كمعظم المجرات في الكون، يحتوي مركز مجرتنا (درب التبانة) على ثقب أسود هائل الحجم يُسمى (الرامي أ*). حظي ذلك الجرم بفضول العلماء عقودًا متتالية، والآن قد تؤدي الجهود المبذولة إلى تصويره مباشرة.

يتطلب التقاط صورة لأحد أكثر الأجسام التي عرفناها روعة فهمًا أفضل لما يدور حول هذا الجرم. يُعَد الأمر تحديًا كبيرًا بسبب النطاقات المختلفة التي يتضمنها. يقول شون ريسلر الباحث في معهد كافلي التابع لجامعة كاليفورنيا سانتا باربارا للفيزياء النظرية، الذي نشر ورقة بحثية حديثًا حول الخصائص المغناطيسية للقرص المتنامي حول الثقب الأسود الرامي أ*: «إنها من المعضلات الكبيرة التي يعِد التغلبُ عليها بإنجازات رائعة».

في تلك الدراسة، سعى شون ريسلر، وزملاؤه كريس وايت طالب الدكتوراه بجامعة (KIBT)، وإليوت كواتيرت من جامعة كاليفورنيا- بيركلي، وجيمس ستون من معهد الدراسات المتقدمة، لمعرفة هل المجال المغناطيسي للثقب الأسود، الذي تخلقه المواد المتساقطة بالثقب، قد يشتد لدرجة إيقاف التدفق فترةً وجيزة؟ وهي حالة يطلق عليها العلماء اسم (الكبح المغناطيسي). تتطلب الإجابة عن هذا السؤال محاكاةً لأنظمة النجوم المدارية بالقرب منه.

يبعد أفق الحدث عن مركز الثقب الأسود نحو 4 – 8 مليون ميل. وفي أثناء ذلك تدور النجوم حوله على بعد نحو 20 تريليون ميل، أي مثل بُعد أقرب نجم مجاور للشمس.

قال ريسلر: «لذلك علينا تتبع المادة التي تسقط في تلك النطاقات الكبيرة جدًا وصولًا إلى النطاقات الأصغر. يُعَد تنفيذ ذلك في محاكاة واحدة تحديًا لا يُصدق، قد يبلغ حد استحالة تنفيذه».

تستغرق أصغر الأحداث نطاقات زمنية صغيرة كالثواني، في حين تحدث الظواهر الكبيرة على مدار آلاف السنين.

تجمع الورقة البحثية بين محاكاة النطاقات الصغرى، المعتمدة غالبًا على الجانب النظري، مع محاكاة النطاقات الكبيرة التي تتطلب ملاحظات فعلية. ولتحقيق ذلك قسّم ريسلر المهمة إلى 3 نماذج متداخلة.

اعتمدت المحاكاة الأولى على معلومات عما يحيط بالثقب الأسود الرامي أ*. ولحسن الحظ، هيمن على نشاط الثقب الأسود نحو 30 نجمًا من نجوم (وولف رايت)، التي تفجر كميات هائلة من المواد. قال ريسلر: «إن الكتلة التي يفقدها نجم واحد فقط أكبر من الكتلة الكلية لمجموع المواد التي تسقط في الثقب الأسود في نفس الوقت». تقضي النجوم في تلك العملية الديناميكية نحو مئة ألف سنة فقط، قبل أن تنتقل إلى مرحلة أكثر استقرارًا من حياتها المقبلة.

باستخدام بيانات الرصد، نفذ ريسلر محاكاةً لشكل مدارات تلك النجوم في غضون ألف سنة. ثم استخدم النتائج بوصفها نقطة بداية لمحاكاة المسافات متوسطة المدى، التي تتطور في نطاقات زمنية أصغر، للتوصل إلى محاكاة حافة أفق الحدث، حيث يحدث نشاط المواد في غضون ثوان. سمح هذا النهج لريسلر بدمج نتائج نماذج المحاكاة الثلاثة معًا.

قال المؤلف المشارك كريس وايت: «هذه بالفعل النماذج الأولى لتراكب النطاق الأصغر في الثقب الأسود الرامي أ*. تأخذ النماذج في الحسبان حقيقة المواد المتدفقة من النجوم المدارية». وقد كان أداء التقنية رائعًا، حتى أنها فاقت توقعات العلماء.

نموذج محاكاة مبتكر يزودنا بنظرة مقربة إلى الثقب الأسود في مركز مجرتنا - ثقب أسود هائل الحجم في مركز مجرة دب التبانة - الرامي أ*

أشارت النتائج إلى أن الثقب الأسود الرامي أ* ربما يشهد ظاهرة الكبح المغناطيسي. كان ذلك مفاجأةً للفريق، إذ إن مركز مجرة درب التبانة هادئ نسبيًا. عادةً ما تطلق الثقوب السوداء التي تُكبح مغناطيسيًا نفاثات عالية الطاقة، تطلق بدورها جسيمات بسرعات نسبية. لكن حتى الآن لم ير العلماء سوى أدلة قليلة لوجود النفاثات حول الثقب الاسود الرامي أ*.

يقول وايت: «تُعَد سرعة دوران الثقب الأسود أحد أدلة وجود النفاثات، لذلك قد يخبرنا هذا الاكتشاف شيئًا عن دوران الثقب الأسود الرامي أ*».

لسوء الحظ، يصعب تحديد دوران الثقب الأسود، وقد اضطر ريسلر في نموذجه للثقب الأسود الرامي أ* إلى أن يجعله جرمًا ثابتًا. وقال: «نحن لا نعلم أي شيء عن دورانه، ومن المحتمل أنه لا يدور».

يخطط ريسلر ووايت لتصميم نموذج مع ثقب أسود دوار، ما سيكون أصعب. سيقدم ذلك فورًا مجموعةً مباشرة من المتغيرات الجديدة، متضمنةً معدل دوران القرص المتنامي واتجاهه وميله. ستُستخدَم بيانات مقياس التداخل (جرافيتي GRAVITY) التابع للمرصد الجنوبي الأوروبي لتحقيق تلك المتطلبات.

استخدم الفريق المحاكاة لخلق صور يمكن مقارنتها بالملاحظات الفعلية للثقوب السوداء. طلب العلماء في مشروع تعاون تليسكوب أفق الحدث -الذي تصدَّر عناوين الأخبار في أبريل 2019 مع أول صورة حقيقة للثقب الأسود- بيانات المحاكاة من أجل إكمال جهودهم لتصوير الثقب الأسود الرامي أ*.

يستغرق تليسكوب أفق الحدث فعاليةً زمنية متوسطة لما يرصده، ما ينتج صورة ضبابية. كانت هذه أقل المشاكل التي واجهت المرصد في محاولة رصد ميسير 87 (Messier 87*)، لأنه أكبر بنحو ألف ضعف من الرامي أ*. لذلك تُعَد تغيراته أبطأ بنحو ألف ضعف.

قال ريسلر: «يشبه الأمر التقاط صورة لحيوان الكسلان مقارنةً بصورة طائر الطنان. يجب أن تساعد النتائج الحالية والمستقبلية على تفسير بيانات مركز مجرتنا».

تُعَد هذه النتائج خطوة كبيرة إلى الأمام لفهم طبيعة النشاط في مركز درب التبانة. وقال ريسلر: «للمرة الأولى يُصمم الثقب الأسود الرامي أ* على مثل هذا النطاق الكبير الذي يتضمن نصف القطر في محاكاة ثلاثية الأبعاد، وهي أول محاكاة على نطاق أفق الحدث لتوظيف الملاحظات المباشرة لنجوم وولف رايت».

اقرأ أيضًا:

للمرة الأولى: رصد ثقب اسود خامل داخل عنقود نجمي

طرد ثقب اسود عملاق من مركز مجرته في تصادم كوني غريب

ترجمة: آية قاسم

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: تسنيم المنجد

المصدر