شكلت مكتبة الإسكندرية الشهيرة أحد أهم منابع المعرفة في العالم القديم. بُنيَت في القرن الرابع، وازدهرت لستة قرون، وكانت مركزًا ثقافيًا وفكريًا للعالم الهلنستي القديم.

ويُشاع أن مكتبة الإسكندرية ضمت على رفوفها نصف مليون مخطوطة بردية (مكتوبة على ورق البردي)، أي أكبر مجموعة من المخطوطات في العالم القديم، وتشمل أعمالًا لأفلاطون وأرسطو وهوميروس وهيرودوت وآخرين. وقد عمل بعض من ألمع العقول، ودرس، ودرَّس في هذه المكتبة.

بحلول القرن الخامس بعد الميلاد، كانت مكتبة الإسكندرية قد اختفت من الوجود لجملة من الأسباب، مثل سرقة مجموعاتها أو تدميرها أو وقوعها ببساطة ضحية الإهمال، ولذلك لم يعد لهذه المكتبة بريق ذاك التأثير والهيمنة التي امتلكته مرة.

لا تزال قصة بزوغ نجم مكتبة الإسكندرية وأفوله حديث أوساط البعثات العلمية وعلم الآثار، ولكن ما نعرفه عن حكاية هذه المكتبة لا يقل تعقيدًا وإثارة عن أي فيلم من أفلام هوليوود.

عمر مكتبة الإسكندرية وبداية تأسيسها:

أسس الإسكندر العظيم مدينة الإسكندرية في مصر عند الطرف الشمالي الغربي لدلتا النيل عام 331 قبل الميلاد. ولما قضى نحبه تقاسم جنرالاته إمبراطوريته، وكان أحدهم بطليموس الأول سوتر، الذي أصبح حاكم مصر، وجعل الإسكندرية عاصمة دولته. وفي عهده وعهد خلفائه نمت المدينة لتصبح إحدى أعظم مدن الحقبة الهلنستية -الممتدة بين عامي 323 و30 قبل الميلاد- وأكثرها ثراءً، فقد شكلت الإسكندرية مركزًا تجاريًا مزدهرًا، وميناءً على البحر الأبيض المتوسط.

تقول ويلكي فيندريش، بروفيسورة في علم الآثار المصري، ورئيسة جون سيلسبي لعلم الآثار الإفريقي الثقافي لدى جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس: «أُنشِئت مكتبة الإسكندرية بُعيد تأسيس مدينة الإسكندرية قرابة عام 331 قبل الميلاد»، وتضيف: «مازلنا لا نعرف على وجه الدقة الشخص الذي أوجد مكتبة الإسكندرية، هل هو بطليموس الأول أم ابنه بطليموس الثاني، ولكن قد تكون المكتبة قد بُنيت فعلًا في ظل حكم بطليموس الثاني، الذي امتد عهده بين عامي 284 و264 قبل الميلاد».

تذكر موسوعة بريتانيكا أسطورة ثابتة تروي قصة نشأة المكتبة، فقد اقترح أحد رعايا بطليموس الأول -وهو رجل من أثينا يُدعَى ديمتريوس من فاليريوم- إنشاء بناء يضم كل مخطوطات العالم المعروفة.

قام تصميم ديمتريوس على بناء مكان للتعلم من شأنه أن ينافس مدرسة ومكتبة أرسطو الشهيرة (ليسيوم) التي تقع قرب أثينا. يبدو أن بطليموس الأول قد وافق على الخطة وبعد فترة قريبة ظهر بناء ضمن جنبات القصر.

تقول ويليكي: «سُميَت المكتبة باسم Museion، أي المتحف أو مكان الإلهام، وسُميَت هكذا تيمنًا بأسماء آلهة الفنون الإغريقية التسعة».

هندسة عمارة مكتبة الإسكندرية ومجموعاتها:

ازداد حجم المكتبة على مر السنوات لأن الحكام البطالمة رأوا أن لإحداث مركز تعلم ومعرفة في مدينتهم مزايا وفوائد.

نتج عن العطايا الملكية السخية إنشاء مجمع من الأبنية يحيط بالمتحف، وعلى الرغم من أن المخطط الأساسي للمكتبة غير معروف، فقد اشتُهرَت المكتبة -في أيام مجدها- باحتوائها على قاعات محاضرة ومخابر وقاعات اجتماع وحدائق وحجرات طعام وحديقة حيوانات حتى كما يخبرنا المؤرخ اليوناني ديودوروس سيكولوس.

ضمت المكتبة أيضًا مدرسة طبية زاول طلابها تشريح الجثث البشرية، الذي كان مهارة فريدة لم تعرفها أوروبا إلا نادرًا قبل بدء عصر النهضة في القرن الخامس عشر.

تقول فيندريش لموقع Live Science: «إن المتحف لم يكن متحفًا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل أشبه بجامعة؛ فهناك أُلقيَت النتاجات الأدبية ودُرسَت النظريات ونُوقشَت».

وعلى الرغم من أننا لسنا متأكدين تمامًا، فقد يكون قسم الأرشيف -حيث تحفظ المخطوطات- بناءً منفصلًا عن المتحف. ووفقًا لموسوعة التاريخ العالم، قد تكون المكتبة -في ذروة مجدها- قد ضمت على رفوفها ما يقارب نصف مليون عمل مكتوب.

تقول فيندريش: «دُوِّن على هذه المخطوطات جلَّ ما عرفه ووصل إليه العالم الغربي القديم من معارف ومعلومات ابتداءً من الأعمال الأدبية والفلسفية والأبحاث وحتى الشروح والتفسيرات العلمية. كان هنالك نصوص أيضًا شملت مواضيع دينية وأسطورية وطبية».

اشتمل الأرشيف أعمالًا تعود إلى كثير من كتَّاب العصور القديمة الكلاسيكية الإغريق، كالفلاسفة أمثال أفلاطون وأرسطو وفيثاغورث، والشعراء العظام أمثال إسخيلوس وسوفوكليس ويوبيديس. ضم الأرشيف أيضًا نصوصًا طبية لأبقراط، وشعرًا لسافو وبندار وهسيود، وكتيبات عملية لتاليس وديمقريطيس وأناكسيماندر.

جمع أمناء المكتبة مؤلفات الحضارات الأخرى؛ فتذكر موسوعتا بريتانيكا والمصري القديم احتواء المكتبة نصوصًا بابلية وفارسية وآشورية وهندية ونصوصًا يهودية وزرداشتية وبوذية حتى.

ودَّ الحكام البطالمة أن يجمعوا كل مخطوطات العالم؛ وليحققوا هذه الغاية أرسلوا عملاءهم إلى جميع بقاع العالم المعروفة بحثًا عن أوراق البردي. كانت الأوامر الموجهة لأولئك العملاء واضحة؛ إذ يجب عليهم إيجاد وشراء أي مخطوطة تقع أيديهم عليها ويُفضَل المخطوطة الأقدم والأصلية وفقًا لموسوعة بريتانيكا. لم يكن السعر عائقًا؛ فقد كان الحكام البطالمة مستعدين لدفع مبالغ خيالية لقاء مخطوطات قيِّمة.

تولّع البطالمة بجمع المخطوطات؛ فتروي قصة مشهورة في موسوعة تاريخ العالم أن في ظل حكم بطليموس الثالث يروغيتس ابن بطليموس الثاني فُرِض على جميع المراكب المبحرة التي تدخل ميناء الإسكندرية تسليم أية مخطوطة على متنها. وهناك أقدم الكتبة الإسكندرانيون على نسخ هذه المخطوطات والاحتفاظ بالأصلية منها وإرجاع النسخ إلى السفن.

تخبرنا موسوعة تاريخ العالم أنه ولما لم يعد بإمكان مكان واحد جمع الرقع والمخطوطات الكثيرة، بنى الحكام مكتبة ثانية وأطلقوا عليها «سيرابيوم». بُنيَت هذه المكتبة قرب القصر الملكي في الإسكندرية بين عامي 264-222 قبل الميلاد وخُصصَت للإله المصري الإغريقي سيرابيس.

جذب توسع المكتبة على مر القرون الكثير من أشهر باحثي العالم القديم وفلاسفته وعلمائه كإراتوستينس القيرواني وأرسترخس من ساموس وإقليدس الإسكندراني وأبولونيوس من جزيرة رودس.

إن إراتوستينس عالم حساب وخبير جغرافي وفلكي وأول شخص يحسب محيط الأرض، وقد تقلّد في عهد بطليموس الثالث يروغيتس مهمة الإشراف على مكتبة الإسكندرية حسب موسوعة بريتانيكا.

وإن أرسترخس من ساموس عالم فلك إغريقي وعالم حساب وأول من وضع نموذج مركزية الشمس، الذي يجعل الشمس وليس كوكب الأرض مركز الكون المنظور.

قرابة عام 300 قبل الميلاد كتب إقليدس والمعروف بأبي الهندسة كتابه المشهور (العناصر) أحد أكثر الأعمال التي أثرت أيما تأثير في الرياضيات. ذاع صيت أبولونوس من جزيرة رودس بتأليفه قصيدة طويلة ارتكزت على الحكاية المعروفة لجيسون والأرغوناتوس*.

احتراق المكتبة وزوالها:

يتهم مؤرخون -ومنهم بلوتارخ وسينيكا- يوليوس قيصر بأنه هو من أشعل حريقًا في الإسكندرية دمر المكتبة عن بكرة أبيها. ولوقت طويل تبنى مؤرخون معاصرون هذه الرواية.

وقع حريق الإسكندرية العظيم في أثناء احتلال قيصر للإسكندرية عام 48 قبل الميلاد عندما كان في حرب أهلية مع خصومه السياسيين. تروي القصة أن قيصر لما حاصره مناوئوه، أمر قواته بإحراق سفن أعدائه في الميناء، ويذكر المؤرخ بلوتارخ الحادثة بقوله: «أُجبِر يوليوس قيصر على القضاء على الخطر بالنار التي انتشرت من ورشة بناء السفن ودمرت المكتبة العظيمة».

لكن قد تميل القصة إلى التهويل والمبالغة مثلما يتفق أغلب المؤرخون عليه الآن؛ فبالفعل كان هناك حريق في وقت احتلال قيصر الإسكندرية، ولكن يُعتقَد أن المكتبة لم تتأثر كثيرًا على الرغم من احتمالية احتراق بعض الرقع والمخطوطات.

يذكر المؤرخون دليلًا يؤكد نجاة المكتبة من الحريق من خلال إشارتهم إلى كتابات من زاروا المدينة لاحقًا كالباحث سترابو الذي ذكر استفادته من مقتنيات المكتبة في أبحاثه.

تستخدم فريندتش لدمار مكتبة الإسكندرية وصف «العفن البطيء»، الذي انتشر في أوصالها على مر القرون. بالفعل، يجمع أغلب الباحثين في يومنا الحالي أن المكتبة عانت انحطاطًا طويلًا ومؤلمًا وليس انهيارًا ساحقًا حدث على حين غرة؛ إذ ومع تضاؤل تأثيرها ونفوذها، بيعت مقتنياتها أو دُمرَت وسُويَّت أبنيتها بالأرض أخيرًا أو حُوِّلت إلى منشآت أخرى ككنائس أو مساجد.

ساهمت عدة أحداث ومناسبات في التعجيل بانحطاط حال مكتبة الإسكندرية وفقدان أهميتها بوصفها مركزًا فكريًا. وقع أحدها في أثناء عهد بطليموس الثامن (182-116 قبل الميلاد) عندما طرد عدة باحثين من بينهم أرسترخس من ساموثراس أمين مكتبة الإسكندرية (لا تخلطوا بينه وبين أرسترخس من ساموس) الذي أيَّد خصم بطليموس الثامن السياسي حسب موسوعة تاريخ العالم.

أمر بطليموس الثامن أيضًا بطرد جميع الباحثين الغرباء عن المدينة. لم تعد الأجواء مناسبة أو صالحة لعمل الباحثين والعلماء، ما دفعهم إلى الهجرة إلى أماكن أخرى كأثينا وجزيرة رودس.

وقع حدث آخر عام 391 بعد الميلاد، لما أصدر الإمبراطور الروماني ثيوديوس الأول الذي كان مسيحيًا ورعًا مرسومًا يسمح بتدمير جميع المعابد الوثنية في الإمبراطورية. تذكر موسوعة تاريخ العالم أن ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية استغل هذا المرسوم ودمر مكتبة سيرابيوم وأصدر أوامر ببناء كنيسة على أنقاضها.

أسهمت الأحداث -التي ذكرناه آنفًا- وغيرها من الأحداث كحصار الإمبراطور الروماني دقلديانوس المدينة وتدميره إياها عام 297 بعد الميلاد في إلحاق تدمير أكبر في المكتبة والأبنية الملحقة بها. يروي الأسقف القبطي جون من نيكي أن دقلديانوس قد أحرق المدينة تمامًا وسواها بالأرض.

ويتربع على قمة تلك الوقائع والأحداث التي كان لها يد في انهيار مكتبة الإسكندرية ودمارها انحطاط المدينة التي بُنيَت بها: الإسكندرية، التي سقطت وتخلت عن موقعها بوصفها بؤرة فكرية. في ذلك الوقت ظهرت إلى السطح مراكز علمية قوية في روما وأثينا، وتميزت كلتاهما بمكتباتهما ذائعة الصيت في الأرجاء.

فقدان المدينة لأبهتها ومجدها حدث بالتوازي مع انهيار أهميتها التجارية والثقافية، أما المشكلات السياسية والاقتصادية والقلاقل المجتمعية التي عصفت في أرجائها، فقد دفعت الكثير من الحكام البطالمة الذين أتوا لاحقًا إلى تخفيض الأموال والمبالغ المرصودة للعناية بمكتبة الإسكندرية وصيانتها والمحافظة عليها.

تقول فرينديتش: «منذ القرن الثالث قبل الميلاد الذي شكل أزهى عصر لمكتبة الإسكندرية، والمناخ الفكري فيها لم يهدأ أو يرسو إلى بر قط، بل كان في حالة تقلب وتذبذب»، وتضيف: «بعض الحكام كانوا داعمين للمكتبة، ودعمها أخرون ولكن بدرجة أقل».

كان لانحطاط مكتبة الإسكندرية على المدى الطويل -إضافة إلى توقف أعمال البناء- عواقب تجلت في خسارتها الباحثين؛ إذ اجتذبتهم معاهد ومؤسسات علمية أخرى وتضاءلت ثروات المدينة. تذكر موسوعة تاريخ العالم أنه بحلول القرن السابع بعد الميلاد، كانت الإسكندرية قد دانت لسلطان الخلافة العربية وخليفتها عمر بن الخطاب، أما مكتبتها فلم يبقَ منها سوى الذكريات والقصص.

لوقت طويل تباكى العلماء والمؤرخون على فقدان مكتبة الإسكندرية العظيمة واندثار الكثير من المعارف. من الصعب الجزم على وجه التأكيد ما المعلومات التي قد فقدناها لعدم وجود تقارير أو معلومات بمحتويات أرشيف المكتبة.

هوامش:

Jason and the Argonauts: جيسون في علم الأساطير الإغريقي، قائد الأرغوناتس (وهم عصبة من الرجال لا تتجاوز الخمسين رجلًا)، ابن إيسون ملك يولكوس في ثيساليا.

استولى أخو أبيه غير الشقيق على الحكم، وأُبعِد جيسون لما كان صغيرًا حماية له من بطش عمه. وعندما عاد شابًا، وعده عمه أن يعيد له مملكته في حال استرجاعه الصوف الذهبي، ما بدا مهمة مستحيلة.

اقرأ أيضًا:

سبعة حرائق غيرت مجرى التاريخ

تاريخ الرياضيات: الرياضيات في العصر الهلنستي

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: نور عباس

مرجعة: حسين جرود

المصدر