تشبه زيارة المتاحف الكبرى الدخول في آلة الزمن، فمقابل ثمن زهيد يُتاح للزائر تأمُّل قطع لا تُقدّر بثمن من مختلف العصور والثقافات. لكن كثيرًا من هذه المقتنيات يخفي وراء لمعانه قصصًا من النهب والسلب والاستعمار. وفيما يلي، نستعرض سبع قصص لقطع فنية وأثرية استُعيدت إلى أصحابها الشرعيين، كاشفة عن ماضٍ مثقل بالظلم، وحاضر بدأ يستدرك ما فاته من عدالة تاريخية.
على مدى عقود، لم تطرح المؤسسات المتحفية ولا جمهورها تساؤلات جادة حول كيفية وصول هذه الكنوز إلى خزائن العرض. حتى أكثر المتاحف عراقة لم تُبدِ حرصًا يُذكر على التحقّق من مصادر هذه القطع أو شرعية اقتنائها حتى وقت قريب، إذ بدأت تتغير الأمور تدريجيًا.
تقول إليزابيث مارلو، مؤرخة الفن وأستاذة دراسات المتاحف بجامعة كولغيت الأمريكية: «كانت المتاحف تتبنى قاعدة غير مكتوبة، كل شيء مباح ما لم يثبت العكس … فما لم يَثبت أن القطعة مسروقة، لا مانع من عرضها». وهكذا، فتحت هذه القاعدة ثغرة أخلاقية وقانونية، سمحت لهواة جمع الآثار في أوروبا والولايات المتحدة بمراكمة مجموعات ضخمة من القطع المثيرة للريبة.
1) المرأة ذات الرداء الذهبي لغوستاف كليمت
أصدر هتلر أوامره لنهب ممتلكات اليهود في أوج الهولوكوست، ومن ضمنها الأعمال الفنية. وبذلك استولت ألمانيا النازية على ما يزيد عن مليوني قطعة فنية، عبر المصادرة والبيع القسري. وطوال عقود لم تتحرَّ المتاحف ولا تجار الفن في مصدر تلك الأعمال.
توضح مارلو أن تتبّع تاريخ قطعة فنية من ورشة فنان إلى عائلة يهودية، ثم اختفائها في أثناء الحرب وظهورها لاحقًا في مزاد علني يُعد مؤشرًا خطيرًا. ولذا وفي خطوة أخلاقية، أقرّت 44 دولة في 1998 مبادئ واشنطن بشأن استعادة الأعمال المنهوبة.
ومن أشهر الأمثلة لوحة المرأة ذات الرداء الذهبي التي رسمها غوستاف كليمت عام 1907، وكانت ضمن مجموعة آل بلوخ باور إلى أن فرت العائلة من النمسا تحت وطأة النازية، فحينها صادرت السلطات اللوحة التي انتهى بها المطاف في متحف نمساوي. لكن ماريا ألتمان ابنة شقيقة صاحبة اللوحة خاضت معركة قضائية طويلة انتهت عام 2006، حين أُعيدت إليها اللوحة، ثم بيعت بمزاد مقابل 135 مليون دولار، أحد أعلى الأسعار في تاريخ الفن.
2) قميص رقصة الأشباح لشعب لاكوتا
عُرضت قطع مقدسة لشعوب الأمريكيين الأصليين في المتاحف دون موافقة من القبائل. لكن في 1990، سنّ الكونغرس الأمريكي قانونًا يُلزم المتاحف بإحصاء الممتلكات الجنائزية والمقدسة وإعادتها لأصحابها.
لكن القانون لا يمتد خارج الولايات المتحدة، ففي 1992 زار رجل من شعب لاكوتا متحف كيلفينغروف في غلاسكو، ليكتشف قميصًا مقدسًا كان يُستخدم في رقصة الأشباح، وهي طقوس اعتُقد أنها تحمي مرتديها من الأذى. وقد سُلِب القميص من جثة محارب قُتل في مذبحة الركبة الجريحة عام 1890.
وبعد جدل طويل، وافق مجلس مدينة غلاسكو عام 1999 على إعادة القميص إلى جمعية لاكوتا، في بادرة اعتُبرت مثالًا على احترام الموروث الثقافي ومداواة الجراح التاريخية.
3) تمثال الملك السومري انتيمينا
بينما كانت القوات الأمريكية تقترب من بغداد في عام 2003، تُرك متحف العراق بلا حماية وشهد عمليات نهب ضخمة. قُدّر عدد القطع المسروقة بأكثر من 17 ألف قطعة، بعضها لا يُقدّر بثمن.
ومن أبرز تلك الكنوز تمثال يعود للعام 2400 قبل الميلاد، يُعتقد أنه يمثّل الملك انتيمينا من مدينة لجش السومرية. التمثال الحجري الضخم قُطع رأسه وهُرّب إلى سوريا، ثم ظهر في السوق السوداء، إلى أن استعاده عملاء أمريكيون سريون عام 2006. يُعد هذا التمثال من أثقل القطع التي استُعيدت، وهو رمز لحجم الفوضى التي اجتاحت التراث العراقي عقب الغزو.
4) الميدالية الذهبية لجيسي أوينز
أرادت ألمانيا النازية من دورة برلين الأولمبية عام 1936 أن تكون عرضًا لتفوق العرق الآري، لكن العداء الأمريكي من أصول إفريقية جيسي أوينز نسف هذه الدعاية بفوزه بأربع ميداليات ذهبية.
وقد تبعثرت ممتلكاته بعد وفاته عام 1980، وفي 2013 ظهرت إحدى ميدالياته في مزاد علني، وبيعت مقابل 1.4 مليون دولار. ومع إن استعادتها كانت رسمية، تُطرح تساؤلات أخلاقية عما إذا كان من المناسب بيع مقتنيات تحمل هذا الإرث الرمزي على الملأ.
5) برونزيات مملكة بنين
في عام 1897 اجتاحت قوات الاستعمار البريطاني مملكة بنين الواقعة حاليًا في نيجيريا، ونهبت آلاف القطع البرونزية ووزعتها على متاحف أوروبا وأمريكا.
تُعد برونزيات بنين اليوم رمزًا عالميًا لحركة استرداد الآثار. ففي 2022، أعادت ألمانيا أكثر من ألف قطعة إلى نيجيريا، تبعتها جامعات أمريكية وبريطانية. وتعليقًا على ذلك، تقول مارلو: «بدأت المتاحف تعي أن اقتناء القطعة لا يبرر حيازتها، بل يفرض مسؤولية أخلاقية تتعلق بأصلها».
6) توابيت مصرية مزيفة المصدر
لم تسلم مصر من النهب، خصوصًا بعد ثورة 2011، حين فُتحت أبواب المقابر والمعابد أمام لصوص الآثار. ظهر أحد التوابيت المنهوبة في متحف المتروبوليتان بنيويورك عام 2017 بعد شرائه مقابل 4 ملايين دولار، وهو تابوت ذهبي مذهل للكاهن نجم عنخ.
لكن التحقيقات الفرنسية والأمريكية كشفت أن أوراق التابوت مزورة. وفي 2019، أُعيد إلى مصر، في خطوة نادرة أثارت تساؤلات حول مدى نزاهة أسواق الفن العالمية.
7) جماجم من عهد الاستعمار الألماني في ناميبيا
خلال الحقبة الاستعمارية، شنّ الجيش الألماني حملات إبادة ضد شعبي هيريرو وناما في ناميبيا، ما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف. وخلال تلك الحملات، أُرسلت جماجم الضحايا إلى ألمانيا لأغراض بحثية عنصرية.
في العقود الأخيرة، تصاعدت الضغوط على ألمانيا لإعادة تلك الجماجم إلى ناميبيا. وفي عام 2018، أعادت برلين رسميًا جماجم وعظام نحو 27 شخصًا إلى ذويهم، في اعتراف ضمني بفظائع الماضي، وخطوة خجولة نحو المصالحة.
لم تكن هذه القطع محض أشياء مادية معروضة خلف الزجاج؛ بل كانت شاهدة على حكايات ظلم واستغلال واستعمار. واليوم، ومع تزايد الوعي العالمي، بدأت المتاحف تُدرك أنها ليست خزائن للعرض وحسب، بل مؤسسات مسؤولة أخلاقيًا وتاريخيًا.
ومع إن طريق العدالة ما يزال طويلًا، فإن كل قطعة تُعاد إلى أصحابها تمثّل انتصارًا صغيرًا على النسيان، وخطوة نحو تصحيح التاريخ الذي لم يُكتب دومًا بمنطق الإنصاف.
اقرأ أيضًا:
علماء الآثار يكتشفون مدينة مايا مفقودة منذ فترة طويلة في أعماق الغابة المكسيكية
أهمية التكنولوجيا في علم الآثار
ترجمة: أميمة الهلو
تدقيق: مؤمن محمد حلمي
مراجعة: محمد حسان عجك