في عام 1915، نشر ألبرت آينشتاين نسبيّته العامّة (General relativity)،تلكَ النّظريّة الّتي حقّقت ثورة في مفهومنا عن الكون، في النّسبيّة العامّة، يُشكّل الزّمان والمكان مجتمعين نسيجًا مُترابطًا، يتخلّل كلّ شبرٍ من كوننا، حتّى أقاصيه.
وبينما تضغط المادّة والطّاقة على نسيجِ الزّمكان؛ تتغيّر هندسته، وهذا ما يُسبّب الجاذبيّة وِفقًا لآينشتاين، فحين تضغط الأجسام الكبيرة كالشّمس بقوّةٍ على نسيج الزّمكان، لا بدّ وأن تتجاوب الأجسام الصغيرة الأخرى كما الأرض، متحرّكة في مدارات الكون ذي الهندسة المنحنية.

الآن، وبعدَ مرور مئة عام، يستخدم العلماء هذه النّظريّة لتصميم نماذجَ دقيقة تصف الكون، وتسمح لهم بالتّعرف إلى صيرورته التّطوريّة، وفيما يخصُّ هذا الشّأن؛ أظهر فريقَا بحثٍ في أورُبّا وأمريكا، أنّ وجود نماذج دقيقة للكون وكلّ ما يحتويه، سيغيّر فهمنا المفصّل عن تطوّر الكون ونموّ تركيبته البنيويّة.

تسوية العقبات (نتوءات الكون)

حتَّى الآن، ما زالَ العلماء مضطرين تقريبًا لدراسةِ الكون باستخدامِ الورقةِ والقلم لا أكثر، فمعادلات النّسبيّة العامّة مُعقّدة كثيرًا، وتنطوي على كثيرٍ من المتغيّرات، هذا ما يقوله أستاذ الفيزياء وعلم الفلك في جامعة (Case Western Reserve) جلِين ستاركمِن، مضيفًا أنّ عليكَ متابعة العديد من الموضوعات المُترابطة معًا ترابطًا معقّدًا.

ومن أجل ذلك، كان عليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار كلّ هذا الكون المليء بالكُتَل، والأجسام الأكثر كثافةً من الفضاء المحيط بها، ثمّ تسويتها جميعًا. وفي طليعة عمليّة تسوية الكون، تمكنّ العلماء من اكتشاف القليل جدًّا من الاختلافات التي تصف السلوك الذي سلكته هذه الأجسام الكونيّة، يقول ستاركمِن متابعًا أنّهم على الرغم من ذلك، ليس بوسعهم الخروج من هذه العملية بوصف شامل عن مسيرة الكون التّطوريّة. ويُقصد بعمليّة تسوية الكون؛ جعله خاليًا من أيّ انحناءاتٍ ونتوءاتٍ حاصلة في نسيج الزّمكان، جرّاء تأثير الأجسام عليه.

لكن، وعلى مدار الأعوام المئة الماضية، تطوّرت الحواسيب العَصريّة، وفاقت سرعتها ما كانت عليه من ذي قبل، وعلى مدارِ الأعوام العشرين أو الثّلاثين الماضية، خاصّةً معَ التقاط العُلماء أمواج الجاذبيّة المنبعثة جرّاء اندماجِ ثقبين أسودين؛ استطاعوا تطوير تقنيّات جديدة لدراسة معادلات النّسبيّة المُعقّدة من خلال الحواسيب.

ليسَ علينا أن نُسوّيَ الكون حتّى نتعقّب مسيرته التّطوريّة، يقول ستاركمِن، فكلّ ما علينا فعله هو وضع كلّ هذا الكون غير المتجانس والمليء بالكُتَل داخل الحاسوب، ثمَّ نُعدّ برنامجًا نُخبر فيه الحاسوب بكيفيّة استخدام معادلات آينشتاين للمجال، لتعقُّب الكون من نقطة المستقبل التي بدأنا بها.

يُمكنك أن تتخيّله الكون بالونًا يتجاوب عِندما تضغطه فيتمدّد ويغيّر من شكله. وكذلك الأمر عندما تضع حفنةً من المادّة أو الطّاقة في أيّ نقطة في الزّمكان، فإنّ هذا يُكوِّن تقعّرًا في نسيجِه، والعديد من أجزاء المادّة تنتشر في أرجاء الكون، مخلِّفةً وراءها المزيد من التقعّرات، يقول ستاركمن.

ما يرغب العلماء في معرفته هو كيف تتصرّف هذه الانحناءات مجتمعةً لتغيِّرَ نسيج الزّمكان، هذا ما يُطلق ستاركمِن “تراقُص الانحناءات” قائلًا: يا لها من رقصةٍ مُعقّدة يستعصي تتبّعها بدقّة، عليكَ تتبّعها بالحاسوب حتّى تكون قادِرًا على توضيح الفرق بين ما تفعله هذه الانحناءات بالضّبط، وما ستفعله إن سوّيتها جميعها إلى انحناءةٍ واحدةٍ هائِلةٍ.

ستسمح هذه النّماذِج الجديدة للعلماء تتبّع هذه الرّقصة عن كثب، وتُجلي لهم مدى دقّة الصّورة الّتي رسَمَتها لهم تقريباتهم عن الكون حتّى الآن. يتوقّع بعض النّاس تغيُّراتٍ مثيرة، يقول ستاركمِن، مضيفًا أنّ البعض يعتقد أنّ تسارعَ الكون الّذي اكتشفناه قبل عشرين سنة، سيكون بالكامل نتيجةً لتأثيراتِ النّسبيّة العامّة، في حين يعتقد آخرون أنّ علينا أن نُعزيَ هذا التّسارع إلى ما يُطلقُ عليه “الطّاقة المُظلمة”، والآن، أصبحَ لدينا أخيرًا ما هوَ مناسبٌ من الأدوات لسبرِ كلّ هذا.

سمفونيّة الكون

ابتدع العلماء حتّى الآن، العديد من النماذج لمحاكاة الكون، ويمكنك أن تتخيّلها شرائِحَ مُتعاقبةً تُبيّن كيف كان الكون يبدو على مرّ الزمان، يقول ستاركمِن، وتشبه الانحناءات الزّمكانيّة نوتاتٍ موسيقيّةٍ في الكون، وما فعلهُ العلماء، كانَ نوعًا من توسيط الموسيقى الّتي أبدعتها سمفونيّة الكون.

سيسمعُ الجمهور النّوتات الموسيقيّة مجتمعةً معَ بعضها البعض، تاركًا القرعَ يُدوّي ويتصاعدُ في الأثير بلطافة. أمّا معَ نماذج مُحاكاة الكون، فستمكّنهم من سماع كلّ نوتةٍ وكلّ إيقاعٍ ينبعثُ من أدوات الأوركسترا مُنفردًا.

لكن هذه النّماذج لا تزال بسبب محدودية إمكانيات الحواسيب قاصِرةً، لِذا، تنطوي الخطوة التّالية على جعلِ هذه النّماذِج أفضل بزيادة قدرتنا على توسعة النّطاق الجغرافيّ الّذي تغطّيه. إنّنا نُريدُ هذه النّوتات المفقودة لِنُكمل سمفونيّتنا البديعة.

كُنّا قادرين على إضافةِ بضعِ مِئاتٍ من النّوتات فيما سبق، أمّا الآن فنسعى لإضافة الآلاف، بل الملايين منها على سمفونيّتنا؛ لِنُكمل هيكلة الكون، يقول ستاركمِن. وفي تجارب مماثلة؛ يخطط العلماء بالتظاهر أنّهم مراقبون قابعون في هذا الكون، ويتلقّون الضّوء من كلّ حدبٍ وصوب.

بعضُ الضّوء يسافر لمسافاتٍ قصيرةٍ من أقرب المجرّات، وبعضه الآخر يقطع مسافاتٍ شاسعةٍ عبر الكون بأكمله، مستغرقًا مليارات السّنين، ويريد العلماء معرفة كيف سيبدو هذا مقارنةً معَ كونٍ مستوٍ ليسَ فيهِ أيّ انحناءٍ أو نقرةٍ أو اعوجاجٍ، ليروا لأيّ مدًى ستختلف النّماذِج.

المثيرُ حقًا هو أنّنا نرى اختلافًا حقيقيًّا على ما يبدو. من المرجّح أنّ هناك اختلافات قابلة للقياس بشأنِ سلوك الكون إذا ما كان كثير الكُتَل والانحناءات والنّتوءات (الحاصلة بفعل الضّغط على الزّمكان)، وإذا ما كان مستويًا ومسطّحًا تمامًا، ومن الرّائع أن الأمر لم يأخذ أكثر من مئة عام، لقد اقتربنا أخيرًا من الوجهة المنشودة، حيث القوّة الحقيقيّة للنّسبيّة العامّة حاضرةً بتأثيرها على الكون بأكمله، يقول ستاركمِن.

ترجمة: أحمد زياد.
تدقيق: ملك عفونة.
المصدر