سلسلة تاريخ الرياضيات
الرياضيات عند الإغريق


مع بداية توسُّع إمبراطورية الإغريق باتجاه آسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين وما بعدها، كان الإغريق أذكياء كفاية ليتقبَّلوا ويتبنَّوا العناصر المفيدة من المجتمعات التي اجتاحوها.

وقد تحقَّق هذا مع الرياضيات عندهم بالضبط كما تحقَّق مع أي شيء آخر، حيث تبنَّوا استخدام بعض العناصر الرياضيَّة من البابليين والمصريين.

ولكن سرعان ما قدَّموا إسهاماتهم الهامة، ولأول مرة يمكن أن تُنسب تلك الإسهامات لأشخاص محددين. وبحلول العصر الهلنستي، كان الإغريق قد قدَّموا بالفعل ما يمكن اعتباره أكبر ثورة في مجال تطوُّر الرياضيات على مدار التاريخ.

Ancient Greek Herodianic numerals

Ancient Greek Herodianic numerals

وأكتمل نظام الأرقام الإغريقيَّة «اليونانيَّة» والمعروف بالأرقام الهيروديَّة بحلول عام 450 قبل الميلاد، وإن كان استخدامه بصورة منتظمة ربما يعود للقرن السابع قبل الميلاد.

وأعتمد النظام على الأساس 10 «النظام العشري» مماثلًا لنظيره المصري السابق «وإن كان أقرب للنظام الروماني»، حيث احتوى على رموز تُمثِّل الأرقام 1، 5، 10، 50، 100، 500، 1000، يتم تكرارها بالعدد المناسب من المرات لتُعبِّر عن العدد المطلوب.

وتتم عمليَّة الجمع بإضافة كل الرموز على حِدة «الآحاد والعشرات والمئات منفصلة»، بينما يُعتبر الضرب عمليَّة مُعقَّدة ومُرهقة حيث يعتمد على المُضاعفة المتكررة «وتتم القسمة بعكس العمليَّة السابقة».

Thales' Intercept Theorem

Thales’ Intercept Theorem

ولكن معظم رياضيات الإغريق كانت مبنيَّة على الهندسة.

ويُعتبر (طاليس- Thales)، وهو أحد الحكماء الإغريق السبعة، والذي عاش في ساحل آسيا الصغرى في القرن السادس قبل الميلاد، أول من وضع أساسيات القواعد الهندسيَّة، ومع ذلك فإنَّ كُلَّ ما نعرفه من أعماله «مثل عمله على المثلثات متساوية الساقين والقائمة» يبدو لنا بدائيًا.

وقد أسَّس طاليس ما يُعرف باسم نظرية طاليس وهي تنصُّ على أنَّ أي مثلث مرسوم بداخل دائرة بحيث يكون الضلع الأطول هو قطر الدائرة فإنَّ الزاوية المقابلة له هي بالضرورة زاوية قائمة «بالإضافة إلى بعض الخصائص الأخرى المُشتقة من تلك القاعدة».

كذلك تُنسب لطاليس نظرية أخرى أيضًا يُطلق عليها نظرية طاليس أو نظرية التقاطع، وهي تختص بالنسب بين أطوال أقسام الخطين المتقاطعين في نقطة عندما يقطعهما خطين متوازيين «ويمكن تمديد النظرية لتشمل المثلثات المشابهة».

وأصبح أسطورة رياضيات القرن السادس قبل الميلاد (فيثاغورث من ساموس- Pythagoras of Samos) رمزًا للرياضيات الإغريقيَّة.

وبالتأكيد فهو أول من اخترع كلمة الفلسفة بمعنى حب الحكمة وكلمة الرياضيات بمعنى ما نتعلَّمه.

وربما يكون فيثاغورث أول من أدرك أنَّه يمكن بناء نظام رياضي بالكامل، بحيث يمكن تمثيل العناصر الهندسيَّة باستخدام الأرقام.

وتُعتبر نظرية فيثاغورث أحد أشهر النظريات الرياضيَّة. ولكن تبقى نظريَّة فيثاغورث مثيرةً للجدل كما سنرى في مقال لاحق، وبالتأكيد لا تنحصر الرياضيات عند الإغريق في شخص واحد.

 The Three Classical Problems الثلاث مسائل الكلاسيكية


The Three Classical Problems
الثلاث مسائل الكلاسيكية

وتعود ثلاث مسائل هندسيَّة «يُطلق عليها عادةً الثلاث مسائل الكلاسيكيَّة»، والتي يُفترض حلها هندسيًا باستخدام أداة مستقيمة وفرجار، إلى بدايات الهندسة الإغريقيَّة، وتلك المسائل هي: تربيع دائرة «رسم مربع أو مضلع يمتلك نفس مساحة الدائرة المطلوبة بالضبط»، ومُضاعفة مكعب «إنشاء مكعب له ضِعف حجم المكعب الأصلي»، وتقسيم أي زاوية إلى ثلاثة زوايا متساوية.

وقد كانت تلك المسائل المستعصية عاملًا مؤثرًا في الهندسة المستقبليَّة، كما أنَّها قادت للعديد من الاكتشافات الهامة، وذلك على الرغم من أنَّ تلك المسائل لم تحصل على حل «أو بمعنى أدق إثبات استحالة الوصول لحل» حتى القرن التاسع عشر.

وكان (هيبوقريطس الخيوسي- Hippocrates of Chios)، «ويجب التفرقة بينه وبين هيبوقريطس كوس- Hippocrates of Kos»، أحد الرياضيين الإغريق والذي وهب نفسه ليحلَّ تلك المسائل في القرن الخامس قبل الميلاد «وتُعرف مساهماته في حل مشكلة تربيع الدائرة باسم هلال هيبوقريطس- the Lune of Hippocrates».

كما يُعتبر كتابه (العناصر- The Elements)، والذي يعود لعام 440 قبل الميلاد تقريبًا، أول تجميع للعناصر الهندسيَّة، ويُعتبر عمله مصدرًا هامًا لأعمال (إقليدس- Euclid) من بعده.

 Zeno's Paradox of Achilles and the Tortoise معضلة زينو عن أخيل والسلحفاة


Zeno’s Paradox of Achilles and the Tortoise
معضلة زينو عن أخيل والسلحفاة

ويُعتبر الإغريق أول من تحدَّثوا عن فكرة اللانهاية، كما تمَّ وصفها في المعضلة الشهيرة والتي تُنسب للفيلسوف (زينو من اليا- Zeno of Elea) في القرن الخامس قبل الميلاد.

وتُعتبر معضلة أخيل والسلحفاة أشهر معضلة له، وهي تشرح سباقًا افتراضيًا بين أخيل وسلحفاة.

يمنح أخيل السلحفاة البطيئة مهلةً لتبدأ قبله، ولكن عندما يصل أخيل للنقطة التي كانت بها السلحفاة عندما تحرَّك هو تكون السلحفاة تحرَّكت بالفعل لنقطة أخرى، وعندما يصل أخيل إلى تلك النقطة تكون السلحفاة تحرَّكت بالفعل لنقطة جديدة وهكذا، ولذلك فإنَّ أخيل السريع لن يلحق أبدًا بالسلحفاة البطيئة.

وتعتمد معضلة زينو وما يُشبهها، والتي يُطلق عليها معضلة ديكوتوميَّة، على تقسيم المسافات والوقت إلى أجزاء لا نهائيَّة، كذلك تعتمد على فكرة أنَّ النصف مضافًا إليه الربع والثمن وجزء من الـ 16 إلى ما لا نهاية لا يمكن أن ينتج عنها واحد صحيح.

وتنشأ المعضلة من المغالطة أنَّه لا يمكن أن نُكمل عددًا لا نهائيًا من الحركات المنفصلة في وقت محدد، ولكن من الصعب جدًا إثبات خطأ تلك المغالطة.

وقد كان (أرسطو- Aristotle) الفيلسوف الإغريقي أول من حاول إثبات خطأ تلك المعضلة، ويرجع ذلك لإيمانه القوي بأنَّ المالانهاية هي قيمة غير حقيقيَّة.

ويُعدُّ (ديموقريطوس- Democritus)، «والمشهور بفكرته التي تنبَّأ فيها بأنَّ كُلَّ المواد تتكوَّن من ذرات صغيرة»، أحد رواد الرياضيات والهندسة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، كما أنَّه قدَّم بعض الأعمال وكانت عناوينها مثلًا (عن الأرقام- On Numbers)، (عن الهندسة- On Geometrics)، (عن التماس- On Tangencies)، (عن اللامنطق- On Irrationals)، ولكن لم ينجو أيٌّ من تلك الأعمال.

ولكننا نعرف أنَّه كان من أول من أدركوا أنَّ حجم المخروط «أو الهرم» يُعادل ثلث حجم الأسطوانة «أو المنشور» عند تساوي مساحة القاعدة والارتفاع، كما أنَّه كان أول من فكر جديًا في إمكانيَّة تقسيم الأجسام إلى عدد لا نهائي من المقاطع العرضيَّة.

وبالتأكيد كان فيثاغورث صاحب تأثير كبير على من تَبِعه، ومن ضمنهم (أفلاطون- Plato)، والذي أنشأ أكاديميته الشهيرة في أثينا عام 387 قبل الميلاد، وتلميذه أرسطو، والذي اُعتبرَت أعماله شاملة لعِلم المنطق بالكامل لأكثر من ألفي عام.

ولكن كرياضي، عُرِف أفلاطون بسبب تعريفه ووصفه للمجسمات الأفلاطونيَّة الخمسة، ولكن قيمة عمله كمعلم وناشر للرياضيات لا يمكن أن يُستهان بها.

وعادةً ما يُنسب لتلميذ أفلاطون (ايدوكسوس من كنيدوس- Eudoxus of Cnidus) التنفيذ الأول لـ (طريقة الاستنفاد- method of exhaustion)، والتي طوَّرها (ارشميديس- Archimedes) لاحقًا، وهي طريقة قديمة للتكامل بالتقريب المتوالي والتي استخدمها في حساب حجم الهرم والمخروط.

كما طوَّر النظريَّة العامة للنسب والتي كانت تنطبق على القيم التي لا يمكن التعبير عنها كنسبة بين رقمين صحيحين، كما تنطبق على تلك التي يمكن التعبير عنها كنسبة بين رقمين صحيحين، مُكملًا بذلك أفكار فيثاغورث حول ذلك الموضوع.

وربما تكون أكبر إسهامات الإغريق، بالرغم من أهمية وتأثير أعمال فيثاغورث وأفلاطون وأرسطو، هي فكرة الإثبات واستخدام خطوات استدلاليَّة منطقيَّة لإثبات أو نفي أي نظرية أو فرضيَّة سابقة.

فبينما اعتمدت الحضارات السابقة كالحضارة المصريَّة والبابليَّة على المنطق الاستقرائي والذي بدوره اعتمد على المشاهدات المتكرِّرة لصياغة القاعدة.

ولكن كانت فكرة الإثبات هي ما تُعطي للرياضيات قوتها وهي ما تجعل تلك النظريات صحيحة الآن كما كانت صحيحة منذ 2000 عام مضت، وهي ما وضعت حجر الأساس للتفكير النظامي في رياضيات إقليدس وكُلُّ مَن أتى بعده.


إعداد: جورج فام
تدقيق: هبة فارس
المصدر