لا تتلاشى النجوم فجأةً، أليس كذلك؟ على مدى آلاف السنين، تقبل علماء الفلك فكرة أن الأضواء في السماء ثابتة لا يشوبها تغيير حتى عندما اتضح أن تلك الأضواء ما هي إلا أجسام مادية مثلها مثل الشمس، وكانت إحدى الافتراضات الرئيسية لعلماء الفيزياء الفلكية أن هذه الأضواء تمر بتغيرات جذرية شديدة البطء، على نطاق زمني يقدر بملايين ومليارات السنين.

حين تمر النجوم الضخمة -الأثقل من الشمس بعدة مرات- بتغيرات مفاجئة وكارثية ريثما تصل إلى نهاية حياتها، فإن موتها موسوم بالإشارات الكونية الضوئية التي لا تُفوّت لانفجار المستعر الأعظم؛ والذي يضيء لشهور عدة ويُرى من على بعد مئات ملايين السنين الضوئية.

لكن، ماذا إن اختفت بعض النجوم فجأة؟

وفقًا لما نعرفه، يجب أن يكون هذا الأمر مستحيلًا. لكن خلال الأعوام القليلة الماضية عزم مجموعة من علماء الفلك على التحقق من صحة هذا الافتراض بمقارنة البيانات المرصودة على مدى عدة عقود.

تقول بيتريز فيلارويل الباحثة في معهد نورديك للفيزياء النظرية: «يصب مشروع مراقبة ظهور واختفاء النجوم خلال قرنٍ من الزمن أو ما يُطلق عليه مشروع فاسكو VASCO اهتمامه على كل أنواع الأجرام التي تختفي. ولكن من الناحية المثالية، أود لو أننا نجد نجمة مستقرة وموجودة في نفس المكان في السماء لفترة طويلة كأقصى ما نستطيع أن نتذكر وما نمتلك عنها من بيانات، ومن ثم يأتي اليوم الذي تتلاشى فيه دون أي أثر. لدرجة أنك لو حاولت توجيه أكبر التلسكوبات في العالم إليها فلن تسطيع أن تجد شيئًا».

منذ أن عكفت فيلارويل وزملاؤها على هذا المشروع منذ عام 2017، اجتذب المشروع اهتمام العلماء الذين يرون الإمكانية في البحث في السجلات التاريخية، وتشير فيلارويل قائلةً: «ثمة علماء فلك من كل الأقطاب ومختلف المجالات يشغلهم الاهتمام بهذا المشروع: مختصون في النوى المجرية النشطة (مصدر الطاقة لأشد الأجرام السماوية سطوعًا -التي يطلق عيها النجوم الزائفة- في الكون البعيد) وعلماء فيزياء النجوم والعلماء المعنيين بالبحث عن ذكاء خارج الأرض (SETI)، وكل طرف له أسبابه الخاصة للانخراط في المشروع».

Credit: Tobias Roetsch

Credit: Tobias Roetsch

طبقًا لفهمنا الحالي فإن التغير في حالة النجوم يتم بوتيرة بطيئة للغاية، وإن الاختفاءات الدراماتيكية لا بد لها أن تخلف آثارًا وراءها، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن كل النجوم تتمتع بسطوع ودرجة إضاءة ثابتة. ففي الحقيقة السماء مليئة بمختلف أنواع النجوم المتغيرة؛ النابضة والمتغيرة في شدة سطوعها.

تشدد فيلارويل على أن مشروع فاسكو يتمحور حول شيء مختلف، فتقول: «نحن على علم بأن ثمة نجوم متغيرة، لكن نطاق تلاشيها الزمني يستغرق بضعة سنوات على أكثر تقدير. ما نأمل أن نجده هو تغير جذري يصيب نجمًا ثابتًا تمامًا ليجعله يتلاشى بالكامل -وهو ما لم يُوثَق حتى الآن- وهذا النوع من الاكتشافات قد يفضي إلى فيزياء جديدة».

فهرسة السماء

شهدت الأعوام القليلة السابقة تطور التلسكوبات الآلية الذي مكنها من فهرسة السماء برمتها بمعدل لم يحلم به علماء الفلك في الأجيال السابقة، على سبيل المثال، فإن منشأة زويكي للعوابر (ZTF) يحوي كاميرا -مصنعة وفقًا لأحدث ما توصل إليه العلم في تكنولوجيا الكاميرات- متصلة بتلسكوب سامويل أوشين في مرصد بالومار في كاليفورنيا.

يمكّنها مجال رؤيتها الشاسع من مسح سماء بالومار -وهي حشد نجمي في كوكبة الجدي- برمتها في غضون ثلاث ليال، تمسح خلالها مستوى مجرة درب التبانة مرتين. يزيد هذا احتمالية تقصي حدوث الانفجارات المفاجئة المعروفة بالعوابر، وهي ومضات من الضوء التي يمكن أن تتسبب بها التوهجات من النجوم البعيدة. ويمكن أن ترتبط بأحد الأحداث الغامضة في الكون وأكثرها عنفًا وندرة، كانفجار أشعة غاما.

ثمة اختلاف شاسع بين البحث عن النجوم الظاهرة والأخرى المختفية كما توضح فيلارويل: «تركز بعض المشاريع -مثل منشأة زويكي- عملها على نطاقات زمنية قصيرة جدًا، لكن إذا وقع حدث نادر كتلاشي شيء ما من السماء كل 100 عام؛ فهذا يتطلب نطاقًا زمنيًا أطول بكثير حتى نستطيع أن نلتقط هذا الحدث.

نريد في حالتنا أن نجد نجمًا اختفى -أو حتى ظهر- مستغلين أكبر فترة زمنية ممكنة مصحوبة بأفضل الفهارس من الأزمنة الماضية».

إننا نستخدم البيانات التي تعود إلى 70 عامًا مضى ونقارنها مع البيانات الحديثة في وقتنا الحالي لنتبين مدى التغير الذي أصاب السماء، ومن سخرية القدر أن سعي الفريق للحصول على بيانات تاريخية ذات جودة عالية أعاد الباحثين إلى بالومار وتلسكوب سامويل أوشين الذي أصدر في خمسينيات القرن المنصرم لوحات فوتوغرافية تغطي السماء كلها التي مسحتها ضوئيًا منظومة مراصد البحرية الأمريكية (USNO)، وللمقارنة اعتمدوا على البيانات المستخلصة من منظومتي التلسكوبين التوأم (نظام الاستجابة السريعة و تلسكوب المسح البانورامي) في مرصد بان ستار (Pan-STARRS) الذي يقع في هاليكالا في هاواي.

تقول فيلارويل: «كل هذه الدراسات متاحة مجانًا وتمت رقمنتها وأصبحت متوافرة على الإنترنت، وقد طور فريق تقنية المعلومات في جامعة أوبسالا صفحة ويب مختصة بما يعرف بعِلْم المواطن Citizen Science حيث يمكنك النقر عليها وتجميع الصور في ml-blink.org بينما اضطلع مطورو ألعاب الحاسوب بمهمة جعل التصميم أكثر جاذبية وأيضًا الذكاء الاصطناعي قيد التطوير.ثمة حلول عدة عند مقاربة المشكلة، وأي مصدر للبيانات مرحب به، يستطيع المهتمون مقارنة الصور في موقع الويب، وإن راودهم الفضول عن أية نجمة تبدو مختفية بإمكانهم ترك تعليق وسنقوم بالرد عليهم وإعلامهم فيما إذا كانت النجمة مرشحة نموذجية أم لا، ومع هذا أمامنا الكثير من العمل مما يعسر متابعتنا لكل شيء».

يجب على الفريق فحص جميع العناصر في فهارس منظومة مراصد البحرية الأمريكية (USNO) والتي قد تميزت بكونها من دون نظير واضح في بيانات Pan-STARRS ليفحصه الفريق ويؤكده. ليتحقق الباحثون من الشكل والسطوع والخصائص الأخرى ويحددوا ما إذا كان فقدان النظير هذا عيبًا في اللوحات الفوتوغرافية للمسح الأصلي أم لا.

تعلل فيلارويل قائلة: «لا يمكننا الجزم أبدًا ما إذا كان عيبًا في اللوح الفوتوغرافي أم لا، لكن ما يمكن فعله حيال ذلك هو إجراء فحوصات بغية استبعاد الأسباب البديهية. بعد ذلك، يمكن مطالعة فهارس أكثر توغلًا في الفضاء مثل مسح سلون الرقمي للسماء(SDSS) أو مسح كاميرا الطاقة المظلمة ليغاسي (DECaLS) للبحث عن أية آثار للجرم؛ وبناءً على ذلك يتم تحديد النجوم المرشحة».

يقارن الفريق أيضًا ما سبق ببيانات تلسكوب وكالة الفضاء الأوروبية غايا المنشغلة بجمع بيانات على الدقة لما يربو على مليار نجم في درب التبانة.

مرشحون واعدون

توصلت الدراسة حتى الآن إلى ما يزيد على 800 نجم مفقود، والتي يحتاج الكثير منهم إلى أن يُدرس ويُعالج على نحو معمق، بينما لم تفضِ الدراسة إلى مواءمة أي نجم مفقود مواءمة تامة مع الجرم النموذجي من وجهة نظر فيلارويل، وهي اختفاء نجم مستقر وطويل العمر، يعد مع هذا العديد من المرشحين المكتشفين مثيرين للاهتمام على نحوٍ خاص.

«اكتشفنا بعض النجوم العابرة قصيرة العمر، التي تظهر على لوح واحد فقط لا غير. وتمثل تلك العوابر قصيرة العمر أغلب المرشحين المكتشفين، لكن توجد اكتشافات أخرى لا نعلم ماهيتها بعد. فقد درسنا بعض العوابر قصيرة العمر وتبين من البحث أن بعضها ليست أقزامًا حمراء متوهجة ذات تصنيف طيفي من النوع M -تحدث الانفجارات الضخمة جراء مجال مغناطيسي متشابك لقزم أحمر خافت الذي يمكن أن يزداد سطوعه بمقدار 100 قدر ظاهري أو أكثر- أو أي نوع من المستعرات العظمى، ومنه يمكننا استبعاد تلك الخيارات».

تضم بعض الخيارات غير المرجحة النجوم المتغيرة والنجوم المتغيرة الكارثية والمستعرات والانفجارات التي تصيب سطح قزمٍ أبيضٍ في نظامٍ ثنائي. حتى إن لم يوجد في مصادر المشروع أي نظير لنجم متغير معروف، أما فيما يتعلق بالنجم النظير لمستعر أعظم فيجب أن يُرى حتى ولو كان خافتًا في أي مسح حديث، حتى لو لم يكن القزم الأبيض كذلك.

تستطرد فيلارويل: «يعد أحد الاحتمالات أن تلك الظاهرة هي توهج ضوئي لاحق لانفجارات أشعة غاما أو تدفق راديوي سريع».

ما تزال مصادر الانفجارات الكونية عالية الطاقة غير مفهومة بشكل تام، إلا أن أكثر التكهنات شيوعًا تفترض أن تضاؤل إنتاجها من الطاقة يجعلها تمر بفترة مرئية وجيزة.

توضح فيلارويل: « يُتوقع من هذه الانفجارات أن تكون لها سعات هائلة للغاية تبلغ قرابة 8 إلى 10 قدر ظاهري بيد أنها تتلاشى في غضون بضع دقائق. ويبدو أن ليس لها أي مثيل مرئي عند مسح المواقع بالتلسكوبات الكبيرة، بالطبع، يضع وجود 800 مرشح الكثير من العمل على كاهلنا، وأظن على الأرجح أنه خليط من مختلف الأجرام السماوية».

إذا اتضح أن المرشحين الـ 800 كافة هم نجوم متلاشية على نحو نموذجي، فما السبب المحتمل وراء ذلك؟

يمكن أن يكون أحد أبرز التفسيرات ما يُعرف بفشل المستعر الأعظم وهو نجم ضخم مهول وله لب غاية في الضخامة، فينهار مكونًا ثقبًا أسود يمتص ما تبقى من النجم، ما يقطع التدفق النووي الذي عادة ما يصحب انفجار المستعر الأعظم؛ فلا يترك فشل المستعر الأعظم أي مخلفات مرئية.

تتعدد الحجج، كما تظن فيلارويل، ضد هذا التفسير؛ فيجب على أحداث كهذه أن تحدث مرة كل 3 قرون في مجرتنا وفقًا للحسابات الرياضية؛ مما يقلل احتمالية أن يرصدها مشروع فاسكو بالصدفة.

لا يمكن الآن تحديد طريقة طبيعية يعزى إليها اختفاء نجم بهذه البساطة، وحتى يظهر مرشح بخواص يمكن أن ندرسها فلا جدوى في التأمل في فيزياء جديدة محتملة لها صلة بعملية التلاشي الكونية. يرجح هذا احتمالية واحدة ألهمت فاسكو منذ بداية المشروع: أن كل حدث مستحيل فلكيًا يكشف إمكانية وجود حضارات متطورة لكائنات فضائية.

اكتشافات مستقبلية تلوح في الأفق

أدت الزيادة في حجم التلسكوب وحساسيته وتطور قوة الحوسبة إلى وصول علم الفلك إلى عصر البيانات الضخمة big data يجادل العلماء المعنيون بالبحث عن الذكاء خارج الأرض (SETI) أن احتمال كشفنا لوجود كائنات فضائية عبر السلوك غير المفسر للنجوم وغيرها من الأجرام أكبر من احتمال التقاطنا لموجات راديو موجهة إلينا من شكل حياة فضائي سواء بقصد أو عن غير قصد.

يطرح العلماء النظرية التالية: إذا تقدمت الحضارات الفضائية بما فيه الكفاية، فمن المحتمل أن يطور بعضها على أقل تقدير التكنولوجيا الضرورية للهندسة النجمية التي من شأنها أن تغير مظهر النجوم بصورة غير قابلة للتفسير لنا. وغلاف دايسون هو أحد الأمثلة على هذه الافتراضات، وهو غلاف ضوئي من محطات توليد الطاقة التي تدور في مدارات حول نجم ما، وتلك هي أكثر الطرق جدوى لاستخلاص الطاقة من أي نجم.

بيّن كاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك في قانونه الثالث: «أي تكنولوجيا متطورة كفاية لا يمكن تفريقها عن السحر»، فإذا لم يوجد سبب طبيعي لاختفاء النجمي حينها سيعد تأثير ذكاء الكائنات الفضائية سببًا أكثر احتمالًا مما هو خارق للطبيعة.

تقول فيلارويل: «ثمة العديد من طرق التفكير في صدد البحث عن ذكاء خارج الأرض؛ كغلاف دايسون وما إلى خلافه من هياكل إشارات ضوئية تظهر وتختفي، أو تشير ناحيتنا لوقت معين، أو يمكن حتى وجود أشكال من الحضارات التي تتخلص من النجوم المعترضة طريقها.»

يمكن أن يكون السبب الكامن. وراء العوابر الحمراء التي تعرف الفريق عليها مفتعلًا، «بالتأكيد نمر أولًا على الافتراضات الطبيعية، وليس لدينا أي ذريعة لاستبعاد الأسباب الطبيعية بعد، لكن إذا فكرت في افتراضية وجود حياة خارج كوكب الأرض، أظن أن حتى شعاع الليزر يمكنه إنتاج عابر أحمر من هذا النوع».

بينما تشير فيلارويل إلى اكتشافات مثيرة اتضحت من البيانات ويُرتقب إصدارها الرسمي، ما يزال عمل مشروع فاسكو مستمرًا وقائمًا على قدمٍ وساق.

تترتقب الكثير من النجوم المرشحة المتعرف عليها التصديق والتحليل المناسبين؛ فلم يرصد المشروع سوى ربع السماء حتى الآن، سيُحقق المزيد من التقدم في المشروع بصورة متسارعة حينما يشترك المزيد من المتطوعين في موقع علم المواطن الإلكتروني وفي الوقت ذاته تُطور مناهج جديدة في الأتمتة بالتعاون مع المرصد الافتراضي الإسباني.

تتأمل فيلارويل قائلة: «لا نعلم طريقةً يمكن فيها للنجم أن يتلاشى في طرفة عين ماعدا افتراض فشل المستعر الأعظم، وذلك ما يجعل النجوم المتلاشية مثيرة للاهتمام؛ ويعزى ذلك إلى أنه لم يسبق لنا أن لاحظنا مثل هذه الأحداث في الطبيعة، فالقاعدة هنا هي البحث عما نجده مستحيلًا».

اقرأ أيضًا:

النجوم – كيف تشكلت وكيف ستموت

لغز اختفاء نجم عملاق يحير علماء الفلك

ترجمة: مي مالك

تدقيق: أسعد الأسعد

المصدر