يُعرَّف علم الأحياء التركيبي بأنه علم بحثي يهدف أساسًا إلى خلق أنظمة حيوية عملية ابتداءً من أصغر الأجزاء المكونة للحياة الممكنة مثل الدنا والبروتينات والجزيئات العضوية الأخرى. يشمل علم البيولوجيا التركيبية العديد من التقنيات والمنهجيات المختلفة إذ استُخدِمَت الأنظمة الحيوية المركبة لتوليد منتجات تتراوح من الإيتانول والأدوية إلى كائنات حية صناعية بالكامل مثل جراثيم معقدة قادرة على هضم وتحييد المواد الكيميائية السامة. تتصف هذه الأنظمة والكائنات الحيوية الصنعية المعدلة حسب الطلب نظريًا بأنها أكثر أمانًا وأقل تعقيدًا من التلاعب بالكيانات الحيويّة المحدثة طبيعيًا. ستعمل الأنظمة والكائنات الحيوية الصنعية كأنها حواسيب أو مصانع حيوية.

البيولوجيا التركيبية وتطبيقاتهاتاريخ البيولوجيا التركيبية

يُعتَبر الكيميائي الألماني فريدرك فولر أول عالم أجرى أبحاثًا ناجحةً في مجال البيولوجيا التركيبية عام 1828 إذ طبّق كلوريد الأمونيوم على إيزوسيانات الفضّة لإنتاج اليوريا وهو المركب الرئيسي الحامل للنتروجين الموجود في بول الثدييات وبالخلاصة انتهت تجربته بتصنيع مادة عضوية من مواد غير عضوية، صنع العلماء منذ تلك الفترة وباستمرار هذه المادة العضوية عبر عمليات كيميائية تقليدية مختلفة.

بدأ العلماء سبعينيات القرن الماضي إجراء التجارب مستخدمين الهندسة الجينية وتقانة الدنا المأشوب أومعاد التركيب لتعديل الشيفرة الجينية لجراثيم النوع البري (المُحدَثة طبيعيًا) عن طريق إدخال جينات فردية من النوع البري التي قد تغير وظيفة الجراثيم. أدت هذه التقنية إلى إنتاج الجراثيم المحتوية على دنا مأشوب للعديد من الأدوية الحيوية والعوامل المصنوعة من البروتينات والمركبات العضوية الأخرى ويمثل الإنسولين الصنعي أحد هذه المركبات، أدى ارتفاع تكلفة هذه المركبات واعتماد الهندسة الجينية على جراثيم وجينات متواجدة سابقًا إلى وجود قيود تقنية.

اكتشف العلماء توازيًا مع التطورات في الهندسة الجينية سبعينيات القرن الماضي، طرقًا جديدةً لصناعة جينات حسب الطلب بدءًا من الصفر أي إضافة نكليوتيد واحد (وحدة واحدة من الدنا) في كل مرة. ازدادت فعالية تقانات اصطناع الدنا من نواحي الوقت والتكلفة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الواحد والعشرين ما أدى إلى تقدم كبير وتجارب طموحة أكثر. أدى اصطناع قطع جديدة من الدنا إلى ازدياد قدرة العلماء على خلق مركبات عضوية فعالة من الصفر وأكثر تعقيدًا من المركبات العضوية المُحدثة طبيعيًّا وملائمة أكثر لغاياتها المُحددة.

التطورات في علم البيولوجيا التركيبية

زراعة الجينوم

نقل علماء من معهد JCVI، الولايات المتحدة عام 2007 علم البيولوجيا التركيبية إلى مستوى جديد إذ نجحوا في زراعة كامل جينوم جرثومة المفطورة الفطرانية في سيتوبلازم جرثومة المفطورة كابريكوليوم وهي أول عملية ناجحة لزراعة جينوم كامل إذ أصبحت الجرثومة الجديدة خالية تمامًا من جيناتها الأصلية وأصبح نمطها الظاهري يكافئ النمط الظاهري لجرثومة المفطورة الفطرانية.

الجينوم الصُنعي

نجح كل من الباحثين جيبسون وسميث من معهد JCVI عام 2008 بتجميع نسخة معدلة من جرثومة المفطورة التناسلية من الصفر بصورة مخالفة للتعديلات بتقانات الدنا المأشوب على الجينات تتابعًا جينة بعد أخرى إذ ربط العلماء عددًا كبيرًا من الجينات مع بعضها لخلق جينوم جديد. اختلف الجينوم الصنعي قليلًا عن الجينوم الطبيعي وحولت هذه الاختلافات الطفيفة الكائن الجديد إلى كائن غير معدي وأدّت إلى توصيفه بأنه كائن حي صُنعي.

أطلق العلماء على هذه النسخة الجديدة اسم المتفطرة التناسلية JCVI-1.0 التي تحتوي على 582970 زوج من الأسس وهو أطول بعشر أضعاف عن أي جينوم للمفطورة التناسلية المجمع سابقًا. استخدم العلماء لبناء هذه النسخة 101 كاسيت متداخلين مع بعضهم يتكون كل منها من 5000 إلى 7000 نكليوتيد. اختار العلماء للتجربة المفطورة التناسلية دون غيرها لأنها الجرثومة الطبيعية الأبسط من ناحية تنميتها في الزجاج (في ظروف المخبر) إضافة إلى احتواء جينومها على 482 جينة فقط (إضافةً إلى 43 جينة مرمزة للرنا).

أعلن باحثون من معهد JCVI عام 2010 عن تركيبهم لجينوم صنعي مكون من 1.08 مليون زوج من الأسس وإدخاله في سيتوبلازم الجراثيم ما أدى إلى تركيب أول كائن وظيفي حي يحتوي على جينوم صنعي وأطلق الباحثون على الخلية الاصطناعية الجديدة اسم المفطورة الفطرانية JCVI-syn1.0، يطابق جينومها تقريبًا جينوم المفطورة الفطرانية المُحدثة طبيعيًّا باستثناء احتواءه على علامات مائية جينية معينة للإشارة إلى تركيبه الصنعي.

مفهوم الخلية الصُغرى

فرض باحثون من معهد JCVI إمكانية إزالة 100 جينة إضافية من جينوم المفطورة الفطرانية JCVI-1.0 دونَ التضحية بوظيفتها إذ اعتقدوا أن حجم الجينوم الأصغر الضروري للحياة هو 381 جينة، خطط العلماء لإنشاء هذا الجينوم المختصر ثم إدخاله إلى الخلية الجرثومية لخلق شكل حياة صنعي وخططوا لتسميته المفطورة المخبرية التي من المفترض استخدامها مستقبلًا لتحقيق العديد من الغايات متضمنةً أشكالًا جديدة للوقود أو منظفات بيئية أو إزالة التلوث من التربة أو الهواء أو الماء.

خلق فريق بحثي من معهد JCVI عام 2016 الخلية الوظيفية الأصغر في ذلك الوقت وأطلقوا عليها تسمية المفطورة الفطرانية JCVI-syn3.0 واحتوى جينومها على 531560 زوج من الأسس و473 جينة إذ شكلت هذه النسخة تصغيرًا جينوميًا عن JCVI-syn1.0 وصُنِعت اعتمادًا على الدمج بين كل من تقنيات تصميم الجينوم الكامل (تحديد الدنا وتنظيمه لتوليد جينوم وظيفي) وتقنيات الاصطناع الكيميائي. زُرِع الجينوم الصنعي في سيتوبلازما لاختبار حيويته ثم تضاعفت جراثيم JCVI-syn3.0 بنجاح وأنتجت مستعمرات تشبه شكليًا مستعمرات JCVI-syn1.0.

مفهوم بيوبريكس والأحماض النووية كزينو

أسّس المهندس الحيوي الأمريكي البارز في مجال البيولوجيا التركيبية درو إندي مؤسسة بيوبريكس غير الربحية وطور فهرسًا للمعلومات اللازمة لاصطناع الأجزاء الحيوية الأساسية أو ما يدعى بريكس من الدنا أو الجزيئات الأخرى، أصبح الباحثون والمهندسون الآخرون قادرين على استخدام هذه المعلومات لبناء أي منتج حيوي إذ ستؤدي العديد من قطع بريكس الوظيفة ذاتها في البُنى العضوية الأكبر. أمِلَ إندي أن تُقدم تقنية بيوبريكس للهندسة الحيوية ما قدمته المقاومات والترانزستورات للهندسة الكهربائيّة، يستمر العديد من العلماء الآخرين في محاولة إنشاء دنا صنعي متضمنًا أزواج جديدة من الأسس إضافة إلى أزواج الأدينين والثايمين A-T والجوانين والسيتوزين G-C الموجودة طبيعيًا.

يلزمنا لإنشاء أنماط مختلفة من الدنا الصنعي اصطناع أحماض نووية تحمل أزواج الأسس الطبيعية لكن تحتوي على عمود فقري مصنوع من سكريات مختلفة عن الريبوز منقوص الأكسجين، تُعرف هذه الجزيئات بالأحماض النووية كزينو علمًا بأنها غير قادرة على التضاعف بواسطة أنزيم دنا بوليميراز (الأنزيم المُحفز لاصطناع الدنا) بل يتطلب تضاعفها أنزيمات مُهَندسة خاصة وأُعلن عن أول أنزيم نسخ بالكامل ودقيق للدنا إلى حمض نووي كزينو عام 2012.

تطبيقات البيولوجيا التركيبية

يعتقد العديد من العلماء أنّ البيولوجيا التركيبية لن تقتصر على اكتشاف معرفة جديدة عن آلية الحياة بل ستُقدم تطبيقات جديدة في مجال التقانة الحيوية.

يمثل كل من الوقود الحيوي والأدوية أهم تطبيقات البيولوجيا التخليقية إذ يعمل العلماء على سبيل المثال على اصطناع دواء أرتيميسينين المضاد للملاريا المنتج طبيعيًا في عرق نبات الشيح الحلو وهي أنواع نباتية بطيئة النمو، فصل العلماء بفضل تقانات البيولوجيا التخليقية تسلسلات الدنا للنبات ومسارات البروتين المُنتجة لمُركب أرتيميسينين ودمجوا هذه التسلسلات مع الجراثيم والخميرة ما أدى إلى ازدياد إنتاج مُركب أرتيميسينين الصنعي 10 مليون ضعف إنتاجه المحتمل في نهاية تسعينات القرن الماضي.

عمل باحثون آخرون على نهج مختلف عن نهج المصنع الخلوي المشابه لتقنية الدنا المأشوب إذ حاولوا تخليق جراثيم قادرة على تدمير الأورام. أجرت وكالة المشاريع البحثية المتقدمة العديد من التجارب لإنشاء حواسيب حيوية وحاول علماء آخرون في الجيش هندسة جينات وبروتينات بدءًا من الصفر والتي ستُستخدم علاجات أو لقاحات هدفية.

حاول علماء في العديد من شركات الوقود الحيوي تخليق أحياء دقيقة قادرة على تحطيم المواد الأولية الكثيفة لإنتاج الوقود الحيوي إذ يمكننا تنمية المواد الأولية ثم معالجتها ثم حرقها بطريقة ذات فعالية أكبر وأقل كلفة وأكثر استدامة بيئية مقارنة بالوقود الأحفوري المستخدم حاليًا للمركبات.

قاد الباحث الكيميائي الحيوي والجيني الأمريكي كريغ فينتر الجهود لتعديل جينات الأحياء الدقيقة لجعلها قادرة على إفراز النفط، وإذا توسع نطاقها التجاري بنجاح فستصبح هذه الكائنات الحية مصادر قيمة للطاقة المتجددة.

المخاوف الأخلاقية وتقييم المخاطر في البيولوجيا التركيبية

مثل جميع التقانات تقريبًا، لا تخلو البيولوجيا التخليقية من مخاطرها إذ يمكننا استخدامها للخير أو للشر عمدًا أو عرضيًا. يتمحور الجدل حول ما إذا كانت المخاطر المختلفة للبيولوجيا التركيبية تختلف عن مخاطر الأشكال الأخرى من الأبحاث الحيوية والهندسة الوراثية. تمتلك كل من الكائنات المُعدلة جينيًا والكائنات الصنعية القدرة على التضاعف والتطفر والتطور والانتشار في البيئة ما يجعلهم أكثر خطرًا من المواد الكيميائية الخطرة. تعلّم الباحثون منذ نشوء علم الهندسة الجينية في سبعينيات القرن الماضي أن الكائنات المصممة للاستخدام المخبري أقل قدرة على البقاء في البيئة الطبيعية مقارنةً بالكائنات المُحدَثة طبيعيًّا.

لا يزيد علم البيولوجيا التركيبية من مخاطر الأسلحة البيولوجية بسبب الكلفة الكبيرة لعمليات اصطناع الدنا ووجود تقانات الهندسة الجينية قليلة الكلفة منذ عدة عقود. يمكننا التعامل مع مخاطر حوادث تجارب البيولوجيا التخليقية بشكل مشابه لطريقة التعامل مع أي بحث محتمل الخطورة متضمنةً التعليم وأنظمة المحاسبة القانونية وحفظ السجلات والترخيص.

على الرغم من ذلك يوجد قلق مما يسمى الخصائص الناشئة الناتجة عن دخول جينات مصنوعة بدءًا من الصفر وغير متواجدة طبيعيًا في البيئة بصورة غير متوقعة ما يؤدي إلى تأثر هذه الجينات ببعضها وتشكل هذه المشكلة خطرًا خصوصًا على الكائنات المصممة للاستخدام خارج المخبر. يحتاج العلماء إلى تصميم كائنات حية أكثر ثباتًا عبر منع هذه الكائنات الحية من تطوير صفات جديدة أو فقدان إحدى صفاتهم. من السهل نسبيًا التنبؤ بأفعال الكائن الحي الصنعي في بيئته المقصودة لكن من الصعب جدا التنبؤ بآلية تطور الكائن الحي الصنعي بعد عدة أجيال من التعرض للضغوط البيئية والتفاعل مع الكائنات الحية الأخرى.

اقرأ أيضًا:

ما هو علم التخلق أو علم ما فوق الجينات؟

كيف تنتقل الصفات الوراثية غير المرمزة على الحمض النووي من النطاف إلى الأجنة؟

ترجمة: حسن دعبول

تدقيق: محمد الأسطى

مراجعة: مازن النفوري

المصدر