اعتدنا عند التفكير في مواطن حياة محتملة، البحث عن عوالم مائية تدور حول نجوم تشبه الشمس، لكن ورقة بحثية جديدة وجدت موطنًا جديدًا مُحتملًا: كوكب صخري يدور حول أفق الحدث لثقب أسود عملاق يدور بسرعة. تستطيع القوى الغريبة حول ذلك الثقب الأسود إمداد الكوكب بالدفء إمدادًا مناسبًا، لكن السيناريو يأتي مع حقيقة تجعلنا نحبس أنفاسنا: يدور الكوكب بسرعة الضوء تقريبًا!

مواطن للبشرية

لا نعرف جميع الأماكن المحتملة التي قد تنشأ فيها الحياة في كوننا، لأنه حتى هذه اللحظة ليس لدينا سوى مثال واحد فقط هو نحن. وفي حين يستمتع العلماء ومؤلفو الخيال العلمي بالتفكير في جميع الترتيبات والاحتمالات الغريبة الممكنة لأشكال الحياة، وبإجراء عمليات بحث جادة عن الذكاء خارج كوكب الأرض، يكمن رهاننا الأفضل في استخدام ظروفنا الخاصة قالبًا نموذجيًّا، والبحث عن حياة لا تختلف كثيرًا عما نراه هنا على الأرض.

للحياة مطلبان مهمان للغاية، أولًا وجود الماء، وهو الجزيء الأكثر شيوعًا في الكون، ويتكون من الهيدروجين (أكثر عناصر كوننا وفرة) والأكسجين (المنتج الثانوي لتفاعلات الاندماج النجمية، ما يجعله شائعًا جدًّا أيضًا)، لكن الماء يتبخر عادةً متحولًا إلى بلازما، أو يظل متجمدًا في الحالة الصلبة، وهي حالات لا تناسب الحياة.

هل الحياة ممكنة بالقرب من الثقوب السوداء - مواطن حياة محتملة - عوالم مائية تدور حول نجوم تشبه الشمس - الحياة في الفضاء - الكون

من الصعب تحقيق الحالة السائلة للماء، إذ يتطلب ذلك مصدر حرارة غير ساخن لدرجة التبخر، ويوجد هذا التوازن المثالي في حالتين فقط:

  1.  النطاق الصالح للحياة حول النجوم، وهي المدارات التي يصل إليها الضوء بقدر مناسب.
  2.  ما تحت القشور الجليدية لبعض أقمار الكواكب الخارجية في نظامنا الشمسي، حيث تولد الحرارة الناجمة عن المد والجزر الطاقة اللازمة.

لكن الحرارة وحدها لا تكفي، فالحياة منظومة معقدة تستخدم الطاقة في الكثير من الأمور، مثل التنقل والأكل والتكاثر، وتنتج هذه العمليات الحرارة، التي يجب أن نتخلص بها بأمان، وإلا فستؤدي إلى كابوس الاحتباس الحراري، إذ ترتفع الحرارة إلى مستويات لا يمكن السيطرة عليها وتقضي على أي حياة مُحتمَلة.

تتخلص الأرض من نفاياتها الحرارية في الفضاء في صورة الأشعة تحت الحمراء. يؤدي الاختلاف بين مصادر الطاقة وبين مكان التخلص من النفايات إلى أن يكون كوكبنا صالحًا للحياة، وكذلك سيكون أي كوكب آخر يمر بظروف مماثلة.

الوحوش الدافئة

تبدو الثقوب السوداء للوهلة الأولى المكان الأقل احتمالًا لاستقبال أي شكل من أشكال الحياة، فهي أجسام مصنوعة من الجاذبية المُطلَقة، تسحب أي شيء يقترب أكثر من اللازم من أفق الحدث، ما يعزلها عن بقية الكون إلى الأبد، فلا يستطيع أي شيء الإفلات من جاذبيتها، حتى الضوء.

لا ينبعث الضوء من الثقوب السوداء -لذلك هي سوداء!- لكن تلك الجاذبية التي لا مفر منها قد تحقق مفاجأةً كونية فريدة من نوعها.

يتخلل الكون إشعاع يسمى إشعاع الخلفية الكوني الدقيق Cosmic Microwave Background، وهو الإشعاع المتبقي من بداية الكون، عندما كان عمره 380 ألف سنة، ويُعَد أكبر مصدر للإشعاع في الكون بأسره، إذ يغمر كل النجوم والمجرات، لكننا لا نراه لأنه يقع في نطاق الموجات القصيرة من الطيف الكهرومغناطيسي (ومن هنا اكتسب اسمه).

إن إشعاع الخلفية الكوني الدقيق بارد جدًّا، إذ تزيد درجة حرارته 3 درجات فقط على الصفر المُطلَق (–273.15 درجة سيليزية)، لكن ما إن يقع ضوء إشعاع الخلفية الكوني الدقيق داخل ثقب أسود، فإنه ينزاح نحو الأزرق، إذ يكتسب المزيد والمزيد من الطاقة نتيجة الجاذبية القصوى. وقبل الوصول إلى أفق الحدث فإنه يكتسب قدرًا كبيرًا من الطاقةً، متحولًا إلى أجزاء الأشعة تحت الحمراء والمرئية وفوق البنفسجية من الطيف.

بمعنى آخر، يتحول إشعاع الخلفية الكوني الدقيق عند الاقتراب من الثقب الأسود من البرودة إلى الحرارة الشديدة.

وعلى ذلك، إذا كان الثقب الأسود يدور، فهو يستطيع تركيز الضوء في شعاع ضيق، ما يجعل إشعاع الخلفية الكوني الدقيق يظهر بقعةً واحدةً في السماء، وذلك شبيه نوعًا ما بالشمس.

نقطة اعتدال

إن استطعنا الاقتراب كفاية من الثقب الأسود، فسنجد أنفسنا في مكان دافئ بدرجة مدهشة، وإذا كان الجسم المقترب كوكبًا، فسيتحول الماء المتجمد عليه إلى محيطات سائلة ويصبح قابلاً للحياة، لكن كي تزدهر الحياة على هذا الكوكب، ستحتاج أيضًا إلى آلية لتخفيض الحرارة، ويستطيع الثقب الأسود نفسه أن يؤدي هذا الدور، إذ توسع تشوهات الجاذبية الموجودة قرب الثقب الأسود أفق الحدث وتمدده.

يتقلص إشعاع الخلفية الكوني الدقيق الساخن قرب الثقب الأسود (عند نصف قطر أقل من 1% من أفق الحدث) ليشغل حيز قرص صغير فقط، في حين يتضخم أفق الحدث ليغطي 40% من السماء، وإذا كان الكوكب يدور، فسنحصل حينها على (نهار) و(ليل) مشابهين لما نراه على الأرض، وعندها سيتوفر للحياة كل ما تحتاج إليه كي تنطلق.

لكن المشكلة أن المدارات عند هذا القطر ستصبح غير مستقرة بدرجة كبيرة، ما يجعلها عرضةً للسقوط في غياهب الثقب الأسود. نشر فريق من الباحثين مؤخرًا تحليلًا في صحيفة الفيزياء الفلكية، يدرسون فيه هذا السيناريو، لبحث وجود طريقة لجعل الوضع مستقرًّا في تلك الحالة.

وقد وجدوا الحل: إذا كان الثقب الأسود كبيرًا -أي لا يقل عن 1.6X108 ضعف كتلة الشمس- ويدور بسرعة، فإنه سيشكل (منطقةً قابلة للحياة) في مداره قرب أفق الحدث، حيث يبلغ ضوء إشعاع الخلفية الكوني الدقيق الجزء فوق البنفسجي من الطيف، سيكون المكان حارًّا، لكن ليس بالغ الحرارة. إذا اقترب الكوكب أكثر ستدمره قوى الجاذبية الهائلة، وإذا ابتعد أكثر سيكون المكان باردًا للغاية، لكن ذلك النطاق المتوسط هو الأنسب لاستقبال الحياة.

رغم ذلك لن يكون الأمر مثاليًّا، إذ سيدور الكوكب بسرعة تقارب سرعة الضوء، وسيخضع لعامل تمدد زمني هائل، ما يعني أن كل ثانية تمر على ذلك الكوكب، تقابلها ساعات بمقاييسنا. وإضافةً إلى ذلك، لسنا واثقين من قدرة الكوكب على الصمود في دورانه قرب الثقب الأسود.

علينا مع ذلك أن نحتفظ بانفتاحنا عند الحديث عن مواطن الحياة المحتملة في الكون، حتى في أكثر الأماكن غرابة!

اقرأ أيضًا:

اكتشاف نادر! ثلاثة ثقوب سوداء عملاقة على وشك الاصطدام

ثقوب سوداء تسلّط الضوء على كوننا

ربما تمكنا أخيرًا من رصد إشعاع هوكينغ المتسرب من الثقوب السوداء

في فجر التاريخ، ربما انتشرت الثقوب السوداء فائقة الكتلة في أنحاء الكون

ترجمة: هاني عبد الفتاح

تدقيق: سمية المهدي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر