النظم الاقتصادية و الاقتصاد الموسع

دعونا نكمل من حيث انتهينا به في المقالة السابقة. جميعنا يمتلك احتياجات. طعام، هواتف محمولة، تعليم جيد، ساعة آبل من الذهب بقيمة 10000 دولار؛ ولكن في الحقيقة لا نستطيع دائما أن نحصل على ما نريد. لا نمتلك كميات غير محدودة من الموارد الأولية ولا العمال، لذلك علينا أن نقوم بالاختيار؛ علينا كنظام اجتماعي أن نفكر بثلاثة أشياء رئيسية:

ماذا علينا أن ننتج؟
كيف سننتجه؟
من سيحصل عليه؟

أجب على هذه الأسئلة الثلاثة, وستحصل على نظام اقتصادي. دعونا الآن نلقي نظرة على الواقع ونناقش نظامين اقتصاديين بارزين: اقتصاد السوق والاقتصاد المخطط. يكمن الإختلاف الأساسي هنا ما بين من يمتلك ومن يتحكم بعوامل الإنتاج. تعتبر هذه العوامل أساسية من أجل إنتاج الأشياء حيث صنفا كارل ماركس في: الأرض، والعمل، ورأس المال. حتى أنه ألف كتابا عنها سماه داس كابيتال.

في الاقتصاد المخطط، تتحكم الحكومة بعوامل الإنتاج، ومن السهل أن نفترض هنا بأن هذا النوع مماثل للشيوعية أو الاشتراكية ولكن هذا ليس تماما بصحيح. تبعا لكارل ماركس فالنظرية الشيوعية يمكن تلخيصها بجملة واحدة: إلغاء الملكية الخاصة” لذلك فالشيوعية الحقيقية هي عبارة عن مجتمع خالٍ من الطبقات. هذا يعني بأن الجميع يمتلك عوامل التصنيع، والإنتاج يوزع بالتساوي. تقريباً مثل الصين، كوبا، والاتحاد السوفييتي سابقا؛ غير أن هذا الافتراض خاطئ تماما. عمليا، لم تكن أي دولة منها شيوعية بشكل كامل. هناك الكثير من الدول التي كانت “اشتراكية”. يمكن أن نجد في الاشتراكية الملكية الخاصة والملكية العامة معا إضافة للتحكم بالصناعة. يكون هدفها بشكل عام أن تنجز مهام جماعية وأن تسهّل على الشعب وصولا سهلا لأشياء معينة كالتعليم والرعاية الصحية. في الشيوعية، وإضافة للإشتراكية، يوجد تخطيط اقتصادي، وتساعد الحكومة، التي عادة ما تكون على شكل وكالة بيروقراطية، في تقرير ما ستيم إنتاجه، وكيف سيتم إنتاجه، ومن سيحصل عليه. أما الإقتصاد الذي يكون مسيطر عليه كلياً من قبل الحكومة إلى مستوى تقرير عدد الأحذية المنتجة فهذا يدعى بالإقتصاد الآمر أو المسيطر.

من جهة أخرى، يوجد ما يدعى باقتصاد السوق الحر. في الاقتصاد الحر، أو الاقتصاد الرأسمالي، يمتلك الأفراد عوامل الإنتاج، والحكومة تبقى بعيدة عن هذه الأمور معتمدة سياسة الاستغناء أو ( laissez fair ) في التصنيع والتجارة. في هذه النوع من الاقتصاد، لا تقوم الأعمال بالإنتاج لمنفعة البشر، بل لأنها تريد ذلك من أجل أن تصنع ربحاً، بيحيث يكون سعي كل شخص للربح والاستمرار بتحقيق هذا الربح هو السبيل لتحقيق توازن سيؤدي حتمًا للمنفعة بالنهاية. ولأن المستهلكين، مثلي أنا وأنت عليهم الاختيار بين هذه المنتجات، يحتاج المصنعون أن يقوموا بإنتاج المنتج بالمواصفات الصحيحة وبالسعر المناسب. يطلق الاقتصاديون على هذه الظاهرة باليد الخفية. إذا فضل المستهلكون سيارة من إنتاج شركة معينة، ستحقق هذه الشركة ربحاً أكبر وستمتلك الدافع لإنتاج سيارات أكثر. شركات السيارات التي لا توفر السيارات التي يريدها المستهلكون ستختفي في النهاية. إذا القانون العام هنا هو بأن المصادر المحدودة سوف يتم توظيفها من أجل الاستخدامات المرغوبة (التي تحقق الربحية والاستمرارية) وسيتم استخدامها بكفاءة. فإذا كانت شركة معينة لا تنتج منتجا مرغوبا أو تنتجه بطريقة غير كفوءة، ستظهر شركة أخرى تنتج نفس المنتجبسعر اقل و بنوعية أفضل. أما إذا لم يتواجد طلب من قبل المستهلكين على المنتج، لن يقوم أحد بانتاجه لأنه لن يحقق الربحية التي يهدف الجميع لتحقيقها. عادة ما نسلم جدلاً باقتصاد السوق, ولكن لننظر إلى البديل الآخر. لنفترض أن الحكومة كانت مسؤولة عن تقرير وتحديد نوعية السيارات والهواتف المحمولة التي يمكن صنعها. هل تعتقد بأنها قادرة على الإستجابة السريعة للتغير في أذواق الناس وميولاتهم؟ إذا كانت هناك حكومة واحدة تنتج السيارات, هل برأيك ستستطيع إنتاجها بكفاءة؟ لذلك اليد الخفية لاقتصاد السوق تنص على أن الأعمال والافراد يحققون حاجات المجتمع عندما يسعون إلى مصلحتهم الخاصة. الأسواق المتنافسة إضافة إلى الأعمال الساعية إلى الربح ستمتلك الدوافع لإنتاج منتج ذو نوعية عالية وبأعلى نسبة كفاءة. يقول لنا آدم سميث: “لا نتوقع عشاءنا من دافع اللحام أو الخباز أو الخمار لعمل الخير بل من وعيهم لمصلحتهم الخاصة”. يبدو لنا الآن بأن السوق الحر نظام مثالي وأنه لا يحتاج إلى حكومة، لكن هذا ليس صحيحًا أبدًا. هناك عدة أشياء على الحكومة فعلها لأن السوق لن يفعلها. أولاً عملية المحافظة على القانون. نحتاج إلى قوانين, شرطة, ومحاكم لنحافظ على كل شيء حسب النظام. ثانياً, نريد الخدمات العامة, كالطرق والجسور, والتعليم, والدفاع. لأن المنتجات لن تصل إلى المستهلكين إذا ما تساقطت الجسور, كما لن يقوم المستهلكون باختيارات صائبة إذا لم يكونوا متعلمين، وفي الحقيقة لن يهتم أحد بشراء هاتف جديد إذا ما كانت القنابل تتساقط فوق رؤوسهم. ثالثا، تحتاج الحكومة إلى أن تتدخل عندما يبدأ السوق بارتكاب الأخطاء؛ لكن ماذا يعني هذا الكلام عملياً؟ لنعد قليلا إلى عملية تصنيع السيارات. الأسواق العامة تنتج ما نريد نحن المستهلكون أن نشتريه. وعندما نشتري سننظر إلى الشكل الخارجي للسيارة, إذا كان لونها يوافق ما نريده, أو ربما ما إذا كانت آمنة, وما هو سعرها. معظمنا غير قلق على التلوث الهوائي. ولا نفكر كثيرا بمن صنع سيارتنا، ما هو مقدار الراتب الذي دفع لهم، كيف هي الظروف في المصنع الذي يعملون فيه؛ هنا تتدخل الحكومة لتنظم الإنتاج. في اقتصاد السوق الحر كاقتصاد الولايات المتحدة, لربما تعتقد بأن الحكومة لا تحدد نوعية السيارات التي يتم إنتاجها, وكيف يتم إنتاجهم, ولكن في الحقيقة هي تفعل ذلك. السيارات بحاجة إلى أن تتوافق مع معايير صارمة معينة لها علاقة بانبعاثات الغازات والسلامة, حيث هنالك قوانين تحدد كمية التلوث المسموح به للمصنعين, وكيف يجب أن يعامل العمال, وهنا تكمن فكرة أساسية: النظم الاقتصادية الحديثة ليست بأكملها أسواق حرة ولا حتى نظم مخططة. هنالك طيف معين لمدى تورط الحكومة. على سبيل المثال, من جهة توجد كوريا الشمالية التي تتبع اقتصادًا من النوع المسيطر أو الآمر حيث الإنتاج يكون مسيطرًا عليه كلياً من قبل الحكومة. ومن جهة أخرى هنالك دول مثل نيوزيلندا; التي تتتمتع بملكية خاصة، ضرائب قليلة، وقوانين قليلة أيضاً. في الوسط يوجد بقية العالم. إذاً معظم النظم الاقتصادية الحديثة هي نظم مختلطة في الحقيقة ما بين أسواق حرة وتدخل للحكومة. ولعل الطريق الأفضل لشرح هذه النظم المختلطة عبر إلقاء نظرة على ما يدعى بنموذج التدفق الدائري. النظم الاقتصادية الحديثة مكونة من أسر والتي هي عبارة عن أفراد مثلي ومثلك إضافة إلى الاعمال. تبيع الأعمال البضائع والخدمات للأسر في أسواق المنتجات. الأسر بحاجة إلى أن تدفع من أجل هذه البضائع والخدمات ولكن من أين سيأتون بالنقود؟ الأسر ستحصل على النقود من خلال بيع المصادر مثل العمل للأعمال في سوق المصادر( ستقوم بتزويد الأعمال باليد العاملة مقابل أجر). الآن ستقوم الأعمال باستخدام النقود التي تحصل عليها من بيع منتجاتها لدفع أجور العمال، فتقوم الأسر باستخدام النقود التي حصلت عليها لشراء منتجات في أسواق المنتجات. ولكن هناك عامل أساسي آخر في هذا النظام وهو الحكومة. تشتري الحكومة أيضا منتجات ومصادر. على سبيل المثال: تشتري الحكومة سيارات من الشركات وتوظف موظفي حكومة كرجال شرطة ليقودوا هذه السيارات. الحكومة تدفع من أجل الخدمات العامة كالطرق والجسور وعمال مكافحة الحرائق و …. إلخ. ولكن من أين تأتي الحكومة بالنقود؟ بعضها يأتي من فرض الضرائب على الأسر والأعمال وبعضها الآخر من الاقتراض ولكن سنتكلم عن هذا فيما بعد. إذا هذا هو! تدفق المنتجات, المصادر, النقود, والتفاعلات بين الأعمال, الأفراد, والحكومة. من المؤكد أنها ستزداد تعقيداً إذا ما أضفنا التجارة الدولية, والجانب المالي كالبنوك, ولكن الآن, يرينا نموذج التدفق الدائري المبسط هذا كيفية عمل الإقتصاد الحديث.

هنالك فكرة أساسية لا يجب أن ننساها وهي أن الاقتصاد يستطيع أن يتغير مع الزمن, تبنت دول مثل دنمارك وكندا عناصر أكثر من الاقتصاد المخطط كنظام رعاية صحية للجميع. الصين من ناحية أخرى, أضافت عناصر جديدة من نظام السوق الحر لاقتصادها. حيث تقلص إثر ذلك تدخل الحكومة. ولكن ما هو المقدار الأفضل لمدى تدخل الحكومة؟ من الصعب أن نجد تضامنا مع الإقتصاد المسيطر خارج كوريا الشمالية. أما هؤلاء الذين يدعمون الإشتراكية من الممكن أن يشيروا إلى معايير المعيشة العالية للدنمارك. ولكن من ناحية أخرى من الممكن لداعمي السوق الحر أن يشيروا إلى التنامي الاقتصادي الضخم الذي حصل في الصين, والطبقة الوسطى المتنامية, بعد الابتعاد قليلاً عن التخطيط المركزي. إذا يعتمد مقدار تدخل الحكومة الأمثل على قيمك الشخصية. على سبيل المثال, كيف برأيك يجب على الحكومة أن تتدخل من أجل معالجة الفقر؟ هل برأيك على الفقراء أن يعتمدوا على أنفسهم في تأمين احتياجاتهم؟ أم على الحكومة أن تتدخل قليلاً كمصدر آمن لمساعدة الفقراء في الدفع من أجل أمور مثل الطعام والرعاية الصحية؟ في الحقيقة لا يستطيع الاقتصاديون المساعدة في الإجابة عن مثل هذه الأسئلة. يقول الاقتصادي توماس سويل في هذه الناحية: “لا يوجد حلول, بل فقط مبادلات”. من المؤكد بأنه سيكون من الرائع لو استطعنا إنهاء الفقر ومنح الرعاية الصحية للجميع, ولكن علينا التخلي عن شيء ما مقابل القيام بهذه الخطوات. إجبار مصنعي السيارات على مراعات معايير معينة من أجل الإنبعاث وحماية البيئة سيرفع على الأغلب من تكلفة الإنتاج، ولكن من ناحية أخرى ستقلص هذه الخطوات التلوث واستهلاك الوقود الحجري، الأمر الذي سيحسن الصحة العامة ويوفر نقودا على المدى البعيد. إذًا هنالك دائما ما يعرف بسعر الفرصة الذي تكلمنا عنه في المقالة الأولى.

لنقم الآن بمراجعة صغيرة لما تكلمنا عنه. معظم النظم الاقتصادية تقع ما بين نظم أسواق حرة بالكامل ونظم متطرفة من النمط المسيطر. هذا لأن النظم الاقتصادية المختلطة أبرزت كفاءتها في القدرة على التعامل مع الجريان الدائري للمنتجات, المال, والمصادر. ولكن النقاش حول الاقتصاد الحر وتحكم الحكومة لن ينتهي أبدا. لذلك يجب عليك أن تكون على معرفة بفوائد وحدود النظم الإقتصادية، وأن تكون على استعداد لتدعم حلولا تستطيع أن تنجز العمل، بدل أن تصبح عالقا في إيديولجية معينة. من الممكن أن تبدو النظم والنماذج الإقتصادية جيدة جدا نظريا, ولكن عندما نحتاج إلى تطبيقها عمليا لتدير أمور ملايين من الناس، عليك أن تتحلى بالكثير من المرونة.

المصدر