منذ فجر عصر الفضاء، أطلقت البشرية آلاف البعثات الفضائية، بدءًا من أقمار الاتصالات ومنصات رصد المناخ، وصولًا إلى مسابر الفضاء السحيق التي تستكشف أطراف النظام الشمسي وما وراءه.
هناك بعثات أخرى مأهولة، أرسلت رواد فضاء إلى مدار الكوكب، أو القمر، أو محطة الفضاء الدولية، لكن في بعض الأحيان حملت هذه البعثات معها جزءًا من الأرض والثقافة البشرية.
كما استكشفنا في الجزء الأول، شملت هذه البعثات لوحات أبولو، ولوحات الرواد، وأسطوانات فوييجر الذهبية، ورسالة أريسيبو. سنتناول في هذه الحلقة رسائل أخرى وحمولات خاصة وصلت إلى الفضاء منذ نهاية عصر الفضاء الأول (أي منذ عام 1972). تُبذل جهود متعددة مع دخولنا عصرًا جديدًا من استكشاف الفضاء لإدراج القطع الأثرية والتذكارات في البعثات.
إن الغرض من هذه البعثات مزدوج: ضمان أن تتذكر الأجيال القادمة إرث البشرية في الفضاء، ووضع بصمتنا على الكون، التي قد تجدها حضارة ذكية أخرى يومًا ما.
أبوللو 17
على غرار مهمة أبولو 11، التي حملت لوحة تذكارية على مركبة الهبوط القمرية، حملت مركبة الهبوط القمرية أبولو 17 أيضًا لوحةً تُجسّد أهمية المهمة. كُتب على اللوحة باعتبارها آخر مهمة أبولو التي ستنقل رواد فضاء إلى القمر: «هنا أكمل الإنسان أول اكتشافاته للقمر في ديسمبر 1972. فلتنعكس روح السلام التي جئنا بها في حياة البشرية جمعاء».
ضمَّت اللوحة أيضًا أسماء طاقم رواد الفضاء -يوجين أ. سيرنان، ورونالد إي. إيفانز، وهاريسون هـ. شميت- وتوقيع الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون، دشنت لوحة أبولو 11 عصرًا جديدًا في استكشاف الفضاء، وسجلت لوحة أبولو 17 نهاية سباق الفضاء.
سيارة شيري رودستر من ماسك
أطلقت سبيس إكس حمولة مميزة إلى الفضاء في 6 فبراير 2018: سيارة تيسلا رودستر حمراء كرزية موديل 2010 مملوكة لمؤسس الشركة، إيلون ماسك. احتوت المركبة على دمية ترتدي بدلة فضاء تُسمى ستارمان جالسة في مقعد السائق. كان الإطلاق بمثابة الرحلة التجريبية الافتتاحية لصاروخ فالكون هيفي، الذي قدّم أقوى نظام إطلاق في العالم حتى ذلك الوقت.
من الإنجازات الرئيسية الأخرى إطلاق سيارة رودستر في مدار بيضاوي حول الشمس، عابرةً مدار المريخ. هذا يجعل شيري رودستر -مع ستارمان- أول سيارة إنتاج تُطلق إلى الفضاء. اقتربت السيارة لأول مرة من المريخ في 7 أكتوبر 2020، حيث قطعت مسافة 8 ملايين كيلومتر من الكوكب الأحمر. ستقترب المركبة من الأرض عام 2047، مارةً على مسافة 5 كيلومترات.
تشير المحاكاة إلى أن سيارة رودستر ستدور على الأرجح عبر نظامنا الشمسي لملايين السنين. ستؤدي الإشعاعات الكونية والنيازك الدقيقة وغيرها من المخاطر الفضائية إلى تدهور المركبة بمرور الوقت. هناك احتمال ضئيل لاصطدامها بالأرض، كما هو الحال مع الأجسام القريبة من الأرض.
قرص ذاكرة اليونسكو
أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 2014 عن شراكتها مع شركتي الفضاء التجاريتين باريل هاند وآي سبيس لإطلاق قرص ذاكرة إلى القمر. يتكون القرص من صفيحة نيكل محفورة بتقنية النانو، تحتوي على تسجيلات لـ 275 لغة أرضية وتحفًا ثقافية. أُطلقت هذه المبادرة احتفاءً بالعقد الدولي للغات الشعوب الأصلية 2022-2023، وإصدار الأطلس العالمي للغات، يحتوي على بيانات لغوية من 127 دولة.
شرح توفيق الجلاصي، المدير العام المساعد للاتصالات والمعلومات في اليونسكو، الغرض من قرص الذاكرة على النحو التالي: تحمل اللغات معارف الشعوب وهويتها ورؤاها العالمية. من خلال عملنا في مجال التعدد اللغوي والعقد الدولي للغات الشعوب الأصلية، يؤكد هذا المشروع التزامنا الجماعي بحماية التراث المشترك للبشرية.
يحمل القرص ديباجة دستور اليونسكو التي تقول: لما كانت الحروب تبدأ في عقول الرجال، فإن دفاعات السلام يجب أن تُبنى في عقول الرجال والنساء، وقد ترجمت إلى 275 لغة.
يُعدّ قرص الذاكرة أيضًا مستودعًا لتراث البشرية، إذ يضمّ كتبًا ولوحات فنية ومقتنيات ثقافية متنوعة. رافقت النسخة الأولى من هذا القرص مهمة HAKUTO-R Mission 2 RESILIENCE التابعة لشركة ispace، والتي انطلقت إلى القمر في 15 يناير 2025. رغم فشل المركبة في إكمال هبوطها، واصطدامها بسطح القمر وسقوطها على جانبها، إلا أن الحمولة نُقلت بنجاح. سينضم إليها قريبًا نسختان إضافيتان (V2 وV3).
بقايا البشر
لعل أبرز الحمولات التي أرسلتها البشرية إلى الفضاء هي رفات رواد الفضاء، والشخصيات العلمية، والأشخاص العاديين الذين رغبوا في أن يكون مثواهم الأخير بين النجوم، وهي عملية تُعرف باسم الدفن الفضائي.
حملت مهمة نيو هورايزونز التابعة لناسا حمولة خاصة في أثناء توجهها إلى النظام الشمسي الخارجي: جزء من رماد كلايد تومبو. اكتشف هذا الفلكي الشهير بلوتو في أثناء عمله في مرصد لويل في فلاغستاف، أريزونا، عام 1930.
طارت رفات الرجل الذي اكتشف الكوكب التاسع في نظامنا الشمسي –كما كنا نظن- مليارات الأميال تكريمًا له، ومرّت بجانب بلوتو عام 2015. تحلق المركبة حاليًا عبر حزام كايبر، وستنضم في النهاية إلى مركبتي فوييجر1 و2، ومسباري بايونير 10 و11 في الفضاء بين النجوم. هذا يعني أن تومبو يتميز بكونه جزءًا من أطول رحلة فضائية بعد الوفاة في التاريخ، لكنه ليس وحيدًا إذ يجد مثواه الأخير بين النجوم.
أُرسلت رفات العديد من الممثلين وأفراد طاقم ستار تريك الراحلين إلى الفضاء. نُقل جزء من رماد جين رودنبيري على متن مكوك الفضاء كولومبيا بناءً على طلب زوجته ماجيل باريت عام 1992. حمل رائد فضاء ناسا، جيمس ويذربي، الرماد ضمن متعلقاته الشخصية.
نُقل جزء آخر من رماد رودنبيري إلى الفضاء على متن الرحلة الافتتاحية لشركة سيليستيس الفضائية التجارية الناشئة عام 1997. تألّفت المهمة المُسمّاة رحلة مؤسسي سيليستيس (سيليستيس 01)، من صاروخ بيغاسوس أُطلق جوًا، وحمل رفات رودنبيري، وعالم النفس والمؤلف الشهير تيموثي ليري، والفيزيائي والناشط الفضائي جيرارد ك. أونيل، وعالم الصواريخ والمدافع عن استيطان الفضاء كرافت إهريكه، و20 آخرين.
هناك أيضًا جيمس دوهان، الذي لعب دور سكوتي في المسلسل بصفته كبير مهندسي سفينة الفضاء الأمريكية إنتربرايز. ورد أن رفاته هُرّبت إلى محطة الفضاء الدولية بواسطة رائد الفضاء ريتشارد غاريوت عام 2008.
كلّف ماجيل باريت سيليستيس بإطلاق رمادها والجزء الأخير من رماد جين في مهمة إلى أعماق الفضاء عام 2009. ستحمل رحلة إنتربرايز رماد زميلتها الممثلة نيشيل نيكولز، التي أدت دور أوهورا في المسلسل، ومخرج الأفلام ومشرف المؤثرات البصرية دوغلاس ترومبل، إضافةً إلى عبارات إشادة رقمية من المعجبين.
نُقلت أيضًا إلى الفضاء بقايا مهندس الصواريخ السابق في ناسا برنارد كوتر عام 2022. بصفته كبير العلماء ورئيس البرامج المتقدمة في تحالف الإطلاق التجاري، لعب كوتر دورًا رئيسيًا في تطوير الدرع الحراري القابل للنفخ التابع لناسا. أُدرجت رفاته حمولةً في أول رحلة تجريبية للدرع الحراري وعودته إلى الغلاف الجوي تكريمًا لإنجازاته. أُطلقت رحلة برنارد كوتر التجريبية تكريمًا له في مدار أرضي في 11 نوفمبر 2022، على متن صاروخ أطلس 5 خلف مخروط الأنف للمركبة العائدة.
أرسلت البشرية العديد من الحمولات المهمة إلى الفضاء منذ إطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك 1) عام 1957. بينما كانت معظمها أقمارًا صناعية أو حمولات علمية، إلى جانب بعثات مأهولة تُجري مهام استكشاف حيوية، خُصص بعضها فقط لمشاركة الثقافة الإنسانية أو الحفاظ عليها.
قد يعثر المستكشفون البشريون يوما ما على هذه الحمولات في أثناء مغامراتهم أبعد فأبعد خارج الأرض، وإلا فقد تُصبح هذه الحمولات أول أمثلة على التبادل الثقافي بين البشرية وحضارة متقدمة. كلا الاحتمالين مثير للغاية، ويُبرز أهمية إرسال القطع الأثرية الثقافية إلى الفضاء.
اقرأ أيضًا:
كيف يحسب العلماء احتمالية اصطدام كويكب بالأرض؟
رواد الفضاء يتعرضون لمشكلات في الإبصار بعد قضاء مدة خارج الأرض!
ترجمة: محمد الشرقاوي
تدقيق: أكرم محيي الدين