أعلنت وسائل الإعلام عن آخر الاكتشافات المشجعة لتجربة سريرية بشأن لقاح تجريبي للسرطان طورته الشركة المختصة بالتكنولوجيا الحيوية «موديرنا» لعلاج نوع خبيث من سرطانات الجلد يسمى ميلانوما.

على الرغم من أن هذه الأخبار سارّة، ولكن قد يكون العنوان مضللًا قليلًا، فاللقاح الذي يعرفه الناس يقي من الإصابة بالمرض، في حين أن هذا اللقاح التجريبي لسرطان الجلد يعالج المرضى الذين أصيبوا بالسرطان بالفعل، إذن لماذا يسمى باللقاح إن لم يقي من السرطان؟

قال مارك أوبراين، عالم في جامعة بافالو: «أنا عالم في الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية، أدرس دور الميكروبات في الصحة والمرض، وأعلّم طلاب الطب أيضًا السرطانات وجيناتها، ومهتم بكيفية فهم الناس للعلم، وعلى الرغم من أن كلًا من اللقاح الوقائي والعلاجي يُستخدمان لأغراض صحية مختلفة، فكلاهما يساعد الجهاز المناعي في التعرف على عامل ممرض معين يسبب الأمراض ومكافتحه».

كيف يعمل اللقاح الوقائي؟

تعطى أغلب اللقاحات للناس الأصحاء قبل إصابتهم للوقاية من الأمراض التي تسببها الفيروسات والجراثيم، كالتي تقي من شلل الأطفال والحصبة وكوفيد-19، وأمراض أخرى عديدة، وطور الباحثون أيضًا لقاحات للوقاية من بعض السرطانات التي تسببها الفيروسات كفيروس الورم الحليمي البشري وإبشتاين-بار.

يتعرف الجهاز المناعي على بعض الكائنات كالجراثيم ومسببات الحساسية التي لم تكن موجودة في الجسم من قبل، ويبدأ الجهاز المناعي بسلسلة من العمليات الخلوية لمهاجمة هذه الكائنات وتدميرها، وهكذا فور دخول فيروس أو جرثومة إلى الجسم، يتعرف عليها الجهاز المناعي باعتبارها جسمًا غريبًا، ويطلق استجابة مناعية لمكافحة هذا الغزو البكتيري، وسينتج عن هذه العملية ذاكرة خلوية تساعد في إطلاق استجابة مناعية أسرع عند دخول الميكروب نفسه مرةً أخرى.

يتعرض الجسم أحيانًا لأمراض خطيرة عند دخول الميكروب لأول مرة قبل أن يستطيع البدء بإطلاق استجابة مناعية ضده، وقد يكون الجسم محميًا من الإصابة التالية، ولكن بعد أن يواجه العواقب المحتملة من الإصابة الأولية.

هذا هو دور اللقاحات الوقائية، إذ يقدم اللقاح نسخة غير ضارة من الميكروب أو جزءًا صغيرًا منه للجهاز المناعي ليبدأ استجابة مناعية فعالة ضده دون التسبب بأعراض المرض.

مثلًا، يحمي لقاح غاردازيل-9 من فيروس الورم الحليمي البشري الذي قد يسبب سرطانات عديدة منها سرطان عنق الرحم، وتحوي لقاحات السرطان هذه مكونات بروتينية من الفيروس التي لا تسبب المرض، ولكن قد تطلق استجابة مناعية تحمي مستقبلًا من عدوى فيروس الورم الحليمي البشري، وبذلك تقي من سرطانات عديدة.

كيفية عمل لقاح السرطان موديرنا؟

على عكس بعض السرطانات، لا تسبب العدوى الفيروسية سرطان الميلانوما حسب أحدث الأدلة، وكذلك لا يقي لقاح السرطان التجريبي موديرنا من حدوث السرطان مثل لقاح غاردازيل-9.

يساعد لقاح السرطان موديرنا الجهاز المناعي في محاربة الجسم الغريب الذي يجتاح الجسم بطريقة مشابهة لكيفية عمل اللقاحات الوقائية المعتادة، ولكن في هذه الحالة الجسم الغريب المجتاح هو السرطان الذي يُعد ورمًا خبيثًا من الخلايا التي تحمل بروتينًا غير طبيعي يستطيع جهاز المناعة التعرف عليه ومحاربته.

ما هذه البروتينات غير الطبيعية ومن أين تأتي؟

تتكون جميع الخلايا من بروتينات وجزيئات بيولوجية أخرى مثل: الكربوهيدرات والليبيدات والأحماض النووية.

يحدث السرطان بسبب طفرة بالمادة الوراثية الدنا، تقدم التعليمات لصنع أنواع محددة من البروتينات، وينتج عن هذه الجينات المتحورة بروتينات غير طبيعية تسمى المستضدات المستحدثة التي يتعرف عليها الجهاز المناعي بوصفها جسمًا غريبًا، ويطلق استجابة مناعية ضدها لمحاربة السرطانات الناشئة، ولكن أحيانًا تفشل الاستجابة المناعية في السيطرة على الخلايا السرطانية، إما لأنها لم تكن قوية كفاية لكبحها أو لأن الخلايا السرطانية وجدت طريقة تخدع بها دفاعات الجهاز المناعي.

يتكون لقاح السرطان التجريبي موديرنا من معلومات وراثية ترمز بروتينات مستضدات السرطان، وتوجد هذه المعلومات الوراثية في صيغة الرنا المرسال mRna، وهي نفس الصيغة الموجودة في لقاح فايزر-بيونتك المضاد لكوفيد-19.

لا يستطيع لقاح السرطان أن يسبب نشوء الورم؛ لأنه يحوي أجزاءً صغيرة غير وظيفية من البروتين، وعندما تترجم المعلومات الجينية إلى هذه البروتينات داخل الجسم، فإنها تطلق استجابة مناعية تهاجم بها السرطان، وتسبب هذه الاستجابة في أفضل الحالات انكماش الورم واختفائه.

الجدير بالذكر أن لقاح سرطان الميلانوما يصنع لكل حالة مرضية بطريقة خاصة؛ لأن كل ورم مميز بحد ذاته، لذلك يجب أن يكون له لقاحه. ولتخصيص كل لقاح للسرطان، يجب على العلماء أولًا أخذ خزعة من الورم لتحديد نوع المستضدات الموجودة فيه، وبعدها يصمم صانعو لقاح السرطان جزيئات محددة من الرنا المرسال التي ترمز هذه المستضدات الموجودة، وعندما يعطى لقاح السرطان المعتمد على الرنا المرسال المخصص، يترجم الجسم المعلومات الوراثية إلى بروتينات مخصصة لورم المريض تطلق استجابة مناعية ضد السرطان.

دمج اللقاح مع المعالجة المناعية

يعد لقاح السرطان شكلًا من أشكال المعالجة المناعية؛ لأنه يعالج المرض من خلال الجهاز المناعي، ولكن العلاجات السرطانية المناعية الأخرى ليست لقاحات؛ لأنها على الرغم من تحفيزها للجهاز المناعي، فإنها لا تستهدف مستضدات محددة.

في الحقيقة، يعطى لقاح السرطان موديرنا بالاشتراك مع دواء العلاج المناعي بمبروليزوماب الذي يوجد في السوق باسم كيترودا، ولكن لما نحتاج كلا الدوائين؟

تحوي خلايا مناعية تسمى الخلايا التائية مسرعات جزيئية ومكونات التوقف التي تعمل كنقاط تفتيش لضمان عدم تنشيط الخلايا التائية إلا في حالة غزو كائن غريب للجسم مثل الورم، ولكن أحيانًا تجد الخلايا السرطانية طريقة لإيقاف الخلايا التائية وكبح الجهاز المناعي، وفي هذه الحالة يحدد لقاح السرطان موديرنا الورم بدقة، ولكن لا تستجيب الخلايا التائية له.

بيد أن دواء بمبروليزوماب يرتبط مباشرةً بنقطة توقف في الخلايا التائية ويعطل نظام الإيقاف، ويسمح للخلايا المناعية بمهاجمة الورم.

لقاح للسرطان غير وقائي

إذن لماذا لا يُعطى لقاح السرطان موديرنا للناس الأصحاء قبل الإصابة بسرطان الميلانوما؟

يختلف السرطان من شخص إلى آخر، وتحوي كل ميلانوما مستضدات مختلفة لا يمكن توقعها في وقت مبكر، لذلك لا يمكن تطوير اللقاح قبل الإصابة بالمرض.

ما يزال لقاح السرطان التجريبي المعتمد على الرنا المرسال في مراحله الباكرة من التجارب السريرية، وهو مثال على الحقل العلاجي الجديد من الأدوية الشخصية (دواء مخصص لكل شخص حسب حالته)، إذ يستطيع العلماء معرفة الأسباب الأساسية للأمراض المتنوعة بين الناس بفهم أساسها الجزيئي، وتقديم خيارات علاجية شخصية ضد هذه الأمراض.

اقرأ أيضًا:

لقاح يقتل الخلايا السرطانية في الدماغ ويمنعها من النمو

كيف تمكن الوقاية من بعض أنواع السرطانات باللقاح؟

ترجمة: غنى عباس

تدقيق: هادية أحمد زكي

مراجعة: لبنى حمزة

المصدر