تعدّ السياسات المالية والنقدية موضوع جدل لأن لكل رأيه فيها وقليل من الناس يُجمِعون على رأي واحد، وتخفيض الديون وتحفيز النمو أهداف اقتصادية طموحة لحكومات الكثير من الدول المتقدمة، وتحقيقها ينطوي على أساليب تبدو متعارضة ومتناقضة في بعض الأحيان. ما هي أنجح الأساليب التي اتبعتها الحكومات عبر التاريخ لخفض الدين العام ؟ إذ تعدّ الحوالات المالية غير كافية لسداد تلك الديون، أكمل القراءة فالإجابات قد تفاجئك.

إصدار الديون بالسندات

كثيرًا ما تصدر الحكومات السندات لاقتراض الأموال، ما يمكنها من تجنب ارتفاع الضرائب، وتوفير النقد اللازم للنفقات، وتحفيز النشاط الاقتصادي بتعزيز الإنفاق العام، ما قد يعود على الحكومة بعائدات ضريبية إضافية مفروضة على الأعمال التجارية المزدهرة والخاضعين للضرائب.

يبدو إصدار الديون نهجًا منطقيًا، مع الأخذ بالحسبان ضرورة سداد الحكومة قيمة الفوائد لدائنيها، وفي مرحلة ما، لا بد من سداد كامل الأموال المقترضة.

تاريخيًا، لطالما أسهم إصدار الديون في دفع النشاط الاقتصادي العام، لكن تعزيز النشاط الاقتصادي وحده ليس ذا جدوى ملموسة في خفض الدين العام طويل الأجل مباشرةً.

وخلال الفترات التي يتأزم فيها الاقتصاد تزامنًا مع ارتفاع مستويات البطالة، قد تسعى الحكومات إلى تحفيز النشاط الاقتصادي بشراء نفس السندات التي أصدرتها، ويفضل العديد من الخبراء الماليين اتباع تكتيك التيسير الكمي في الأمد القريب. ولكن على المدى الأطول، لم تثبت نجاعة نهج شراء سندات الدين مقارنة بالاقتراض تحت مسمى إصدار السندات.

التلاعب بأسعار الفائدة

يعد الحفاظ على أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة وسيلة أخرى تمكن الحكومات من دفع عجلة النشاط الاقتصادي، وتحقيق إيرادات ضريبية، وخفض الدين العام في نهاية المطاف. وييسر انخفاض أسعار الفائدة اقتراض الأموال على الأفراد والشركات، فينفق المقترضون بدورهم هذه الأموال على السلع والخدمات، ما يخلق فرص العمل ويوفر عائدات ضريبية.

خلال أزمات الضغوط الاقتصادية، تتبع الولايات المتحدة الأمريكية سياسة أسعار الفائدة المنخفضة، وكذلك الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ودول أخرى، وتلقى هذه السياسة بعضًا من النجاح، ولكن مع ذلك، لا يبدو أن الحفاظ على أسعار الفائدة مساويةً للصفر أو قريبة منه فترات طويلة حلٌ ناجع للحكومات المديونة.

إيجاد سبل لتقليل النفقات

واجهت كندا عجزًا في الميزانية في التسعينيات، فسعت الحكومية الكندية آنذاك إلى تخفيض مستويات الإنفاق من خلال فرض تخفيضات في الميزانية (بنسبة وصلت إلى 20% أو أكثر خلال أربع سنوات)، ما أسهم في خفض عجز الميزانية إلى الصفر في غضون ثلاث سنوات، وخفضت ديونها العامة بمقدار الثلث في غضون خمس سنوات. وحققت كندا كل ذلك دون رفع نسبة الضرائب المفروضة.

ومن الناحية النظرية، يمكن لبلدان أخرى أن تطبق النهج ذاته. لكن في الواقع غالبًا ما ترفض الجهات المستفيدة من الإنفاقات التي يغذيها دافعوا الضرائب التخفيضات المقترحة، إذ يميل الناخبون إلى التصويت لخلع الساسة عندما تبدو السياسات تعسفية، ما يثني السياسيين عن تبني إرادة سياسية حاسمة بإجراء التخفيضات اللازمة.

زيادة الضرائب

غالبًا ما تزيد الحكومات الضرائب لدفع النفقات. هذه الضرائب قد تشمل الضرائب الفيدرالية والمحلية، وفي بعض الحالات ضريبة الدخل المحلي وضريبة الأعمال التجارية. وتشمل الأمثلة الأخرى ضريبة الحد الأدنى البديلة، وضريبة الخطيئة (على المشروبات الكحولية والسلع التبغية)، وضريبة أرباح الشركات، والضريبة العقارية وقانون المشاركة في التأمين الفدرالي، وضرائب الملكية.

ومع إن زيادة الضرائب ممارسة شائعة، فإن كثير من الدول تواجه ديونًا كبيرة ومتفاقمة، ومن المرجح أن ارتفاع مستويات الديون يعزى إلى حد كبير إلى الفشل في تطبيق إجراءات تقليل النفقات، فمع زيادة التدفقات النقدية واستمرار ارتفاع النفقات لن تُظهر زيادة العائدات تأثيراتٍ كبيرة في الدين العام.

الحد من تَبِعات الدين

اقتربت السويد من الدمار المالي في 1994، لكنها وازنت الميزانية بحلول أواخر التسعينيات نتيجة التوفيق بين تطبيق إجراءات تقليل النفقات وزيادة الضرائب. وسددت الولايات المتحدة ديونها في الأعوام 1947- 1948-1951) في ظل إدارة هاري ترومان، وتمكن الرئيس دوايت أيزنهاور من تخفيض الدين العام في عامي 1956-1957، إذ أدى تقليل النفقات والزيادات الضريبية دورًا هامّا في تحقيق الثمار المرجوة.

كفالة إنقاذ الدين العام

يشهد التاريخ في أكثر من مناسبة تطبيق استراتيجية تحفيز الدول الغنية للعفو عن الدين العام أو إعطاء النقود، لكنها استراتيجية لا تخلو من العيوب. ففي أواخر الثمانينيات مثلًا، انخفض عبء ديون غانا كثيرًا بسبب الإعفاء من الديون، لكنها غرقت في الديون مجددًا عام 2011. ولم تكن اليونان التي مُنحت مليارات الدولارات من أموال كفالة الإنقاذ بين عامي 2010-2011 أفضل حالًا بعد الجولات الأولى من عمليات الضخ النقدي.

يعدّ التخلف عن سداد الدين العام -الذي قد يشمل الإفلاس أو إعادة هيكلة المدفوعات للدائنين- استراتيجية شائعة وناجحة في كثير من الأحيان لتقليل الديون. وهي استراتيجية طوعتها دول مثل كوريا الشمالية وروسيا والأرجنتين. والعيب هنا هو أن الاقتراض في المستقبل بعد التخلف عن السداد يصبح أصعب وأكثر تكلفة.

جدل قائم مهما اختلفت الطرق

نذكر مقولة مارك توين الشهيرة: «توجد ثلاثة أنواع من الأكاذيب: الأكاذيب، والأكاذيب الملعونة، والإحصائيات». وأثبتت هذه المقولة صحتها اليوم أكثر من أي وقت مضى في سياق الدين العام والسياسة المالية.

باتت موضوعات تقليل الديون والسياسات الحكومية مثار جدل سياسي واسع، إذ تتناول الأطراف المتناقضة قضايا تتعلق محوريًا بالميزانية وتقليل الديون، متذرعين بالأخطاء التي قد تحدث في البيانات، أو طرق الإحصاء غير الدقيقة. فمثلًا، يدّعي بعض المؤلفين أن ديون الولايات المتحدة لم تنخفض قط منذ عام 1961، بينما يجادل آخرون بانخفاض الدين الأميركي مرات عدة منذ ذلك العام. ويجد كلا الطرفين حججًا وبيانات متضاربة تبرر دواعي الطرفين كل على حدة.

يُذكر أن المستويات الأعلى التي سجلها الدين العام الأميركي كانت عام 2020 بقيمة 28.1 تريليون دولار أميركي.

تتعدد الأساليب التي تبنتها البلدان عبر الزمان وتتفاوت درجات نجاحها، وما من حلّ نموذجي لتقليل الديون يناسب جميع الدول على حد سواء. وأثبتت إجراءات تقليل النفقات وارتفاع الضرائب نجاحها، بينما يعدّ العجز عن سداد الديون وسيلة ناجحة لبضعة دول.

وعمومًا، قد تكون الاستراتيجية الأفضل هي التي تبناها بنجامين فرانكلين من اقتباس بولونيوس من مسرحية هاملت لشكسبير، إذ قال: «لا تكن مقترضًا ولا مقرضًا».

اقرأ أيضًا:

أزمة الديون الأوروبية

العجز المالي وآثاره في الاقتصاد

ترجمة: بشرى عيسى

تدقيق: محمد حسان عجك

المصدر