تمكّن عالم الأحياء الاصطناعية كريغ فنتر (Craig Venter) من خلق أوّل خلية اصطناعية تحتوي على أصغر جينوم وُجِد في أي عضوية مستقلة معروفة. تعمل الخلية مع 473 مورثة، وتعتبر هذه الخلية إنجازًا هامًا بعد سعي فريقه لمدة 20 عامًا لتخفيض شروط البقاء والحياة إلى حدودها الدنيا، وبالتالي بناء الحياة من نقطة الصفر.

فنتر، والذي شارك في تأسيس شركة تسعى إلى تسخير الخلايا الاصطناعية لصنع المنتجات الصناعية، يقول إن هذا الإنجاز يبشر بإيجاد خلايا مخصصة لتقديم الأدوية والوقود وغيرها من المنتجات.

على عكس الخلايا الاصطناعية الأولى التي تمّ تصنيعها في 2010، قام فريق فنتر حينها في معهد كريغ فنترفي كاليفورنيا بنسخ جينوم بكتيري موجود وزرعه في خلية أخرى. جينوم الخلايا الجديدة أو خلايا الحد الأدنى (the minimal cells) كما اصطلح على تسميتها لا تشبه أي شيء في الطبيعة، وهذه الخلايا تشكل أنواعًا اصطناعية جديدة تمامًا.

يقول عالم الأحياء الاصطناعية بول فريمونت (Paul Freemont): «فكرة بناء جينوم كامل هي من الأفكار الواعدة والأحلام في علم الأحياء الاصطناعية».

تصميم وبناء الجينوم من العدم يتطلب تقنية عالية، على نقيض تقنية التعديل الجيني (genome editing) التي تلاقي رواجًا كبيرًا وأداتها هي (CRISPR–Cas9)، وهي موضع صبغي يحتوي على عدة تكرارات مباشرة قصيرة تم العثور عليها في جينوم ما يقرب من 40% من متسلسلة البكتيريا، وظائف كريسبر (CRISPR) والجينات المرتبطة به (CAS) ضرورية في المناعة التكيفية في البكتيريا، وتمكين الكائنات الحية من الاستجابة والقضاء على غزو المادة الوراثية. تم اكتشاف هذا التكرار في البداية في 1980 في كولاي، ولكن لم يتأكد وظيفتها حتى عام 2007، حيث تبيّن أنّ بكتيريا الثرموفيلوس يمكن أن تكتسب مقاومة ضد الفيروسات المتطفلة على الجراثيم عن طريق دمج جزء من جينوم الفيروس في موضع كريسبر لها، وهذا مبدأ هذه التقنية.

في ورقة علمية عام 1995، درس فريق فنترالتسلسل الجينومي للمفطورة التناسلية (Mycoplasma genitalium)، وهي جرثومة تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي ولديها أصغر جينوم  معروف في عضوية حرة المعيشة. حدّد الفريق الجينات الـ 470 لهذه الجرثومة، وعن طريق تعطيل الجينات واحدًا تلو الآخر لمعرفة ما إذا كانت البكتيريا ما زالت تقوم بوظائفها؛ تمّ تقليص هذه القائمة إلى 375 من الجينات التي بدت ضرورية.

طريقة واحدة لاختبار هذه الفرضية، هو بناء الكائن الحي الذي يحتوي فقط تلك الجينات. عمل فنتر جنبًا إلى جنب مع زملائه المقربين كلايد هاتشيسون (Clyde Hutchison) وهاملتون سميث (Hamilton Smith) وفريقيهما لبناء الجينوم من الصفر، من خلال ربط أجزاء من الحمض النووي تمّ تصنيعها كيميائيًّا مع بعضها. ذلك العمل الكبير تطلب تطوير تكنولوجيات جديدة، ولكن بحلول عام 2008 استخدموا هذه التقنية لصنع ما كان في الأساس نسخة طبق الأصل من جينوم المفطورة التناسلية، والتي شملت عشرات من الأجزاء غير وظيفية من الحمض النووي.

ولكن النمو البطيء لخلايا المفطورة التناسلية الطبيعية دفعهم إلى التحول إلى المفطورة الفطرانية (Mycoplasma mycoides) الأكثر إنتاجًا. في هذه المرة، لم يقوموا ببناء الجينوم وحسب؛ لكن زرعوه أيضًا في بكتيريا أخرى كانت قد أفرغت من الجينوم الخاص بها.

 

كثيرين يقولون عن هذا الإنجاز أنّه فجر الحياة الاصطناعية، هذا الانجاز دفع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإطلاق مراجعة لأخلاقيات علم الأحياء، ودفع الفاتيكان إلى سؤال فنتر عن ادّعاءه بخلق الحياة. ومع ذلك، تم بناء جينوم الكائن الحي عن طريق نسخ خطة موجودة وليس من خلال تصميم واحد.

في محاولة لاستكمال الهدف طويل الأمد لتصميم جينوم الحد الأدنى، قام فريق فنتر بتصميم وبناء 483000 قاعدة و 471 مورثة  للمفطورة الفطرانية، وقاموا بإزالة الجينات المسؤولة عن إنتاج المواد الغذائية التي يمكن توفيرها من الخارج وغيرها من المورثات، ولكن هذا لم ينتج كائنًا قابلًا للتطبيق.

ثمّ في خطوة أخرى، طوّر الفريق دورة “تصميم وبناء واختبار”، تمّ تقسيم جينوم المتفطرة الفطرانية إلى ثماني قطع من ال DNA ثم خلطها ومطابقتها مع بعضها لمعرفة أي مجموعات تنتج خلايا قابلة للحياة، وكل دورة كانت تدلّهم إلى جين أساسي سوف يستخدمونه في التصميم،  كما وأبرزت هذه العملية تسلسلًا من الحمض النووي لا ترمّز بروتينات ولكنها ضرورية لأنها توجّه التعبير عن الجينات الأساسية، فضلًا عن أزواج من الجينات التي تؤدي نفس المهمة الأساسية، فعندما نقوم بحذف واحدة من هذه الجينات يبدو لنا أنّه يمكن الاستغناء عنهما لأن الجين الآخر يقوم بالعمل.

في نهاية المطاف سجّل الفريق 531000 قاعدة و 473 جين التي أصبحت تعرف باسم (JCVI-syn3.0)، يقدّر زمن المضاعفة للجينوم بثلاث ساعات، وهو زمن لا بأس به بالمقارنة مع ساعة واحدة للمفطورة الفطرانية و 18 ساعة للمفطورة التناسلية.

«هناك اقتباس قديم لريتشارد فاينمان يقول فيه “ما لا أستطيع خلقه، لا أستطيع فهمه”، يتم تقديم هذا المبدأ الآن»، كما قال مارتن فاسينجر (Martin Fussenegger) عالم الأحياء الاصطناعية في المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا (ETH) في زيوريخ، سويسرا.

الجينات الأساسية في (syn3.0) تمثّل الجينات المسؤولة عن الأعمال الخلوية مثل صنع البروتينات، ونسخ الحمض النووي وبناء الأغشية الخلوية. من المذهل أن يقول فنتر أن فريقه لم يستطع التعرف على وظيفة  149 من الجينات في الجينوم (syn3.0)، وكثير من هذه الجينات توجد في أشكال الحياة الأخرى، بما في ذلك البشر. يقول: «نحن لا نعرف ما يقارب ثلث الجينات الأساسية للحياة، ونحاول أن نفرز ونصنّف تلك الجينات الآن».

يضيف فاسينجر: «لقد درسنا تسلسل كل شيء على هذا الكوكب، ونحن ما زلنا لا نعرف الـ 149جين الأكثر أهمية للحياة! هذا أروع شيء أريد أن أعرفه».

تأثير (syn3.0) الباقي في البيولوجيا التركيبية يمثّل سؤالًا مفتوحًا. «أعتقد أنها لحظة من نوع جورج مالوري»، هذا ما قاله جورج تشارش (George Church) عالم الجينوم في كلية الطب في جامعة هارفارد، مشيرًا إلى متسلق الجبال الانجليزي الذي توفي في عام 1924 في محاولة ليصبح أول شخص لتسلق جبل ايفرست.

ويقول تشارش أن تقنيات التعديل الجيني ستبقى الخيار المفضّل لمعظم التطبيقات التي تحتاج إلى عدد قليل من التغيرات الجينية، في حين أن تصميم الجينوم سيكون مفيدًا للتطبيقات المتخصصة، مثل إعادة ترميز الجينوم بأكمله لدمج أحماض أمينية جديدة. يعتقد فاسينجر أن التعديل الجيني سيكون النهج المفضل للعلاج، ولكن تصميم الجينوم من نقطة العدم يمثّل نداءً إلى العلماء المهتمين بالأسئلة الأساسية حول كيفية تطوّر الجينوم.

حتى فنتر يعترف أنّ الجينوم (syn3.0) -على الرغم من أنّه جديد- ولكن تمّ تصميمه عن طريق التجربة والخطأ، بدلًا من أن يستند إلى فهم أساسي لكيفية بناء الجينوم. لكنه يتوقع تطوّرات سريعة ويعتقد أن بناء الجينوم من الصفر أصبح النهج المفضل للتلاعب بالحياة. «إذا كنت تريد أن تحدث بعض التغييرات فإن (CRISPRs) هي أداة عظيمة»، وأضاف: «ولكن إذا كنت تريد أن تبني شيئًا جديدًا حقًّا وكنت تحاول تصميم حياة؛ فإن (CRISPRs) لن يفيدك أبدًا».


 

المصدر