يشير مصطلح التصنيع إلى عملية الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، ويحدث هذا عندما يتحول الاقتصاد من فترة نمو مستقر أو قليل إلى فترة نمو متسارع.

وفي حين أن الأجور ارتفعت في نهاية المطاف نتيجة عملية التصنيع، توجد عدة طرق لقياس مستوى المعيشة، ولكن هذا لا يعني أن بوسعنا ببساطة الاعتقاد أن مستويات المعيشة ارتفعت على الفور أو على نطاق واسع نتيجةً لزيادة الأجور.

أضف إلى ذلك أن العلاقة بين النمو في الأجور والإنتاجية، التي سنناقشها أدناه، أكثر تعقيدًا مما قد تبدو عليه، وتواجه الجهود الحديثة لتشجيع عملية التصنيع في جميع أنحاء العالم تحديات، مثل الاعتماد على رأس المال الأجنبي والمخاوف المتعلقة بتأثيره على تغير المناخ. وفي السنوات الأخيرة، برزت أيضًا في اقتصادات ما بعد الصناعة أسئلة عن إنهاء عملية التصنيع وركود الأجور.

الأجور قبل الثورة الصناعية

قبل عام 1800، لم تكن الاقتصادات تتسم بالنمو المتزايد. اعتمادًا على المقاييس المستخدمة لبناء التقدير، كانت مستويات المعيشة لمعظم الناس في معظم المجتمعات إما راكدة وإما تنمو ببطء شديد. ومن الأفعال التي أدت إلى منع ارتفاع الأجور بطريقة ثابتة المنطق المالثوسي المتشائم، إذ استُخدم النمو الاقتصادي المتزايد في تغذية عدد متزايد من السكان بدلًا من رفع المستوى المعيشي، فضلًا عن خطر نزع الملكية.

من الجدير بالذكر أن بعض المؤرخين يشيرون إلى تقلبات في معدلات النمو، كما هو الحال في أوروبا المليئة بالطاعون في الفترة من 1350 إلى 1450، ويقولون أن تفاعلات السلطة داخل مجتمعات معينة سمحت للنخبة -الذين غالبًا ما يكونون من أصحاب الأراضي أو العائلات المُترفة- أن يستحوذوا على ما يستطيعون تحصيله من نمو زائد للحفاظ على نمط الحياة البذِخ واستخدام هذه الموارد في بناء سمات مميزة أخرى للحضارة مثل الفن. ولكن وفقًا للتحليل الاقتصادي السائد آنذاك، كلما يحدث نمو اقتصادي يصيبه نوع من الاستقرار ويعود إلى الحالة الراكدة أو شبه الراكدة، ، ولم يستفد معظم الناس من الامتيازات التي يتمتع بها الأغنياء وذوي السلطة.

إن تطبيق مفهوم الأجور على هذه الفترات الزمنية قد يبدو فوضويًا، خاصةً لأنه يتطلب مقارنة علاقات اللوردات الإقطاعيين والرقيق (العبيد) والفلاحين (المستأجرين الإقطاعيين) بالتجار وأشكال العمل غير الزراعية. إضافةً إلى ذلك، كانت أماكن مثل الولايات المتحدة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على عمل الرقيق، الذين لم ينفق عليهم أي أجر على الإطلاق لقاء العمل المتعب والشاق. إن تقديرات الأجور الحقيقية، التي تعالج الأجور المكتسبة في بريطانيا قبل الثورة الصناعية، لا تظهر أي نمو تقريبًا قبل عام 1800. ومن ناحية أخرى، تظهر تقديرات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموًا بطيئًا ولكنه ثابت.

وفقًا للمؤرخين، قد نستطيع تفسير النتائج المختلفة للأجور مقابل الناتج المحلي الإجمالي بأن تكون فوائد الزيادة في الإنتاجية قبل عام 1800 قد ذهبت إلى الأغنياء وليس إلى العمال الفقراء، من جهة أخرى قد يقدم عمل الطبقة العاملة لفترات أطول تفسيرًا بديلًا، وتوجد تفسيرات أخرى محتملة لهذا الاختلاف الملحوظ بالذات. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن قدرًا كبيرًا من الإنتاجية التي شقت طريقها إلى معظم السكان أدت إلى النمو السكاني بدلًا من رفع المستوى المعيشي.

ولتوصيف التغيير الجذري الذي أحدثه التصنيع إلى حد ما، لاحظ عدد قليل من المؤرخين الاقتصاديين أن سجلات العمالة في أماكن مثل كاتدرائية سانت بول في لندن كشفت أن الناس كانوا يستخدمون ممارسات العمالة الحديثة في بريطانيا قبل نحو قرن من التصنيع، حتى لو لم يكن معدل النمو متفجرًا.

يقول بعض المؤرخين أن الفترة الحيوية للثورة الصناعية حدثت في الواقع في وقت أبكر بكثير من القرن التاسع عشر. فيقول المؤرخ الاقتصادي أنتون هاوس مثلًا إن الفترة ما بين منتصف القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن السادس عشر كان لها القرار الحاسم بالنسبة للثورة الصناعية لأن هذا هو الوقت الذي ظهرت فيه كثير من الابتكارات الرئيسية التي من شأنها أن تغذي التصنيع في بريطانيا، كالبيئة الحاضنة للاختراعات التي تسمح بازدهارها.

ركود الأجور المبكر ومستويات المعيشة

ربما كان النمو في فترات التصنيع الأولى في بريطانيا أبطأ مما يُعترف به أحيانًا، ومع أن الارتفاع في الأجور على الأمد البعيد لا جدال فيه، فإن أغلب المؤرخين يعتقدون أن الأجور كانت راكدةً بالنسبة لأغلب العمال في العقود الأولى من التصنيع في إنجلترا.

ومع أن ارتفاع الأجور الحقيقية كان وسيلةً شائعةً للزعم بأن التصنيع يرفع مستويات معيشة العمال، فتوجد طرق أخرى لإدراك مستويات المعيشة.

كتبت إيما غريفين، وهي مؤرخة بريطانية بارزة، أن مسألة ما حدث لأجور الناس العاديين في أثناء الثورة الصناعية البريطانية، هي واحدة من أكثر المجالات المدروسة في التاريخ الاقتصادي، وتمحورت حول استنتاج مفاده أن الأجور كانت راكدةً في الفترة المبكرة وأن الحياة تفاقمت في كل التدابير الأخرى تقريبًا.

اعتمدت غريفين في مقال عام 2018 على الجوع بوصفه وسيلة لتقييم مستويات المعيشة، وعاينت أيضًا قائمةً من التدابير الأخرى التي يستخدمها المؤرخون الاقتصاديون، ومنها مثلًا: وفيات الأطفال واستهلاك القهوة والشاي ودخل الأسرة والعمر المتوقع والتغذية والرفاه وكثافة العمل.

وتعتقد غريفين أن التركيز على النماذج الإحصائية مثل الأجور الحقيقية قد استبعد النُهج التاريخية غير التطبيقية التي من شأنها أن تدمج بطريقة أكثر دقة تجارب مجموعة أوسع من السكان.

وذهبت بالقول بأن التصنيع قد غير الوجود البشري تغييرًا أساسيًا، فرفع دخل الأسر الصناعية ولكنه جعلها أيضًا أكثر تباينًا، وأنذر في نهاية المطاف بمجتمع أكثر تعقيدًا وغير متكافئ من المجتمع الذي حل محله.

وتوجد المزيد من المقاييس، مثل معدلات الجريمة والدخل القومي الإجمالي (GNI) ونظام قياس مؤشر التنمية البشرية (HDI) الذي تستخدمه الأمم المتحدة لتقييم مستوى التنمية البشرية الفردية في كل بلد.

اقتصاديات التصنيع

تعتمد الاقتصادات الصناعية على النمو المستمر في الإنتاجية، وإذا صَح أن التصنيع أدى إلى زيادة العمالة المأجورة والإنتاجية، فهذا يعني أن العلاقة بين الاثنين كانت أكثر تعقيدًا إلى حد ما، خاصةً في العقود الأخيرة.

إن الفكرة القائلة بأن الأجور سوف ترتفع حتمًا في الاقتصاد الصناعي بالتوازي مع الإنتاجية ليست صحيحة بالضرورة. فمثلًا، يتلخص استعراض أسباب عدم نمو الأجور والإنتاجية بالتوازي بكيفية تقسيم الثروة بناءً على القوة التفاوضية النسبية للعمال. ومن بين الأسباب التي أدت إلى عدم مكافأة العمال على مستوى إنتاجيتهم القوة الاحتكارية لأصحاب العمل، وحقيقة أن العمال الأصغر سنًا يتقاضون أجرهم بطريقة منتظمة وبمستوى أقل من إنتاجيتهم، وأن تنظيم المشاريع ورأس المال البشري يحصلان على حصة متزايدة من الدخل القومي مقارنةً بالعمالة.

أُجريت دراسة في عام 2021 من مركز أبحاث في واشنطن اسمه معهد السياسات الاقتصادية، ورسمت هذه الدراسة الإنتاجية مقابل التعويض في الولايات المتحدة التي تعد واحدة من أبرز الدول الصناعية في العالم. وطبقًا لهذه الدراسة، فقد أدت الخيارات السياسية بطريقة مباشرة إلى تباين واضح بين الإنتاجية والأجور العادية للعمال.

التصنيع وارتفاع التفاوت في الدخل

في ظل التصنيع، كان عدم المساواة في الدخل يتزايد بالفعل. ففي دراسة المؤرخ فوتر ريكبوش الحاصل على دكتوراه من مركز بروكسل للدراسات الحضرية التي أجراها عام 2016 على المناطق الساحلية في شمال غرب أوروبا، وجد أن عدم المساواة قد ارتفع في القرون التي سبقت التصنيع وخلاله، ومع ذلك إلقاء اللوم على التصنيع تبسيط ساذج، فطبقًا لتحليل ريكبوش ظهرت مستويات التفاوت بين الناس في المقام الأول بسبب تركيز رأس المال وانخفاض الأجور (مقارنةً بمتوسط الدخل آنذاك).

وجد ريكبوش أن تركيز رأس المال لم يكن سائدًا في اقتصادات ما قبل الصناعة، بل إن التغيرات المؤسسية في الفترة الحديثة المبكرة فكّكت أو بدلت أشكال الحماية للعمالة من فترة القرون الوسطى بأُخرى أكثر مواتاةً لحقوق الملكية، ثم حُصنت هذه المؤسسات بفرض ضرائب تنازلية.

وقد أصبح التفاوت في الدخل مشكلةً حاسمةً في القرن الحادي والعشرين، ولقد شهدت الاقتصادات الصناعية المتقدمة انتكاسةً في التصنيع في العقود الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع مستويات التفاوت ارتفاعًا كبيرًا وجعل من الصعب على بعض العمال الحصول على وظائف ذات أجر جيد. وشهدت هذه الاقتصادات أيضًا ارتفاعًا في معدلات البطالة، واختفاء الاتحادات، وارتفاع ظاهرة الأسر وحيدة العائل، التي يقول باحثون إن التفاوت في المساواة قد زاد من تفاقمها.

كيف كانت الأجور قبل التصنيع

كانت الأجور في معظمها راكدةً أو تنمو ببطء شديد. والنمو الزائد يميل أيضًا إلى أن يستهلكه عدد متزايد من السكان أو أن يُصادر، ما يعني أنه لا يؤدي إلى زيادة في مستوى المعيشة.

هل ارتفعت الأجور بعد التصنيع

نعم، مع أن السرعة التي ارتفعت بها تعد محط نقاش. إذ تُقدر إحدى الدراسات أن أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية شهدت نموًا تراكميًا يصل إلى 1500%، مع معدل نمو ثابت من 1% إلى 2% سنويًا منذ عام 1800.

اقرأ أيضًا:

كل ما تود معرفته عن الاقتصاد التطوري

الاقتصاد المستقل

ترجمة: صقر التركاوي

تدقيق: حسام التهامي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر