قد لا يظهر تلاعب الأهل بعقول أبنائهم لمراقب خارجي، تمامًا مثل جرائم ذوي الياقات البيضاء -مصطلح يطلق على الجرائم غير العنيفة والمرتكبة لدوافع مالية من قبل رجال الأعمال وأصحاب النفوذ-، فقد لا يتضمن اعتداءً بدنيًا أو إهمالًا للطفل، بل أنها قد تكون منسجمةً مع المظاهر العائلية المعتادة مثل أخذ الأطفال في رحلات والتحقق من تقدمهم الدراسي والاحتفال في يوم ميلادهم.

بالنظر إلى مقطع من السيرة الذاتية لأوغستين بوروز (ذئب على طاولة الطعام) يصف فيه طبيعة علاقته مع والده: «أذكر مرات قليلة أخذني أبي معه إلى الجامعة وقدمني إلى زملائه، لقد بدا عطوفًا لدرجة أنني كنت أتساءل: ما الخطب بي؟ لماذا أشك به؟ لقد كان والدي أمام الناس مثل أي والد في العالم ولكن عندما أكون وحيدًا معه أشعر بأنه ليس أبي، أدركت أن أبي كان شخصين الأول يراه العالم في وضح النهار والآخر أكثر ظلامًا لا يراه أحد، مختبئ وراء الوجه الذي يراه الجميع».

وفي جزء آخر من الكتاب يصف انعزال والده وعدم مشاركته لأي نشاط معه رغم محاولاته العديدة، يقول أوغستين: «راودني حلم عندما كنت طفلًا بأن والدي أخذني إلى الغابة حيث كانت هناك جثة هامدة ودفنها أبي وأخبرني بأني يجب علي ألا أخبر أحدًا، وهذا كان النشاط المشترك الوحيد لي مع والدي، وعلى عكس بقية الأحلام فما زالت ذكراه تراودني، وهذا جعلني أتسائل: هل كان ذلك مجرد حلم؟».

يعتبر امتلاك الوالد شخصيتين أحدَ أشكال سوء المعاملة النفسية، قد تتهم الأم ابنتها بأن أباها يحبها أكثر منها وأنها سرقت حب والدها من والدتها، وقد تتهم الأم ابنها بأنه يحب فتاةً ما أكثر منها، وفي الواقع ما تحاول الأم فعله هنا هو تعويض الحب الذي تحتاجه من الأب عن طريق الابن.

ماذا يحدث عندما يسيء الأهل معاملة أبنائهم بدلًا من تقديم الحب - أخذ الأطفال في رحلات والتحقق من تقدمهم الدراسي - تقديم الرعاية للأطفال

وفي بعض الأحيان قد يحرض الأهل أبنائهم بعضهم على بعض بتفضيل أحدهم على الآخر، ويقنعون الطفل غير المحبوب بأنه مذنبٌ لكونه أقل جمالًا أو لأنه ليس موهوبًا. يحكي الطبيب النفسي إيرفين يالوم قصةً مرعبة حول سيدة توفت طفلتها الصغيرة، إذ اكتشف في أثناء الجلسات أنها كانت تلوم ابنها لأنه لم يمت بدلًا من أخته لأنها كانت تحبها أكثر منه.

اللوم بحد ذاته مشكلة كبيرة، فلا تقتصر القصة على اتهام الأهل ابنهم على أمر ما ليس خطأه، فهو أمر سيء ولكنه لا يُعد المشكلة الأكبر.

على سبيل المثال يعود أحد الوالدين من العمل غاضبًا وعندما يتقرب منه أحد أطفاله يبدأ بصب غضبه عليه وكأنه هو السبب، قد يشعر الوالد الصالح بالذنب في موقف مثل هذا ويحاول تعويض طفله عن غضبه غير المبرر، من شأن هذا احتواء المشكلة قبل أن تسبب آثارًا قاتلة في علاقة الطفل بوالده.

توجد حالات أخرى من اللوم مثل أن يلوم الأهل أبنائهم بسبب تعاسة حياتهم أو بسبب مشاكل في حياتهم الزوجية. في هذه الحالة تصبح العلاقة بين الطفل ووالديه سامةً تزداد كل يوم مثل سرطانٍ ينتشر، وقد يحدث هذا الأمر باستخدام عدد قليل جدًا من الكلمات، وقد توجد هذه العلاقات وتبدو مثالية جدًا مثل حالة أوغستين بوروز. قد لا يدرك الطفل المتضرر من هذه المعاملة حتى وقت لاحق ما كان يحدث حقًا.

يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لنتأكد أننا كنا ضحايا سوء معاملة الوالدين وهذا بسبب:

  •  الشعور بالإهانة لمجرد التفكير بعدم حب الشخصين الوحيدين في العالم واللذَين من المفترض أن يكونا أكثر من يحبنا ويدعمنا. وقد نتجنب مواجهة الشعور بالإهانة وإن كان ذلك سببًا في آلام أخرى.
  •  أننا نتقبل الأفكار التي يغرسها أهلنا فينا دون فحصها، قد نتقبل فكرة أننا غير محبوبين لأن أخوتنا أفضل منا بكثير ولا ندرك حتى وقت متأخر أن ذلك غير عادل بالنسبة لنا.
  •  غالبًا لا يصدق الناس ضحايا الإساءة الأبوية، ويتمسكون بأسطورة عدم وجود والدين سيئين وأن الأطفال هم من قد يسيئوا التصرف، وقد يصبح الوضع أكثر صعوبةً عندما يكون الوالدان متوفيين لأنك لن تستطيع مواجهتهما بما فعلوا.

وأخيرًا فإن الغضب المتأخر يستمر لوقت طويل يبدأ بهدوء ويعذبنا لفترة طويلة على عكس الغضب الذي يبلغ الذروة ثم يهدأ في وقت قصير.

يُظهر الأطفال المعتدى عليهم نفسيًا مرونةً ملحوظةً ويحاولون أن يصبحوا أشخاصًا جيدين على الرغم من السموم التي يضعها الآباء فيهم، هذا لا يعني أنهم شُفوا بالكامل ولكنهم يستمرون في الحياة كجنود مصابين يكملون المعركة.

ماذا الذي يمكننا فعله لحالات كهذه؟

لا يمكننا فعل الكثير تجاه الأطفال، إذ رغم وجود معالجة نفسية لهذه الحالات فمن سيأخذ الأهل إلى جلسات العلاج؟

بالنسبة للبالغين فإن تقبل الواقع هو الجزء الأهم، فمحاولة الشفاء مما حدث في الطفولة مع إنكار سببه مثل محاولة الشفاء من مرض جسدي بعد تشخيص خاطئ، حاول كما شئت فإنك في الغالب لن تنجح في الحصول على حب والدتك لكونك أكثر نجاحًا من أخيك الذي كانت تفضله دائمًا، وغالبًأ لن تنجح في الحصول على حبها بأي وسيلة، وإن كانت متوفاة لن تستطيع مواجهتها بهذا الموضوع، لذلك ينبغي لك أن تجد طريقةً للشفاء بمفردك، وأظن أن المفتاح يكمن في التصديق بأنك لم تكن مخطئًا، فليس من واجب الطفل الفوز بحب والديه أو أن يتنافس على ذلك كمن يتنافس على ترقيةٍ ما. تُعد عدم محبة أهلك لك مشكلة عندهم لا فيك أنت.

قد يساعدك أيضًا تذكر أنه ورغم علاقتك المتناقضة مع والديك، فقد كانا يظهران بعض المودة تجاهك، لعل تعاملهم معك بقسوة ينجم عن مسببات نفسية لا علاقة لك بها، أنت فقط ضحية أب وأم سيئين فأنت الهدف الأمثل لتلبية بعض احتياجاتهم النفسية المظلمة على الرغم من حبهم لك.

لا أقترح مسامحة الأبناء لوالديهم المسيئين رغم أن التسامح الحقيقي علاج بحد ذاته، وعند التفكير في ظروف الوالدين قد نجد أسبابًا تدعونا للشعور بالشفقة تجاههم.

كتبت ريبيكا ويست في روايتها (القاضية) «كل أم هي قاضية تحاكم أبنائها على خطايا والدهم»، نستطيع أن نضيف أن كل طفل قاضٍ يحاكم والديه على خطاياهم.

اقرأ أيضًا:

هل يؤثر انفصال الوالدين على رفاهية الأطفال؟

ثلاثة أشياء لا يجدر بالوالدين قولها لأطفالهم.

ترجمة: محمد طوسون

تدقيق: وائل حجازي

مراجعة: آية فحماوي

المصدر