صُنع التاريخ منذ سنة تقريبًا عندما أنتج العمل الطويل والمُجهِد للعلماء حول العالم أول صورة مباشرة لأفق حدث ثقب أسود ، وهو الوحش الهائل المُسمى M87 الذي يبعد عن الأرض مسافة 55 مليون سنة ضوئية (السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء، بسرعة 300 ألف كيلو متر في الثانية، في سنة)، تلك الصورة الرائعة الضبابية التي أثبتت العديد من تصوراتنا عن الثقوب السوداء.

يوجد عدد لا نهائي من حلقات الضوء حول الثقوب السوداء.. كيف يمكننا رؤيتها - حلقة الفوتون حلقة مثالية من الضوء تدور حول الثقب الأسود

لكن العلم لم يتوقف عند ذلك. فقد نفذ فريق من العلماء حساباتهم، اعتمادًا على ما تعلمناه من الثقب الأسود M87، إضافةً إلى توقعات النسبية العامة، من أجل تمهيد الطريق لنرى الأجرام رؤيةً أكثر تفصيلًا يومًا ما.

للثقوب السوداء جاذبية كبيرة بدرجة لا تُصدق. فهي ليست كبيرة لدرجة أن الضوء لا يتمكن من الهرب منها فحسب، بل إنها تجعل مسار الضوء منحنيًا حولها أيضًا، أي فيما وراء أفق الحدث.

لو اقترب فوتون الضوء من الثقب الأسود سيكون مُحاصَرًا في قبضة مدار حول الثقب الأسود، فيخلق ما يسمى (حلقة الفوتون) أو (كرة الفوتون)، وهي حلقة مثالية من الضوء تدور حول الثقب الأسود في الحافة الداخلية لهذا القرص المتنامي، لكنها خارج أفق الحدث.

يُسمى ذلك أيضًا المدار الداخلي الأكثر استقرارًا، وتستطيع رؤيته في الصورة التالية، التي صممها الفيزيائي الفلكي Jean-Pierre Luminet سنة 1978.

يوجد عدد لا نهائي من حلقات الضوء حول الثقوب السوداء.. كيف يمكننا رؤيتها - حلقة الفوتون حلقة مثالية من الضوء تدور حول الثقب الأسود

تشير نماذج محيط الثقب الأسود إلى أنه على حلقة الفوتون أن تخلق أساسًا معقدًا يتكون من حلقات لا نهائية من الضوء، تشبه قليلًا التأثير الذي تراه في مرآة لا متناهية.

اقرأ أيضًا: هل الحياة ممكنة بالقرب من الثقوب السوداء ؟

يشرح الفيزيائي الفلكي مايكل جونسون Michael Johnson من مركز الفيزياء الفلكية Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics: «تحتوي صورة الثقب الأسود بالفعل سلسلةً متداخلة من الحلقات. كل الحلقات المتتالية لها القطر نفسه، لكنها تزداد وضوحًا بسبب تضاعف عدد مرات دوران ضوئها حول الثقب الأسود قبل وصوله إلى المراقب. وتكشف الصورة الحالية الصادرة من تلسكوب أفق الحدث EHT لمحةً من التعقيد الذي يجب أن يظهر في صورة أي ثقب أسود».

الصورة السابقة هي أول صورة للثقب الأسود M87، وتُظهر لنا القرص المتنامي، وهو الجزء البرتقالي المتوهج في الصورة. والجزء المظلم في المركز هو ظل الثقب الأسود. لكن لا يمكننا فعليًّا أن نرى كرة الفوتون، لأن الحلقة دقيقة جدًّا، ودقة الصور ليست كافية لتوضيحها، لكنها موجودة على حافة ظل الثقب الأسود.

إذا تمكنا من رؤيتها، فستخبرنا تلك الكرة الكثير من الأشياء عن الثقب الأسود، فمن حجمها نستطيع أن نستنتج كتلة الثقب الأسود وحجمه ودورانه، وهي معلومات يمكن معرفتها من نمو قرص الثقب الأسود، لكن تسمح لنا حلقة الفوتون بتحديد تلك المعلومات بدقة أكبر، والحصول على قياسات أدق.

كتب الباحثون: «تتكون كل حلقة متداخلة من الفوتونات تصل إلى شاشة المراقب بعد أن تجتمع كل الفوتونات القادمة من حول الكون ضمن هذه الحلقة، ومن ثم -في بيئة مثالية دون امتصاص- تحتوي كل حلقة متداخلة على صورة مُنفصلة مُكبَّرة للكون بأكمله، مع كل حلقة تالية التقطت فوتونات من الكون المرئي في وقت سابق. وبجمع الحلقات مع بعضها ستشبه إطارات الفيلم، لتلتقط تاريخ الكون المرئي كما يُرى من الثقب الأسود».

شاهد الفيديو

لذلك استخدم جونسون وفريقه النمذجة لتحديد إمكانية اكتشاف حلقات الفوتون في المشاهدات المستقبلية، ليجدوا أنه ممكن رغم صعوبته.

كانت صورة الثقب الأسود M87 إنجازًا بارعًا ونتاج تعاون، إذ عملت عدة مراصد حول العالم معًا لخلق مقياس تداخلي بعيد المدى يُسمى تلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope، إذ يمكن قياس المسافات الفاصلة والأزمنة المختلفة عبر مصفوفة هذه المراصد لتكوين مشاهداتها معًا. وبمصطلح بسيط جدًّا يشبه ذلك امتلاك تلسكوب بحجم الكرة الأرضية.

وقال جونسون: «كان ما فاجأنا فعلًا أنه رغم عدم وضوح الحلقات المتداخلة للعين المجردة في الصور -حتى في الصور المثالية- كانت الإشارات قوية وواضحة لمصفوفة التلسكوبات تلك. وفي حين يتطلب التقاط صورة للثقب الأسود العديد من التلسكوبات الموزعة حول العالم، يمكن دراسة الحلقات المتداخلة دراسةً مثالية باستخدام تلسكوبين متباعدين فقط، أي تليسكوب آخر إضافي لتلسكوب أفق الحدث».

ستكون بداية رائعة عندما نضع التلسكوب في المدار المنخفض حول الأرض، وإن كان سيعطينا لقطة واضحة لإحدى الحلقات فقط.

لرؤية الحلقة التالية، عليك أن تذهب أبعد قليلًا من المدار المنخفض حول الأرض، وذلك بوضع تلسكوب على سطح القمر. أما لرؤية الحلقة الثالثة فعليك الابتعاد أكثر، حتى تصل إلى موقع مستقر طبيعيًّا بين جاذبيتي الأرض والشمس، أي نقطة تتساوى عندها قوة جذب الأرض وقوة جذب الشمس، ما يُسمى نقطة لاغرانج Lagrange point، (L2) الموضحة في الشكل السابق.

كل ذلك ممكن، إذ تخطط وكالة ناسا لإرسال مهمة مع طاقم إلى القمر، ولدينا بالفعل عدد من الأقمار الصناعية في النقطة L2. بالتأكيد لن يحدث ذلك غدًّا، لكنه هدف رائع للعمل من أجل الجيل المقبل لتلسكوب أفق الحدث.

اقرأ أيضًا:

الثقوب السوداء – ما هو الثقب الأسود ؟

تريدك ناسا أن تعرف أن عملية رصد الثقب الأسود تبدو أكثر جنونًا عندما تكون من الجانب

ترجمة: فارس بلول

تدقيق: سمية بن لكحل

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر