تؤر الموسيقى في الدماغ بطيف واسع يشمل الأداء المعرفي (الإدراكي) وحتى مستويات التوتر. يستمع كثير من الناس إلى الموسيقى في أثناء العمل، أو ممارسة الرياضة، أو الاسترخاء. ولكن كيف تستطيع الموسيقى أن تؤثر فينا؟

تحفز الموسيقى إفراز الدوبامين (هرمون السرور والتحفيز والمكافأة)، إضافةً إلى فقد أثبت العلم أيضًا أنها تُحسّن من الأداء المعرفي، وتُزيل أعراض القلق والتوتر، وتُحافظ على التركيز. فليس من الغريب إذن أن يستمع كثيرون إلى الموسيقى خلال التمارين الرياضية، أو قبلها، أو بعدها.

تقول ديزيريه سيلفرستون بوصفها معالجة نفسية من لندن: «تنشط القشرة السمعية في أدمغتنا (المسؤولة عن معالجة الأصوات) عندما نستمع إلى أغنية … وهذا التفعيل للقشرة السمعية ينشط مناطق أخرى من الدماغ مثل الجهاز الحوفي (المسؤول عن المشاعر)، والقشرة المحركة (المسؤولة عن حركات الجسم)».

وأضافت أنه كلما ازداد عدد المناطق المُفعلة في الدماغ ازدادت تأثيرات الموسيقى. فعندما تستمع إلى موسيقى سريعة الوتيرة، ستشعر بمزيد من اليقظة والطاقة، وعندما تستمع إلى نوع أكثر هدوءًا، سيبدأ جسمك بالاسترخاء.

الأداء المعرفي

كم مرة استطعت أن تتذكر كلمات أغنية، ولكن لم تقدر على تذكر ماذا فعلت خلال العطلة؟ نُشرت دراسة عام 2008 في مجلة (Perception and Motor Skills) اكتشف فيها الباحثون قدرة الإيقاع الموسيقي -مع كلمات أو دونها- على تسهيل عملية استذكار النصوص، ذلك يعني أن الاستماع إلى الموسيقى يساعد على تذكر المعلومات.

نُشرت دراسة أخرى عام 2010 بنفس المجلة تتحدث عن دور الموسيقى في تحسين الوظائف المعرفية، إذ اختبرت الدراسة 56 طالبًا وطالبةً جامعيين في مجالات اللغة والتحليل الفراغي في أثناء استماعهم إلى 10 مقتطفات من سيمفونيات موزارت.

وجدت التجربة أن للموسيقى دورًا في زيادة سرعة التحليل الفراغي (سرعة تمييز الأشكال الهندسية، وتمييز أنماط الأجسام ومواقعها)، وزيادة دقة المعالجة اللغوية (القدرة على معالجة الكلمات).

ولكن كيف يحدث ذلك؟ بناءً على دراسة نُشرت عام 2007 في مجلة (Aging Clinical and Experimental Research)، فإن هذا التحسن في وظائف الدماغ تفسره فرضية المزاج والإثارة (arousal and mood hypothesis).

أكدت الفرضية أن الموسيقى تعزز من مستوى الإثارة (شعور اليقظة والانتباه) ما يزيد من كفاءة استدعاء الذاكرة. وتقترح النظرية أيضًا أن الاستماع إلى الموسيقى المسلية يجعل مهمة التعلم أكثر تشويقًا، ومن ثم زيادة المستوى الإجمالي للانتباه لدى المتعلم.

القلق والاكتئاب

بحسب بحث نُشر عام 2017 في مجلة (Frontiers in Psychology) فإن للموسيقى دورًا في تخفيف أعراض الاكتئاب. إذ وجد الباحثون في 26 دراسةً من أصل 28 انخفاضًا واضحًا في مستويات الاكتئاب لدى المجموعة التي استمعت إلى الموسيقى مقارنةً بالمجموعة الأخرى التي لم تستمع. وأظهر المسنون تحديدًا تحسنًا كبيرًا عند استماعهم إلى الموسيقى أو مشاركتهم بالعلاج الموسيقي (music therapy). ويتضمن العلاج الموسيقي العزف والتلحين والاستماع إلى الموسيقى، بالإضافة إلى التفاعل معها.

وبحسب رأي جوردان فياس لي بوصفه معالجًا نفسيًا، فإن الاستماع إلى الموسيقى المبهجة سيحفز المشابك التي تُخزن الذكريات الشخصية الإيجابية، إذ تُحجَب هذه المعلومات الإيجابية عن الدماغ في أثناء نوبة الاكتئاب. ويؤكد جوردان أيضًا أن الموسيقى لا تشفي من الاكتئاب بالكامل ولكن لها دورًا داعمًا في العلاج.

وجد بحث نُشر عام 2022 في مجلة (Musicae Scientiae) أن الاستماع إلى الموسيقى كان له تأثير مخفف قوي للقلق لدى عدد من المجموعات. كانت مدة أغلب الجلسات في البحث 30 دقيقة، لكن الباحثين قارنوا بين فترات زمنية مختلفة، لمعرفة المدة التي يجب أن يستمع فيها الشخص إلى الموسيقى حتى يزول القلق.

التوتر

يؤدي تعرض الإنسان إلى فترات طويلة من الضغط الشديد إلى تخريب جسده، ويقول الخبراء إن للموسيقى دورًا في تخفيف الضغوط النفسية والجسدية، تمامًا مثل اليوغا والتأمل والرياضة.

قال جوردان: «تعمل الموسيقى أساسًا على النواقل العصبية في الدماغ، إذ تزيد إفراز السيروتونين والدوبامين وتقلل من آثار الكورتيزول».

وأشار إلى دراسة نُشرت عام 2015 في مجلة (The Lancet) أظهرت أنّ الاستماع إلى الموسيقى قبل العمل الجراحي وفي أثنائه وبعده قلل الألم والتوتر الناجمين عن هذا الإجراء الطبي.

يتابع جوردان: «لكن الدليل الأدلة على ذلك غير مكتملة، بينما تشير الأدلة الحالية إلى تحفيز الموسيقى للاستجابات الجسدية والعاطفية، ما يؤدي إلى تفعيل المسارات المسؤولة عن الذكريات والمشاعر الإيجابية في الدماغ، ما يؤدي بدوره إلى تقليل الضغط».

إنتاج الدوبامين

يُعد الدوبامين جزيء إرسال ويعمل ناقلًا كيميائيًا في الجهاز العصبي وهرمونًا في باقي أنسجة الجسم، ومن المعروف ارتباطه بمشاعر السعادة والمتعة لكنه يؤدي وظائف كثيرة في الجسم.

تقول ديزيريه :«عندما ترتفع معدلات الدوبامين نشعر بالسعادة ويتغير مزاجنا نحو الأفضل، وهو أيضًا مرتبط بنظام المكافأة في الدماغ ما يفسّر شعورنا بالرضا عند الاستماع للموسيقى». وقد نُشرت دراسة تؤكد هذه الآلية عام 2019 في مجلة (Proceedings of the National Academy of Sciences).

وصف الباحثون ثلاثة أدوية (طليعة دوبامين، ومضاد دوبامين ودواء وهمي) لثلاث مجموعات مختلفة، ثم استمع أعضاء هذه المجموعات إلى 10 أغاني بوب يفضلونها. وجد الباحثون أن طليعة الدوبامين، والدواء الوهمي قد زادوا من الاستجابة للمتعة، بعكس مضاد الدوبامين.
سلبيات الموسيقى

تحدثنا عن قدرة الموسيقى على تحسن الحالة النفسية، ولكنها قد تُحبط المزاج أيضًا خصوصًا إذا كنا في حالة ذهنية سيئة.

في مقالة نُشرت عام 2019 في (Psychology of Music) وجد الباحثون أن 17% من المشاركين بالتجربة قالوا إنهم شعروا بالحزن أكثر عند سماعهم لموسيقى حزينة، مع أنّ المشاركين الباقيين لم يشعروا بالحزن.

يقول جوردان:«الاستماع إلى موسيقى حزينة أو مملوءة بالغضب مدة طويلة يزيد إفراز الكورتيزول، ويحفز مناطق في الدماغ مسؤولة عن المشاعر السلبية، إضافةً إلى تفعيل نظام الشعور بالخطر … طريقة استماع الأشخاص للموسيقى، وكيفية تفاعلهم معها، وعدد مرات تكرارهم للأغاني، كلها عوامل رئيسية تؤثر في صحتهم النفسية».

اقرأ أيضًا:

العلاج النفسي بالموسيقى

يعود أصل الموسيقى التي نعرفها الآن إلى أغاني الحروب والتهويدات!

ترجمة: عمار علي نصري

تدقيق: منال توفيق الضللي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر