هل نجحت الحرب التجارية فعلًا في حماية الاقتصاد الأمريكي؟ أم أن الخسائر كانت أكبر مما توقعه صانعو القرار؟
بات لدينا اليوم تصور أوضح بشأن «رسوم يوم التحرير» التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وما ستخلفه من آثار في الدول التجارية الأخرى، متضمنةً الولايات المتحدة نفسها.
تدّعي الإدارة الأمريكية أن هذه الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات ستُسهم في تقليص العجز التجاري الأمريكي، ومعالجة ما تعده ممارسات تجارية غير عادلة وغير متكافئة. صرح ترامب بأن هذا اليوم «سيخلد في التاريخ بوصفه اليوم الذي وُلدت فيه الصناعة الأمريكية من جديد، واليوم الذي استعادت فيه أمريكا قدرها».
صُممت الرسوم الجمركية المتكافئة لتفرض على الدول الأخرى رسومًا تُعادل نصف التكاليف التي تدعي الإدارة الأمريكية أن هذه الدول تُلحقها بالمُصدرين الأمريكيين، سواء بواسطة الرسوم الجمركية، أو التلاعب بالعملة، أو الحواجز غير الجمركية المفروضة على السلع الأمريكية.
مُنحت كل دولة «تكليفًا جمركيًا» يُطبق على معظم السلع، مع استثناء قطاعات معينة مثل الصلب والألمنيوم والمركبات، التي سبق أن خضعت لرسوم جمركية جديدة.
الحد الأدنى الأساسي للرسوم الجمركية المفروضة على كل دولة هو 10%، إلا أن العديد من الدول خضعت لنسب أعلى، منها فيتنام (46%) وتايلاند (36%) والصين (34%) وإندونيسيا (32%) وتايوان (32%) وسويسرا (31%).
أما الصين، فقد فُرضت عليها رسوم جمركية إضافية بنسبة 34% زيادةً على الرسوم السابقة البالغة 20%، لتصل الحصيلة الإجمالية إلى 54%. في حين فُرضت الرسوم الجمركية بنسبة 10% على دول مثل أستراليا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة.
في حين أُعفي كل من كندا والمكسيك من الرسوم الجمركية المتكافئة، فإن السلع القادمة من هذين البلدين ما زالت تخضع لرسوم منفصلة بنسبة 25% بموجب أمر تنفيذي آخر.
مع أن بعض الدول تفرض بالفعل رسومًا جمركية على السلع الأمريكية أعلى مما تفرضه الولايات المتحدة على وارداتها، ومع أن «رسوم يوم التحرير» -وفقًا لما أُعلن- تمثل فقط نصف المعدل الحقيقي للمعاملة بالمثل، فإن الأسس الحسابية التي بُنيت عليها هذه الأرقام تظل موضع جدل واسع.
مثلًا، تُعد العقبات غير الجمركية من أكثر العوامل صعوبة في التقدير، وقد وصفها أحد الأبحاث الحديثة بأنها «عرضة لقدر كبير من عدم الدقة».
تأثير الرسوم الجمركية في الناتج المحلي الإجمالي في ظل إجراءات انتقامية
من المرجّح أن ترد الدول الأخرى على الخطوة الأمريكية بفرض رسوم جمركية انتقامية على الصادرات الأمريكية. أعلنت كل من كندا -السوق الأكبر للصادرات الأمريكية- والاتحاد الأوروبي والصين عن نيتها الرد بالمثل.
بغرض تحليل تداعيات هذه الحرب التجارية المتبادلة، استُخدم نموذج عالمي يُحاكي الإنتاج والتجارة واستهلاك السلع والخدمات. تُعرف هذه النماذج باسم «نماذج التوازن العام القابل للحوسبة»، وهي أدوات تعتمد عليها الحكومات والأكاديميون ومراكز الاستشارات على نطاق واسع لتقييم آثار السياسات الاقتصادية.
في النموذج الأول، جرت محاكاة سيناريو تفرض فيه الولايات المتحدة رسومًا جمركية متكافئة إلى جانب رسوم جديدة، وترُد الدول الأخرى برسوم مماثلة على السلع الأمريكية. أظهرت النتائج الآثار التالية على الناتج المحلي الإجمالي:
سببت الرسوم الجمركية الأمريكية والرسوم الانتقامية من الدول الأخرى خفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بقيمة 438.4 مليار دولار أمريكي، أي بنسبة 1.45%.
بتقسيم هذا الانخفاض على الأسر الأمريكية البالغ عددها 126 مليون أسرة، فإن نصيب الأسرة الواحدة من الخسارة يبلغ 3487 دولارًا سنويًا. تُعد هذه الخسارة الأعلى مقارنةً بأي دولة أخرى.
تتجلى الخسائر النسبية الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي في المكسيك 2.24% وكندا 1.65%، نظرًا إلى اعتماد هذين البلدين على السوق الأمريكية لتصدير أكثر من 75% من صادراتهما.
أما على صعيد الأسر، فإن الأسر المكسيكية تخسر ما يقارب 1192 دولارًا سنويًا، في حين تخسر الأسر الكندية 2467 دولارًا.
من بين الدول الأخرى التي تسجل تراجعًا ملحوظًا في الناتج المحلي الإجمالي، فيتنام بنسبة 0.99%، وسويسرا بنسبة 0.32%
بالمقابل، تستفيد بعض الدول من هذه الحرب التجارية، خاصةً تلك التي تواجه رسومًا جمركية أمريكية منخفضة نسبيًا، ومن ثم تفرض بدورها رسومًا منخفضة على السلع الأمريكية. حققت كل من نيوزيلندا 0.29% والبرازيل 0.28% أكبر المكاسب من حيث النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وارتفع دخل الأسر النيوزيلندية بما يقارب 397 دولارًا سنويًا.
على مستوى العالم، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم باستثناء الولايات المتحدة بمقدار 62 مليار دولار.
أما الناتج المحلي الإجمالي العالمي فقد تراجع بمقدار 500 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل 0.43%. تؤكد هذه النتيجة القاعدة المعروفة بأن الحروب التجارية تؤدي إلى انكماش الاقتصاد العالمي.
تأثير الرسوم الجمركية في الناتج المحلي الإجمالي دون رد انتقامي
في السيناريو الثاني، صور النموذج ما سيحدث حال امتنعت الدول الأخرى عن الرد على الرسوم الجمركية الأمريكية. جاءت النتائج كالتالي:
تعرضت الدول التي تواجه رسومًا جمركية أمريكية مرتفعة وتعتمد بدرجة كبيرة على السوق الأمريكية لتصدير منتجاتها، إلى أكبر الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي. من هذه الدول: كندا والمكسيك وفيتنام وتايلاند وتايوان وسويسرا وكوريا الجنوبية والصين.
بالمقابل، ربحت الدول التي لم تُفرض عليها رسوم جمركية مرتفعة، إذ سجلت المملكة المتحدة أكبر نمو في ناتجها المحلي الإجمالي.
انخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بمقدار 149 مليار دولار، أي ما يعادل 0.49%، نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج والأسعار داخل السوق الأمريكية بسبب الرسوم الجمركية.
أما بقية دول العالم، فقد سجّلت انخفاضًا أكبر في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 155 مليار دولار، وهو أكثر من ضعف الانخفاض الذي سُجّل في سيناريو الرد الانتقامي. ويشير هذا إلى أن الدول الأخرى تستطيع تقليل خسائرها بالرد على الرسوم الجمركية. لكن بالمقابل، فإن مثل هذا الرد يجعل الوضع أسوأ للولايات المتحدة ذاتها.
أحدثت قرارات ترامب بشأن الرسوم الجمركية اضطرابات كبيرة في عجلة التجارة الدولية. أما الرسوم الحالية، فهي بمثابة صدمة عنيفة للنظام التجاري العالمي. في النهاية، قد تكون الولايات المتحدة هي أكبر الخاسرين.
اقرأ أيضًا:
كيف ستؤثر رئاسة ترامب في الأسواق؟
أسواق المال والفيدرالي الأمريكي: كيف سيؤثر عام 2025 في الاستثمار والتضخم؟
ترجمة: دياب حوري
تدقيق: أكرم محيي الدين