كان الانتخاب الطبيعي -وما يزال- يؤثر في مئات الجينات البشرية، واقترحت دراسة جديدة أن الإبداع والتميز البشري لم يعفينا من قوى التطور.

الانتخاب الطبيعي -الآلية التطورية التي تسمح لسمات معينة أن تصبح أكثر انتشارًا في مجموعة سكانية محددة- ما تزال تعمل وتؤثر علينا خلال الثلاثة آلاف سنة الماضية إلى اليوم الحاضر، كما يشير بحث جديد.

ويبدو أن هذه الآلية تؤثر بطرق مفاجئة في سمات معقدة مشفرة بواسطة جينات عديدة، مثل الجينات المتعلقة بالذكاء والأمراض النفسية وحتى السرطان.

في الانتخاب الطبيعي، الجينات التي تزيد فرص البقاء أو التناسل هي التي تتداول وتستمر عبر الأجيال في مجموعة سكانية محددة، أما التي تنقص فرص البقاء أو التناسل تصبح أقل انتشارًا. ولا شك في أن الانتخاب الطبيعي شكّل تطور البشر في الماضي البعيد، لكن أثر هذه الآلية في الماضي القريب هو سؤال مثير للجدل.

يقترح البحث الجديد أن الانتخاب الطبيعي بالفعل هو عاملٌ مهم في الزمن الحاضر، لكن أدت الوسائل المستخدمة في هذه الدراسة إلى أخطاءٍ سابقًا، بحسب جون نوفمبر، عالم بيولوجيا حاسوبية في جامعة شيكاغو غير المشارك في البحث. هذا يعني أنه لا ينبغي أن نعتمد بالنتائج المتوصل إليها في أبحاث الانتخاب الطبيعي.
تركز الدراسة الجديدة على السمات التي تنشأ من مجموعة من المتغيرات الجينية المتعددة، مثل الذكاء ولون البشرة. تجعل الجينات المعقدة المشفرة لهذه السمات تفكيك عمل الجينات الفردية صعبًا. ولإيجاد هذه التأثيرات الخفية، يُجري الباحثون دراسات الارتباط على نطاق الجينوم (GWAS)، إذ يفحص الباحث العلامات الجينية عبر الجينوم بأكمله للعثور على تسلسلات جينية قصيرة أكثر شيوعًا في سمات معينة من غيرها.

يمكن أن يصعب تفسير هذه النتائج حتى بمقارنة نتائج الأفراد في نقطة واحدة من الزمن. وتزيد الدراسات الأحدث من صعوبة التفسير هذه بالبحث ليس فقط عن الجينات المرتبطة بالسمات المعقدة، ولكن أيضًا عن أثر الانتخاب الطبيعي على هذه السمات.

في الأساس، تخضع الجينات التي تصبح أكثر شيوعًا مع مرور الوقت للانتخاب الإيجابي: فهي مفيدة على نحو ما وبالتالي من المرجح أن تتداول وتستمر. أما الجينات التي تصبح أقل شيوعًا مع الوقت تكون تحت الانتخاب السلبي، فهي ضارة بطريقةٍ ما على البقاء أو التناسل، فتكون أقل احتمالًا للتداول والاستمرار.

قال نوفمبر لموقع لايف ساينس: «يدور الكثير من الجدل حول ما إذا كانت دراسات الارتباط على نطاق الجينوم (GWAS) جاهزة لهذا النوع من التطبيق».

الجينات المعقدة

وجد الباحثون في دراستهم 755 سمة تظهر أثر الانتخاب في آخر ألفين إلى ثلاثة آلاف سنة.

بالنسبة للعينات الحديثة، استخدم الباحثون بيانات أشخاص من أصول أوروبية في البنك الحيوي للمملكة المتحدة (U.K. BioBank)، وهو مستودع للبيانات الجينية والصحية من 500 ألف مشارك. أما بالنسبة للعينات القديمة، فقد نبشوا في الماضي، إذ استخدموا ثلاث مجموعات بيانات من الحمض النووي البشري القديم من فترة ما قبل العصر الحجري الحديث، والعصر الحجري الحديث وبعد ظهور الزراعة في الشرق الأدنى، وتضم المجموعة 512 فردًا.

نظر الباحثون في ثلاثة أطر زمنية: العصر الحديث، آخر ألفين إلى ثلاثة آلاف سنة، وحتى ما يقرب من مئة ألف سنة ماضية. وقال قائد الدراسة جوان نين لينغ، وهو أستاذ في كلية هندسة الطب الحيوي في جامعة شنغهاي جياو تونغ: «أقدم البيانات هي الأقل موثوقية».

في حين أن الباحثين لديهم معلومات مفصَّلة عن الصحة ونمط الحياة من البنك الحيوي في المملكة المتحدة (U.K. BioBank)، فلم يكن لديهم سوى جينات جزئية من العينات القديمة، ولم توجد معلومات مباشرة حول أشياء مثل عدد الأطفال لدى شخص ما أو ما تناولوه من طعام. وهكذا، استخدموا الجينات نفسها للاستدلال على السمات. على سبيل المثال، إذا زاد تردد جين معروف بأنه يشارك في الطول مع مرور الوقت، يأخذ الباحثون ذلك إشارةً إلى أن الطول ربما كان ضمن الانتخاب الطبيعي الإيجابي.

السمات التي تبدو منتخبة تتراوح ما بين سمات البشرة مثل “سهولة التسمير” إلى قياسات الجسم المختلفة. وما يثير الدهشة إلى حد ما، هو أن الجينات المرتبطة ببعض الصفات غير المرغوب فيها على ما يبدو زادت في الانتشار مع مرور الوقت، بما في ذلك الجينات المرتبطة بأمراض مثل سرطان الجلد وداء الأمعاء الالتهابي وفقدان الشهية العصابي. وهذا يشير إلى أن بعض هذه الاضطرابات تنشأ آثارًا جانبيةً لجينات مفيدة لأسباب أخرى، كما اقترح الباحثون.

قال لينغ لموقع لايف ساينس: «إذا زاد أحد المتغيرات من خطر الإصابة بمرض ما، ولكنه قلل من خطر الإصابة بمرض آخر، فإن الانتخاب الطبيعي لن يكون له تأثير قوي للقضاء على هذا المتغير».

كان لينغ وزملاؤه أكثر اهتمامًا بسؤال لماذا تستمر الاضطرابات المرتبطة بالجينات المعقدة، مثل الفصام أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، على الرغم من الانتخاب الطبيعي.

قال نوفمبر لموقع لايف ساينس: «لكن دراسات الارتباط على نطاق الجينوم GWAS يمكن أن تكون أداة صعبة لمحاولة كشف عمل الانتخاب الطبيعي».

واحدة من أكبر المشاكل هو شيء يسمى “التَطَبُّق”. الاختلافات بين مجموعتين سكانيتين يمكن أن تبدو وراثية، بينما هي في الواقع بيئية. لأن دراسات الارتباط على نطاق الجينوم توضح الارتباط بين الجينات والسمات ولا يمكن أن تؤكد السببية. ويمكن أن تصبح النتائج غريبة سريعًا.

ولاستخدام مثال كلاسيكي من ورقة بحثية نُشرت عام 1994، من الواضح أن مهارة استخدام أعواد الأكل ليست هدية من الحمض النووي: فهي مسألة ممارسة منذ نعومة الأظفار، لكن دراسة الارتباط على نطاق الجينوم (GWAS) في مجموعة متنوعة من السكان مثل سان فرانسيسكو قد تظهر بسهولة كبيرة أدلة على وجود جينات مرتبطة بمهارة استخدام أعواد الأكل بمجرد الكشف عن الجينات الأكثر شيوعًا في سكان شرق آسيا من السكان الأوروبيين.
وهذا الخطأ قد حدث في الواقع. ففي العقد الماضي، ظهرت عدد من الأبحاث التي تدَّعي أن متغيرات الجينات المرتبطة بالطول هي أكثر انتشارًا في أوروبا

الشمالية منها في أوروبا الجنوبية، وأن الانتخاب الطبيعي كان يدفع الأوروبيين الشماليين إلى أن يصبحوا أطول، في المتوسط، وفقًا للأبحاث التي نُشرت في مجلة Nature Genetics عام 2012. قال نوفمبر: «تبين أن تأثير هذه المتغيرات الجينية كان مبالغًا فيه».

عند النظر إلى تلك المتغيرات الجينية نفسها في مجموعات سكانية أقل تنوعًا -استراتيجية للحد من مشكلة التَطَبُّق- اختفت الأدلة على الانتخاب الطبيعي.

تناولت الدراسة الاختلافات البيئية غير المعروفة حتى الآن بين الأوروبيين الشماليين والجنوبيين وأخطأت في اعتبارها أمرًا وراثيًا بحتًا. كان على الباحثين إعادة التفكير في النتائج بالكامل وما يزالون غير متأكدين حول ما إذا كان الانتخاب الطبيعي له أي علاقة مع اختلافات الطول في جميع أنحاء أوروبا، وفقًا لورقة بحثية نُشرت في مجلةeLife عام 2019.

الجينات والمصير

قال نوفمبر: «إن استخدام البيانات من أشخاص من أصول أوروبية فقط يساعد على الحد من مشكلة التَطَبُّق». ولكن حذَّرَ أن الفرص لظهور هذه المشكلة ما تزال واردة.

ومن بين مئات السمات التي وجد الباحثون أنها قد تندرج ضمن الانتخاب الطبيعي، برز عدد قليل منها. وعند التركيز على بيانات العصر الحديث، وجد الباحثون أن معدل الذكاء الأعلى يرتبط مع وجود عدد أكبر من الشركاء الجنسيين، ولكن مع عدد أقل من الأطفال. وفي الوقت نفسه، ارتبط كل من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط والانفصام مع وجود المزيد من الشركاء الجنسيين. هذان الشرطان هما مثالان على السمات التي قد تشكل تحديًا في الحياة اليومية، ومع ذلك تحسن فرص نجاح التزاوج كما قال لينغ لموقع لايف ساينس.

وعند النظر إلى الماضي على مدى أكثر من مئة ألف سنة من تاريخ البشرية، وجد الباحثون أن السمات التي لها علاقة بلون البشرة وقياسات الجسم هي الأكثر شيوعًا لإظهار تأثير الانتخاب الطبيعي.

على سبيل المثال، وجد الباحثون أن الجينات المرتبطة بشكل الوجه وحجمه كانت على ما يبدو مندرجة ضمن تأثير الانتخاب الطبيعي على مدى المئة ألف سنة الماضية، والتي قد يكون لها علاقة مع التغييرات في الفك والجمجمة المرتبطة بالحمية الغذائية ونمو الدماغ.

عند النظر إلى الوراء بقدر حوالي ثلاثة آلاف سنة، وجد الباحثون أن الانتخاب الطبيعي يفضل داء الأمعاء الالتهابي. وقال لينغ أن هذا يمكن أن يكون مثالًا على سمة مفيدة في سياق وضارة في سياق آخر.

كتب لينغ في بريد إلكتروني إلى لايف ساينس: «نحن نفترض أن في العصور القديمة مع ظروف صحية سيئة، نشأ نظام مناعة نشط للغاية في الأمعاء من شأنه أن يحمينا من العدوى. ومع ذلك، فإن نظام المناعة النشط للغاية في المجتمع الحديث لا يتسبب إلا في مهاجمة أمعائنا لنفسها».

قد يكون صعبًا جدًا إظهار سبب تعلق سمة معينة بالنجاح التطوري. لاستخدام الطول كمثال، أن تكون طويل القامة قد يفيد التناسل بجعل شخص ما أكثر جاذبية للشركاء الجنسيين المحتملين. أو قد يكون الطول تأثيرًا جانبيًا من عملية الأيض الفعال، الذي يحسن فرص البقاء، وأن زيادة احتمال البقاء على قيد الحياة إلى سن التناسل قد يؤدي إلى تداول الجينات إلى الجيل التالي.

إذا كانت الجينات تميل إلى الاختلاف، فإن الانتخاب الطبيعي قد يعمل على سمة مختلفة تمامًا عن السمة التي تبدو أكثر بديهية. على سبيل المثال، قال نوفمبر: «المتغيرات الجينية التي جعلت تسمير البشرة أسهل، وظهرت على أنها منتقاة بشكل كبير في البحث الجديد، ترتبط على الأرجح بسمات أخرى كثيرة، مثل معدلات سرطان الجلد، والنمش ولون الشعر. من الصعب معرفة أي مسار بالضبط يؤدي إلى وصول شخص ما إلى سن التناسل، واجتذاب زوج خصب، وإنجاب الكثير من الأطفال، وأي الجينات ليست سوى مرافقة محظوظة على الهامش في تلك العملية».

ما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا أن البيئة قد تغمر جينات صفةٍ ما. شيء مثلما قد يحدث نظريًا مع الذكاء البشري. يعد معدل الذكاء وراثيًا جزئيًا، لذلك إذا كان صحيحًا أن الأشخاص ذوي معدل الذكاء العالي لديهم أطفال أقل، فيمكن القول أن معدل الذكاء الجماعي للسكان سينخفض مع مرور الوقت. ولكن إذا أصبحت البيئة أكثر ملائمةً لنمو الدماغ بتغذيةٍ أفضل أو انخفاض الرصاص وغيره من الملوثات، فإن السكان قد يصبحون أكثر ذكاءً.

قال نوفمبر: «إن مجرد تغير الأساس الجيني الواضح لأمر ما لا يعني أن المجموعة السكانية تتطور في ذلك الاتجاه».

الشؤون العائلية

قال نوفمبر إن أحد النُهُج المتبعة في تحديد الانتخاب الطبيعي هو الجمع بين دراسات الارتباط على نطاق الجينوم (GWAS) الواسعة النطاق والدراسات المتعلقة بجينوم الأسر الوحيدة.

أفراد الأسرة، وخاصة الإخوة، عادةً ما ينشؤون في بيئاتٍ متشابهةٍ إلى حد ما، لذا فمن الأسهل معرفة متى تؤثر الجينات على سمةٍ معينة. هذه الدراسات العائلية يمكن استخدامها لتأكيد الادعاءات من عينات دراسات الارتباط على نطاق الجينوم الكبيرة، وإزالة الجينات التي ما تزال تظهر تأثيرات عند استخراج أكبر قدر ممكن من البيئة من المعادلة.

يخطط لينغ وزملاؤه إجراء دراسات عائلية لمعرفة المزيد عن الجينات المسببة لأمراض معقدة مثل الفصام. كما أنهم يعملون على قياس المتغيرات الجينية التي يمكن أن تحدث تأثيرات مفيدة وضارة في آن واحد.

قال لينغ: «نتائج الدراسة الجديدة هي نقطة بداية، وتذكرنا بأن الانتخاب الطبيعي ما يزال قوةً في علم الأحياء البشري. ببساطة ليس صحيحًا أن البشر توقفوا عن التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي، حتى في ضوء قدرتنا على تغيير البيئة نحو تيسير المهام المادية والحد منها، وتقليل تكاليف الطاقة للحصول على غذاءٍ أفضل ونظام رعاية صحية أفضل».

اقرأ أيضًا:

هل ما زال الجنس البشري يتطور؟

هل سيتطور الجنس البشري أكثر في المستقبل؟ وكيف سيصبح؟

ترجمة: حميد جمعة

تدقيق: جعفر الجزيري

مراجعة: لبنى حمزة

المصدر