إنّ مسألة الفرق الملموس بين أدمغة الذكور وأدمغة الإناث واحدةٌ من أكثر الأسئلة إلحاحًا وإثارةً للجدل في تاريخ علم الأعصاب.

توجد بعض الاختلافات بالطبع، تمامًا مثل الاختلاف في متوسط الطول البيولوجي بين الذكور والإناث.

أما السؤال الأصعب للإجابة عليه هو مدى عمق هذه الاختلافات، والسؤال الأكثر أهمية في هذا الشأن: هل وجود الاختلافات مهم أصلًا؟

المنظور التاريخي:

بدأت فكرة وجود شيء يفرّق بين أدمغة الذكور وأدمغة الإناث تكتسب زخمًا حقيقيًا في القرن التاسع عشر، وكما أوضحت عالمة الأعصاب المعرفية جينا ريبون في كتابها “الدماغ الجندري” The Gendered Brain، فقد شَهِد هذا العصر دفعة متزايدة من النساء للحصول على مزيد من حقوقهنَّ والاندماج في المجتمع.

ولسبب ما أزعج هذا الأمر الرجال الذين كانوا يحتكرون كل السلطة والنفوذ، ودفع الأمرُ المجتمع العلمي إلى تقديم أدلة تثبت أن النساء عاجزات وهشّات إلى حدٍّ لا يُؤخذن فيه على محمل الجد.

وقد قدم علم الجمجمة فكرة بسيطة، الدماغ الأكبر يعني ذكاءً أكبر. وبواسطة الكثير من البيانات المزوّرة واتباع نهج عدم التدخل إلى حدّ ما في التناسق التجريبي، بدا أن العديد من القياسات تثبت أن الرجال لديهم أدمغة أفضل.

ومع ذلك فإن النظرية لم تصمد أمام التدقيق. يشرح ريبون كيف حصل فريق من علماء الرياضيات -منهم الإحصائية أليس لي، إحدى أوائل النساء اللاتي تخرجن من جامعة لندن- على بيانات أدت إلى التخلي سريعًا عن علم الجمجمة، بعد إثبات أن بعضًا من أصغر الرؤوس في عيّنتهم تنتمي إلى مجموعة من علماء التشريح الذكور المشهورين، كما كانوا يزعمون أن الحجم مهم.

لم تكن هذه المحاولة الوحيدة لدور العلم في إثبات الاختلافات الثابتة المزعومة بين أدمغة الجنسين. على سبيل المثال كانت هناك الحجة التي قدمها إدوارد كلارك في كتابه “الجنس في التعليم” Sex in Education أو “فرصة عادلة للفتيات” a Fair Chance for Girls، أن تعريض النساء لأساليب التدريس نفسها المستخدمة لتعليم الرجال كان يؤدي إلى خطر آلام عصبية وأمراض الرحم والهستيريا، وغيرها من اضطرابات الجهاز العصبي، وكانت بعض الرؤى للاختيار المستقبلي توجب على الفتيان أن يدرسوا ويتعلموا العمل بطريقة الفتى، والفتيات بطريقة الفتاة.

قد نتفاجأ أو نرتعب عندما نسمع أن مثل هذه الأفكار استمرت في التعليم حتى القرن الحادي والعشرين، كما أوضحت عالمة الأعصاب ليز إليوت لمجلة The Conversation في عام 2021: «قبل نحو عقد من الزمن، حُثّ المعلمون على فصل الفتيان والفتيات في دروس الرياضيات واللغة الإنجليزية على أساس الاختلافات التعليمية المزعومة بين الجنسين، وأضافت: لحسن الحظ، رفض الكثيرون».

لقد ثبت أنه من الصعب التخلُّص من الأفكار القديمة حول كيفية تفكير وتعلّم الذكور والإناث، ولم يؤدِ ظهور تقنيات علمية متطورة إلى نهاية هذه المناقشة.

أسئلة جديدة ولكن لا توجد إجابات حتى الآن:

في عصر تخطيط كهربية الدماغ والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني والتصوير بالرنين المغناطيسي، خُصص قدر كبير من الطاقة لإيجاد اختلاف تشريحي أو وظيفي بين أدمغة الذكور وأدمغة الإناث.

لا يوجد نقص في الأوراق البحثية التي تدّعي الأدلة على ذلك، ولكن من جانب آخر، توجد أيضًا الكثير من العمل، منها مراجعة عام 2021 بقيادة إليوت التي رفضت بشدة فكرة ازدواجية شكل الدماغ البشري لدى الجنسين.

إن الطرق الجديدة لدراسة الأدمغة لا تعني سوى طرق جديدة لمحاولة العثور على الفرق الذي يظل الكثيرون متأكدين من وجوده، كي لا يكشف السبب وراء السلوكيات المفترضة المتعلقة بالجنس.

يشرح ريبون: «في بحثهم عن الاختلافات بين الجنسين، طابقَ أطباء الأعصاب افتراضاتهم حول أجزاء الدماغ المهمة مع النتائج التي توصلوا إليها حول أي أجزاء الدماغ هي الأكبر عند الذكور، حتى لو كانت عكس الاستنتاجات السابقة».

دعونا نستبعد حقيقة واحدة: الذكور لديهم أدمغة أكبر في المتوسط. والسبب البسيط لذلك هو أن الذكور لديهم أجسام أكبر. ويمكن ملاحظة اختلافات مماثلة وبعضها أكثر وضوحًا في الأعضاء الأخرى.

الجسم الثفني عبارة عن حزمة من الألياف العصبية، وهو مادة بيضاء في الدماغ، يربط نصفي الكرة المخية معًا. وجدت ورقة بحثية تعود إلى عام 1982 أن لدى الإناث كان جزء من الجسم الثفني أكبر. وحقيقة أن هذا الاختلاف كان طفيفًا إلى حد أنه لا يعتد به إحصائيًا ولا يبدو أنه ذو أهمية، وقد ترسخت الفكرة.

يبدو أن نظرية الجسم الثفني تقدم تفسيرًا أنيقًا لبعض الاختلافات المعروفة في كيفية تفكير الرجال والنساء. الجسم الثفني الأصغر يساوي اتصالات أقل بين نصفي الكرة الأيمن والأيسر. وهذا من شأنه أن يسمح لنصفي الكرة المخية بأداء وظائفها المنفصلة بفاعلية، ما يمنح الرجال ميزة في مجالات الرياضيات والعلوم، في حين يعيق النساء التفاعل المستمر بين النصف العاطفي والعقلاني من عقولهن.

دور البيئة:

يكتسب علم الأعصاب الحديث المزيد كل يوم عن مدى قدرة الدماغ البشري على التكيف. وتتغير أدمغتنا عندما نكتسب مهارات جديدة.

والمثال على هذا هو سائقي سيارات الأجرة في لندن، الذين خضعوا لبرنامج تدريبي يسمى “المعرفة” لحفظ التصميم المتعرج لشوارع المدينة. لقد ثبت بعد ذلك تغيّر في بنية الدماغ لدى السائقين، فقد ازدادت المادة الرمادية في الحصين الخلفي، الذي يرتبط بالذاكرة المكانية.

مهارات أخرى مثل تعلم العزف على آلة موسيقية، تترك أيضًا بصماتها على الدماغ. ما يوحي به هذا هو أن الاختلافات بين دماغين فرديين قد يكون بسبب تجاربهما المختلفة، وليس بسبب الجنس البيولوجي.

إن الطريقة التي يعامل بها الأطفال الصغار من الذكور والإناث في المجتمع قد تؤثر أيضًا على نمو أدمغتهم. فقد وجدت أبحاث عديدة أن التفضيلات النمطية للألعاب الذكورية أو الأنثوية موجودة حتى عند القرود. إلا أنه سيكون من الصعب أن نكون متيقنين من أن الاختلافات بين تكوّن أدمغة الذكور والإناث فطرية، وما يزال معظم الناس يكبرون في بيئة يؤثر فيها جنس الطفل على شيء أساسي مثل كيفية تحدث البالغين إليهم.

حين تسوء الأمور:

إحدى النقاط الشائكة في هذا النقاش حقيقة أن بعض الاضطرابات النفسية والعصبية والتطورية تؤثر على جنس واحد أكثر من الآخر. وإلا كيف يمكن تفسير ذلك إلا بوجود بعض الاختلافات الأساسية في أدمغتهم؟

وجدت دراسة أجريت عام 2020 في PNAS بعض الاختلافات في أحجام مناطق الدماغ بين الذكور والإناث، بالإضافة إلى أنماط مختلفة من التعبير الجيني المرتبطة بالصبغي الجنسي.

وقد اقترح الباحثون أن تعلم المزيد عن أنماط التعبير الجيني الخاص بالجنس قد يكشف المزيد عن الاختلافات بين الجنسين في أمراض الدماغ.

ومع ذلك لا يمكننا أيضًا أن نتجاهل حقيقة اعتقادنا أن ما نعرفه عن قابلية تعرض الجنسين للظروف المختلفة قد تبين أنه غير صحيح.

أحد الأمثلة على ذلك هو مرض التوحد، الذي كان يُعتقد سابقًا أنه مرض يصيب الذكور فقط.

في الواقع، بموجب ما يسمى نظرية تنظيم الدماغ، كان يُعتقد أن الهرمونات الجنسية الموجودة في أثناء نمو الجنين تعمل على تذكير أدمغة الأولاد ما يجعل الذكور أكثر عرضة للإصابة بالتوحد. في الآونة الأخيرة، أُعيد التفكير في فهم كيفية ظهور مرض التوحد لدى النساء والفتيات، ما أدى إلى العديد من التشخيصات.

أين يتركنا ذلك؟

يمكننا القول بوجود بعض الاختلافات بين أدمغة الذكور والإناث، وأن هناك المزيد لاكتشافه حول سبب هذه الاختلافات. لإنصاف المسألة أكثر علينا أن نضم إناثًا أكثر في البحوث؛ لأنه لم يكن لهذا أولوية دائما وستكون بداية جيدة.

أما فيما يتعلق بأن الاختلافات تنبِئ ببعض الأسرار عن قدرات أو مهارات الرجال والنساء، فإن ذلك يصبح أقل وضوحًا مع كل إضافة جديدة إلى الدراسات.

قد تأتي الإجابات المثيرة للاهتمام والمفيدة بالنظر إلى أدمغتنا باعتبارها متأثرةً بالحياة التي عشناها والتجارب التي مررنا بها، وليس فقط الكروموسومات الجنسية التي ولدنا بها.

اقرأ أيضًا:

أدمغة الأشخاص المنعزلين تعمل بصورة مختلفة!

تبدو أدمغة المراهقين مختلفة بطريقة مزعجة بعد الحجر الصحي

ترجمة: سوزان عبّود

تدقيق: غفران التميمي

المصدر