنب مثل رباعي هيدروكانابينول THCالمركب ذو التأثير النفسي في نبات القنب الذي يجعل الناس يشعرون بالنشوة، أو ربما سمعت عن الكانابيديول CBD وهو مستخلص من الحشيش يوضع في بعض الأطعمة والأدوية والزيوت والعديد من المنتجات الأخرى.

لكن ما سيفاجئك أن للبشر نسخة خاصة من هذه المواد الكيميائية تُسمى الكانابينويدات الداخلية، وهي جزيئات صغيرة مصنوعة من الشحوم أو الدهون تنتشر في الدماغ والجسم، إذ يشير مصطلح «إندو» إلى المواد المصنوعة في الجسم وغير المستخلصة من النبات أو المصنوعة في المخبر.

تعمل الكانابينويدات الداخلية على مستقبلات القنب في جميع أنحاء الدماغ والجسم، إذ لها تأثيرات مختلفة بما في ذلك الحد من القلق والتوتر وتعد بمثابة مخفف طبيعي للألم، إضافةً إلى تحسين عملية التعلم والذاكرة وتؤثر في الإحساس بالجوع وتقوي جهاز المناعة.

تتأثر مستويات الكانابينويدات الداخلية بتناول الطعام وأوقات النهار والليل والتمارين الرياضية والسمنة والإصابة والالتهابات والضغوطات.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه لا ينبغي على المرء أن يميل للتخلي عن الجري أو ركوب الدراجة ويلجأ إلى تدخين القنب أو ابتلاعه بدلًا عن ذلك، إذ تكمن أهمية الكانابينويدات الداخلية بعدم وجود التأثيرات غير المرغوبة التي تصاحب الشعور بالنشوة مثل الضعف العقلي.

ما نشوة العداء ؟

تشير الدراسات التي أُجريت على البشر والنماذج الحيوانية إلى أن الكانابينويدات الداخلية -وليس الإندورفينات- هي العامل الأبرز والمسبب الرئيسي لنشوة العداء، وتبرهن أيضًا على أنه عندما تُحجب المستقبلات الأفيونية -مثلًا عبر عقار النالتريكسون- لا يفقد الناس التأثيرات الإيجابية لممارسة الرياضة بما فيها شعورهم بالنشوة والحد من شعورهم بالقلق والألم.

على الجانب الآخر، أظهرت الدراسات أن حجب تأثيرات مستقبلات القنب قلل من فوائد ممارسة التمارين الرياضية بالشعور بالمتعة والألم والقلق.

في حين أظهرت العديد من الدراسات أن ممارسة التمارين الرياضية تزيد من مستويات الكانابينويدات الداخلية المنتشرة في الدم، بعضها أبلغ عن بعض الموجودات المتناقضة أو أن جزيئات مختلفة من الكانابينويدات الداخلية تُنتج تأثيرات متنوعة.

لا نملك الإجابة الكافية عمّا إذا كانت ممارسة جميع أنواع التمارين الرياضية مثل ركوب الدراجة أو الجري أو تمارين المقاومة مثل رفع الأثقال تؤدي إلى نتائج مماثلة. ويظل السؤال مطروحًا: هل الأشخاص الذين يعانون أو لا يعانون حالات صحية موجودة مسبقًا -مثل الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة أو الألم العضلي الليفي- يواجهون تأثيرات الكانابينويدات الداخلية نفسها؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، قُمنا بمراجعة منهجية وتحليل شمولي لـ 33 دراسةً منشورة حول تأثير ممارسة التمارين الرياضية في مستويات الكانابينويدات الداخلية.

قارنّا تأثير التمارين المكثفة مثل الجري أو ركوب الدراجة مدة 30 دقيقةً، مع تأثير التمارين المخففة على مدى طويل مثل برنامج الجري مدة 10 أسابيع أو برنامج رفع الأثقال.

فصلنا التأثيرين عن بعضهما لأن لاختلاف المستويات وأنماط الجهد تأثيرات مختلفة للغاية في استجابة الكانابينويدات الداخلية.

وجدنا من خلال الدراسات أن التمارين المجهدة عززت باستمرار مستويات الكانابينويدات الداخلية، إذ كانت التأثيرات متناغمة أكثر بالنسبة للمرسال الكيميائي الذي يعرف باسم أنانداميد أو «جزيء النعيم» وسُمي بذلك لتأثيراته الإيجابية في الحالة المزاجية.

بصورةٍ مثيرة للاهتمام، راقبنا التعزيز المرتبط بالتمارين الرياضية للكانابينويدات الداخلية عبر الأنواع المختلفة من التمارين الرياضية بما في ذلك الجري والسباحة ورفع الأثقال، وعبر الأفراد الذين يعانون أو لا يعانون من حالات صحية موجودة مسبقًا.

على الرغم من أن دراسات قليلة فقط أخذت بعين الاعتبار شدة التمرين ومدته، يبدو أن ممارسة التمارين بشدة معتدلة مثل ركوب الدراجة أو الجري أكثر فعاليةً من ممارسة التمارين منخفضة الشدة مثل المشي ببطء أو على منحدر منخفض عندما يتعلق الأمر برفع مستويات الكانابينويدات الداخلية.

تشير هذه النتائج إلى أنه من المهم الحفاظ على معدل ضربات القلب مرتفعًا، -أي ما بين 70% أو 80% من الحد الأقصى لمعدل ضربات القلب المعدل حسب العمر- مدة 30 دقيقةً على الأقل لكسب الفوائد كاملةً.

ما يزال هناك الكثير من الأسئلة حول الروابط بين الكانابينويدات الداخلية وفوائد التمارين الرياضية.

فمثلًا، لم نلحظ تأثيرات ملائمة لنظام التمارين طويلة الأمد مثل برنامج ركوب الدراجة مدة 6 أسابيع في مستويات الكانابينويدات الداخلية في الراحة.

وبالمثل، لم يتضح بعد ما هو الحد الأدنى من التمارين الرياضية للحصول على دفقة من الكانابينويدات الداخلية ومدة بقاء هذه المركبات مرتفعة في الجسم بعد التمارين المجهدة.

رغم كل هذه التساؤلات، فإن هذه النتائج تقرّب الباحثين خطوة بتجاه فهم كيف تفيد التمارين الرياضية الدماغ والجسم، وتوفر حافزًا مهمًا لتخصيص وقت لممارسة الرياضة حتى خلال العطلة.

اقرأ أيضًا:

نشوة العداء: حين تنتشي بعد الركض، ما أسبابها وفوائدها؟

ماذا يحدث عند الإقلاع عن تدخين الحشيش؟

ترجمة: سارا رياض الخضر

تدقيق: نور عباس

مراجعة: لبنى حمزة

المصدر