طُوّرتِ الفيروسات على نحوٍ مذهلٍ لتصبحَ الآنَ بمثابة مَركَباتٍ فعّالةٍ للغاية لإيصال الجينات إلى الخلايا.

وسعيًا إلى الاستفادة من هذه الميّزة، يمكن للعلماء أن يعيدوا برمجةَ الفيروسات لتكونَ بمثابة ناقلاتٍ قادرةٍ على نقل حمولتها الجينيّة المختارة إلى نوى الخلايا بأجسامنا.

وقد أصبحت هذه النواقل أدواتٍ حاسمةً لتوصيل الجينات بهدف علاج الأمراض ووَسْم الخلايا العصبيّة والأليافَ الواصلة بينها بالألوان المتألّقة لرسم خريطةٍ لمواقعها.

ولأنّ النواقلَ الفيروسيّةَ قد عُزِلت من الجينات خاصّتها، وبالتالي، منعها من الانتساخ؛ فإنّها لم تعد معديةً.

ولذلك يُشكّل نقل الجينات على نطاقٍ واسعٍ تحدّيًا صعبًا.

وهذا صحيحٌ خاصّةً بالنسبة لنقل الجينات لبعض الأعضاء الحيويّة مثل الدماغ، إذ يجب على النواقل الفيروسيّة أن تمضيَ عابرةً لما يُسمّى بالحاجز الدماغيّ الدمويّ-Blood Brain Barrier، وأيضًا الجهاز العصبيّ المحيطيّ، إذ تكون الخلايا العصبيّة منتشرةً في جميع أنحاء الجسم.

والآنَ، ولتمكين انتشار الجينات على نطاقٍ واسعٍ عبر الجهاز العصبيّ المركزيّ والمحيطيّ، وضع الباحثون بمعهد «كالتيك-Caltech» متغيّرين جديدين للنواقل الخاصّة بالفيروسات الغدّانيّة-

Adeno-Associated Virus (AAV): واحدٌ منهما يمكنه أن ينقلَ الحمولةَ الجينيّةَ بكفاءةٍ عبر الحاجز الدماغيّ الدمويّ، والآخر تلتقطه الخلايا العصبيّة المحيطيّة الموجودة خارجَ الدماغ والنخاع الشوكيّ، كتلك التي تساهم في الشعور بالألم وتنظّم معدّلَ ضربات القلب، والتنفّس، والهضم.

كلا الناقلين قادرٌ على الوصول إلى أهدافه بعد وخز حقنةٍ بسيطةٍ في مجرى الدم.

تتميّز تلك النواقل بأنّها قابلةٌ للتخصيص، ويمكن استخدامها كجزءٍ من العلاج الجينيّ لعلاج الاضطرابات العصبيّة التي تؤثّر على الجهاز العصبيّ المركزيّ بأكمله مثل داء هانتغتن، أو للمساعدة في رسم خريطةِ الدارات العصبيّة أو تعديلها وفي فهم كيفيّة تغيّرها أثناءَ المرض.

أُجريت هذه الدراسة في مختبر «فيفيانا غرادينارو Viviana Gradinaru»، وهي أستاذٌ مساعدٌ في علم الأحياء والهندسة البيولوجيّة، وباحثةٌ في معهد البحوث الطبيّة التراثيّة، ومدير مركز علم الأعصاب الجزيئيّة والخلويّة في معهد «تيانكياو وكريسي تشن-Tianqiao and Chrissy Chen» لعلم الأعصاب في «كالتيك»، وباحثةٌ رئيسةٌ في «مركز معهد كلوفر-CLOVER Center».

نُشرت هذه الورقة البحثيّة في السادس والعشرين من كانون الثاني في مجلة Nature Neuroscience.

تقول «غرادينارو»: »لقد طوّرنا الآن مجموعةً جديدةً من الفيروسات والأدوات لدراسة الجهاز العصبيّ المركزي والمحيطيّ.

وبإمكاننا الآنَ الحصول على كفاءةٍ عاليةٍ في النقل إلى جميع أنحاء الدماغ باستخدام جرعةٍ ضئيلةٍ فقط من الحقن الجهازيّة، والوصول إلى الخلايا العصبيّة في المناطق التي يصعب الوصول إليها، ووَسْم الخلايا بدقةٍ بألوانٍ متألّقةٍ متعدّدةٍ لدراسة أشكالها واتّصالاتها«.

عدّلت «غرادينارو» وفريقها السطحَ الخارجيَّ لفيروساتٍ غدّانيّةٍ (AAV) طُوِّرت في عام 2016، وقاموا بهندسة قشرة الفيروس، أو القفيصة-Capsid، للسماح لها بنقلٍ أكثرَ كفاءةٍ للجينات إلى خلايا الدماغ والحبل الشوكيّ بعدَ الحقن في الوريد.

أطلقوا عليها اسم الفيروس الجديد (AAV-PHP.eB).

وطوّر الفريق أيضًا غلافًا بروتينيًّا إضافيًّا للفيروس وأطلقوا عليه اسم (AAV-PHP.S) ويتميّز بقدرته على التحوّل الخلايا العصبيّة المحيطيّة.

يقول «بين ديفرمان-Ben Deverman»، كبير الباحثين في مجال البحوث ومدير مركز كلوفر في معهد بيكمان: «للخلايا العصبية خارج الجهاز العصبيّ المركزيّ وظائفُ عديدةٌ، بدءًا من نقل المعلومات الحسيّة وصولًا إلى ضبط وظيفة الأعضاء، ولكنّ بعضَ هذه الدارات العصبيّة المحيطيّة لم تُفهمْ بعدُ».

ويضيف: «يمكن أن تساعدَ نواقل (AAV-PHP.S) التي طوّرناها على دراسة نشاط ووظائف أنواعٍ معيّنةٍ من الخلايا العصبيّة داخل الدارات المحيطيّة باستخدام أجهزة الاستشعار والأدوات المرمَّزة وراثيًّا لتعديل إطلاق السيّالات العصبيّة مع الأدوية الخفيفة أو المصمّمة».

يمكن أيضًا لنواقل (AAV) الجديدة توصيلُ الجينات التي تُترجَم إلى بروتيناتٍ ملوّنةٍ متألّقةٍ؛ وهذه البروتينات مفيدةٌ في تحديد ووضع العلامات للخلايا.

في هذه العمليّة، يتمّ خلط النواقل المتعدّدة (AAV) – كلٌّ منها يحمل لونًا متميّزًا – معًا وحقنُها في مجرى الدم.

عندما تصل إلى الخلايا العصبيّة المستهدفة، تتلقّى كلُّ خليّةٍ عصبيّةٍ مزيجًا فريدًا من الألوان، ممّا يعطيها هويّةً متميّزةً بصريًّا ويسهّل على الباحثين تمييزَ تفاصيلها الدقيقة عن جيرانها.

وعلاوةً على ذلك، وضع الفريق البحثيّ تقنيّةً للسيطرة على عددٍ من الخلايا العصبيّة الموسومة التي تسمح للباحثين بتصوّر الأشكال العصبيّة الفرديّة وتتبّع الألياف التي تربطها عبر الأنسجة السليمة باستخدام تكنولوجيا أخرى طوّرها مختبر «غرادينارو»، والمعروفة باسم تطهير الأنسجة.

يحمل الناقل الفيروسيّ المعدّل هندسيًّا الجينَ المُخبرَ الذي تسيطر عليه العناصر التنظيميّة الجينيّة المختلفة والتي تمكّن من التعبير الجينيّ في الخليّة التي تهمّنا بداخل دماغ فأرٍ بالغٍ.

(A) تعبيرٌ بروتينيٌّ باللون الأخضر المتألّق من معزّز خلية بوركنجي بالمخ.

(B) بروتينٌ أحمرُ متألّقٌ يقوده مثبّط الخلايا العصبيّة بالدماغ الأماميّ.

ويقول طالب الدراسات العليا السابق والمؤلّف الأوّل الدكتور «كين تشان-Ken Chan»: «عادةً، عندما يريد الباحثون لفأرٍ أو لنموذجٍ حيوانيٍّ آخرَ أن يُعبّرَ عن بروتيناتٍ متألّقةٍ في خلايا معيّنةٍ، فهم بحاجةٍ إلى تطوير حيواناتٍ معدّلةٍ وراثيًّا يمكن أن تستغرقَ أشهرَ إلى سنواتٍ لتطويرها وتمييزها.

والآن مع حقنةٍ واحدةٍ، يمكننا وَسْم خلايا محدّدةٍ بمجموعةٍ متنوّعةٍ من الألوان في غضون أسابيعَ بعد الحقن».

تقول «غرادينارو»: «هناك العديد من الاستخدامات المحتملة بالنسبة للناقلات الفيروسيّة النظاميّة الجديدة -AAV PHP.S, AAV PHP.eB-، بدءًا من رسم خرائط الدارات في الأطراف والفحص السريع للعناصر التنظيميّة للجينات وحتّى تعديل الجينوم باستخدام أدواتٍ قويّةٍ مثل كريسبر Cas9 (CRISPR-Cas9)، لكنّ المثيرَ في الدراسة هو أنّ أدواتِنا عندما تقترن مع الجينات المناسبة يمكنها توفير طريقةٍ غير عدائيّةٍ لتعديل الدماغ بهدف علاج الأمراض العصبيّة مثل داء باركنسون».


  • ترجمة: علي أبو الروس.
  • تدقيق: اسماعيل اليازجي.
  • تحرير: عيسى هزيم.
  • المصدر