لقد ناقش الفلاسفة طبيعة ” اللّا شيء” منذ آلاف السنين، لكن ماذا يقول العلم الحديث عن ذلك؟

في مقابلة مع The Conversation، يشرح (مارتن ريس – Martin Rees) الأستاذ الفخري الملكي لعلم الكون والفيزياء الفلكية في جامعة كامبريدج، أنّه عندما يتحدّث الفيزيائيون عن الـ “لا شيء”، فإنّهم يقصدون الفضاء الفارغ (الفراغ).

قد يبدو ذلك سهلًا، لكنّ التّجارب تُظهر أنّ الفضاء الخالي ليس فارغًا في الواقع – فهناك طاقة غامضة كامنة فيه يمكنها أنْ تُخبرنا بشيء عن مصير الكون.

أُجريت مقابلة مع ريس لصالح صوتيات The Converstation’s Anthill حول موضوع اللّا شيء.

تستند هذه الأسئلة والأجوبة على نسخة منقّحة من تلك المقابلة.

س: هل الفضاء الفارغ هو نفسه لا شيء؟

ج: بالنسبة لنا يبدو أنّ الفضاء الفارغ لا شيء.

وقياسًا على ذلك، قد يبدو أنّ المياه لا تُشكّل شيئًا بالنّسبة إلى الأسماك؛ إنّه ما يتبقى عندما تزيل كل الأشياء الأخرى التي تطفو في البحر. وبالمِثل، يُفترض أنّ الفضاء الفارغ معقّدٌ للغاية.

نحن نعلم أنّ الكون فارغ للغاية، فمتوّسط ​​كثافة الفضاء يُشكّل حوالي ذرّة واحدة في كلّ عشرة أمتار مكعّبة – وأكثرُ تخلخلًا بكثير من أيّ فراغ يمكننا تحقيقه على الأرض.

لكن حتّى لو أخذت كل هذه المادة، فالفراغ يمتلك نوعًا من المرونة الّتي (كما أُكّدت مؤخرًا) تسمح لموجات الجاذبية – تموّجات في الفضاء نفسه- بالانتشار خلالها.

علاوةً على ذلك، تعلّمنا أنّ هناك نوعًا غامضًا من الطّاقة في الفضاء الفارغ نفسه.

س: علمنا لأوّل مرة عن طاقة الفراغ هذه في القرن العشرين مع ظهور ميكانيكا الكمّ الّتي تحكم العالم الصُغريّ من الذرّات والجسيمات. وتقترح أنّ الفضاء الفارغ يتكوّن من حقل من الطّاقة الخلفيّة المتذبذبة – ما يؤدّي إلى ظهور موجات وجزيئات افتراضية تظهر إلى الوجود وتختفي، يمكنها حتّى خلق قوّة صغيرة.

ولكن ماذا عن الفضاء الفارغ على المقاييس الكبيرة؟

ج: تم اكتشاف حقيقة أنّ الفضاء الفارغ يمارس قوّة واسعة النّطاق قبل 20 عام.

ووجد علماء الفلك أنّ توسّع الكون يتسارع. وكانت هذه المفاجأة!
فقد كان هذا التوسع معروفًا منذ أكثر من 50 عامًا، لكنّ الجميع توقع أنّه سيتباطأ بسبب قوّة الجاذبيّة التي تمارسها المجرّات والأجرام الأُخرى على بعضها البعض.

لذلك كانت مفاجأة كبيرة أنْ نجد أن هذا التّباطؤ بسبب الجاذبية قد غمره شيء من “دفع” التوسع..

هنالك طاقة كامنة في الفضاء الفارغ نفسه، الّذي يسبّب نوعًا من الجاذبيّة المضادّة الّتي تفوق قوة الجاذبية على هذه المقاييس الكبيرة.

هذه الظاهرة  يطلق عليها اسم “الطّاقة المظلمة” وهي أكثر الأوجه دراميّة لحقيقة أنّ الفضاء الخالي ذو كيان وله صلة بالأحداث الكونيّة.

بل إنّه يحدد مصير الكون على المدى الطويل.

سؤال: لكن هل هناك حدود لما يمكن أن نعرفه؟ على مقياس أصغر من الذّرة بتريليون تريليون مرة، فإنّ الاهتزازات الكموميّة في الزمكان يمكن أن تؤدّي ليس فقط إلى جسيمات افتراضيّة، بل إلى ثقوب سوداء افتراضيّة.

هذا هو النّطاق الذي لا يمكننا ملاحظته، وحيث يتعيّن علينا الجمع بين الجاذبيّة وميكانيكا الكم للتّحقيق فيما يحدث نظريًّا – وهو أمر من الصّعب القيام به.

ج: هناك العديد من النّظريات الّتي تهدف إلى فهم هذا، وأكثرها شهرة هي نظريّة الأوتار.

لكنْ كل من هذه النّظريات لم تنخرط في العالم الحقيقيّ – لذا فهي لا تزال مضاربة لم تُختبر.

ولكنّي أعتقد أنّ الجميع تقريبًا يوافق على أنّ الفضاء نفسه يمكن أن يكون له كيان معقّد على هذا النّطاق الصّغير للغاية والّذي تلتقي فيه تأثيرات الجاذبيّة بالكوانتم.

نحن نعلم أنّ لكوننا ثلاثة أبعاد في الفضاء: يمكنك الذهاب إلى اليسار واليمين، إلى الوراء وإلى الأمام، إلى الأعلى والأسفل. والزمن هو بمثابة البعد الرابع.

ولكن هنالك شكوك قويّة في أنّه إذا كنت ستقوم بتكبير نقطة صغيرة من الفضاء لتستكشف هذا الحجم الصّغير للغاية، فستجد أنّه محكوم بشدّة في حوالي خمسة أبعاد إضافيّة لا نراها.

وبالأحرى عندما تنظر إلى خنفساء من مسافة بعيدة، تعتقد أنّها مجرّد خط.

ولكن عندما تنظر عن كثب، ترى أنّ أحد الأبعاد كان في الواقع ثلاثة أبعاد…

تتضمّن نظريّة الأوتار الرّياضيّات المعقّدة – وكذلك النّظريات المنافسة لها.

لكن هذا هو نوع النّظرية الّتي سنحتاج إليها إذا أردنا أنْ نفهم على أعمق مستويات الـ “لا شيء” ونقترب من تخيّل الفضاء الفارغ.

س: في إطار فهمنا الحالي، كيف يمكننا أنْ نفسّر أنّ الكون كلّه يتوسّع من لا شيء؟ هل يمكن أن يبدأ الكون بالقليل من الطّاقة الفراغيّة المتذبذبة؟

ج: بعض التّحوّل أو التذبذب الغامض من الممكن أن يؤدّي فجأة إلى توسّع جزء من الفضاء -على الأقل هذا ما يعتقده بعض النّظريّين-. التذبذبات الجوهريّة للكوانتم يمْكِنُ أَنْ تُوجد الكونَ كلّه إذا ضُغِط إلى نطاق صغير بما فيه الكفاية.

هذا سيحدث في زمن بحدود 10 بالقوة – 34 ثانية – وهو ما يسمى زمن بلانك.

و مقياس عندما يتشابك الزّمان والمكان معًا لدرجة أنّ تكّات السّاعة تكون غير واقعيّة.

يمكننا أن نستنبط عالمنا بثقة عالية مرّة أخرى إلى واحد نانو ثانية، ومع بعض الثّقة، نعود إلى مستوى أكثر قربًا من زمن بلانك.

ولكن بعد ذلك، تتوقّف كلّ الرّهانات على الفيزياء على هذا المقياس ويجب أن تحلّ محلّها بعض الرّؤى الأكثر تعقيدًا.

س: إذا كان من الممكن أنْ يؤدّي تذبذب بعض الأجزاء العشوائيّة من الفضاء الفارغ إلى نشأة الكون، فلماذا لا يحدث نفس الشيء بالضّبط في جزء آخر من الفراغ الخالي ـ الّذي يلد أكوانًا موازية في أكوان متعدّدة لا حصر لها؟

ج: إنّ فكرة أنّ الانفجار الكبير الخاصّ بكوننا ليس بالوحيد، وأنّ ما نراه بمقاريبنا هو جزء صغير من الواقع الفيزيائيّ يحظى بشعبية بين العديد من علماء الفيزياء. وهناك العديد من إصدارات و انفجارات الكون الدّوري.

فقبل خمسين سنة فقط ظهرت أدلّة قويّة على الانفجار العظيم.

لكن هناك منذ الآن تكهّنات حول ما إذا كان هذا مجرّد حلقة في عالم دوريّ.

وكان هناك تزايد في المفهوم القائل بأنّ هناك حقيقة أكثر للواقع الفيزيائيّ من حجم الفضاء والوقت الّذي يمكننا أنْ نختبر فيه – حتى مع التلسكوبات الأقوى.

لذلك ليس لدينا أيّ فكرة عمّا إذا كان هناك انفجار كبير واحد أو أكثر – فهناك سيناريوهات تتنبّأ بالعديد من الانفجارات الكبيرة وبعض السّيناريوهات الّتي تتنبّأ بأحدها فقط

أعتقد أنّنا يجب أن نستكشفها جميعًا.

س: كيف سينتهي الكون؟

ج: تنبّأت التّوقّعات الأكثر وضوحًا ذات المدى البعيد بأنّ الكون يمضي في التّوسّع بوتيرة متزايدة، ويصبح مفرغًا أكثر وأكثر من أيّ وقت مضى، وأكثر برودة من أيّ وقت مضى.

فقد تتحلّل الجسيمات الموجودة بها، ما يجعل تناقص الكثافة يستمر إلى أجلٍ غير مُسمّى.

وسنكون في نهاية المطاف بحجم كبير من الفراغ، إلّا أنّه أكثر خلخلةً من الفضاء الحاليّ.

هذا سيناريو واحد، ولكن هناك سيناريوهات أخرى تنطوي على “توجّه” الطّاقة المظلمة العكسيّ من التّنافر إلى الجاذبيّة، بحيث يكون هناك انهيار لما يُسمّى “الانسحاق العظيم”، عندما تتّجه الكثافة نحو اللّا نهاية مرّة أخرى.

هناك أيضًا فكرة، منسوبة إلى الفيزيائيّ روجر بنروز، أنّ الكون يمضي في التّوسّع، ويصبح أقلّ كثافةً بكثير، ولكن بطريقة ما – عندما لا يكون فيه أيّ شيء بصرف النّظر عن -الفوتونات.. جسيمات الضوء – يمكن إعادة ضبط الأشياء، بأن يصبح الفضاء معنيًا بتوليد بعض الانفجارات الكبيرة الجديدة بعد هذه الخلخلة الضخمة.

إذًا هذه نسخة غريبة من الكون الدوري القديم؛ لكن من فضلك لا تطلب مني أن أشرح أفكار بينروز!

س: ما مدى ثقتك في أنّ العلم يمكنه في نهاية المطاف تقديم وصف شامل لماهيّة الـ لا شيء؟ حتى لو استطعنا أنْ نُثبت أنّ كوننا قد بدأ من بعض الاهتزازات الغريبة في حقل الفراغ، أليس علينا أنْ نسأل من أين جاء حقل الفراغ هذا؟

ج: تحاول العلوم الإجابة عن الأسئلة، ولكن في كل مرة نجيب عليها، تظهر أسئلة جديدة يتمّ التّركيز عليها.. لن يكون لدينا صورة كاملة أبدًا. عندما بدأت البحث في أواخر السّتينيّات، كان مثيرًا للجدل ما إذا كان هناك انفجارٌ كبيرٌ على الدّوام.

والآن لم يعد هذا الأمر مثيرًا للجدل، ويمكننا أنْ نقول بدقّة تبلغ 98٪؜ ما كان عليه الكون على طول الطريق من 13.8 مليار سنة إلى 1 نانو ثانية هو تقدّم هائل.

لذا ليس من قبيل التّفاؤل السّخيّ أنْ نعتقد أنّه في الخمسين سنة القادمة، ستفهم القضايا الصّعبة حول ما يحدث في الحقب الكموميّة أو “التّضخميّة”.

لكن بالطبع هذا يطرح سؤالًا آخرَ: كم من العلم سيكون مُتاحًا للدّماغ البشريّ؟

ويمكن أنْ يتّضح، على سبيل المثال، أنّ رياضيّات نظريّة الأوتار هي إلى حدٍّ ما وصفٌ صحيح للواقع، لكنّنا لن نكون قادرين أبدًا على فهمها جيّدًا بما يكفي لاستخدامها في تفسير صميم الظّواهر بشكل مُعمّق.

كما قد نضطرّ إلى انتظار ظهور نوع ما من البشر بعد ذلك للحصول على فهم أكمل.

لكن على كلّ من يفكّر في هذه الألغاز أنْ يُدرك أنّ الفضاء الفارغ بالنّسبة للفيزيائيّ – الفراغ – ليس بمثابة “لا شيء” بالنّسبة للفيلسوف.

مارتن ريس، أستاذ متفرغ في علم الكونيّات والفيزياء الفلكيّة

جامعة كامبريدج


  • ترجمة: محمد مشايخ
  • تدقيق: سهى يازجي
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر