الزرنيخ: ملك السموم و ضرورة للحياة البشرية


امتلك الزرنيخ ( arsenic) منذ بداية الإمبراطورية الرومانية وحتى العصر الفكتوري، أفضل الألقاب بجدارة فقد لُقِب بملك السموم و سُمِ الملوك، إذ يضج التاريخ بالعديد من محاولات الاغتيال التي قام بها الملوك وعامة الناس على حد سواء لتحقيق مكاسب شخصية، والتي تمت باستخدام مركبات الزرنيخ عديمة الرائحة واللون، بعبارة أخرى مركبات السم المثالية.

وبالرغم من اشتهار هذا العنصر بكونه مادة قاتلة، إلا أنَ الزرنيخ يحمل في جعبته مكانة خاصة في العالم الطبيعي، فماذا تعرف عنه وهل يخبئ فوائد مجهولة، إقرأ هذا المقال لتثري معلوماتك عن ملك السموم!

اشتُقَ اسم الزرنيخ من الكلمة الفارسية “zarnikh” والتي تعني الرهج الأصفر وقد تداول اليونانيون هذا الاسم بكلمة “arsenikon”، ترتبط كلمة الزرنيخ أيضًا بالكلمة اليونانية “arsenikos” والتي تعني المذكر أو القوي، أما “arsenicum” فهي الكلمة اللاتينية التي وُصِفَ بها الزرنيخ.

 

عُرف الزرنيخ للمرة الأولى في بداية القرن الرابع قبل الميلاد، عندما قام أرسطو باعتباره واحد من مركبات الكبريتيد وأطلق عليه اسم sandarach أو الرصاص الأحمر، لكن الكيميائي والفيلسوف الألماني ألبرت ماغنس” Albertus Magnus “ أول من عزل هذا العنصر عام 1250.
إليك بعض خصائصه الكيميائية :

حقائقٌ كيميائيةٌ :

– العدد الذري (عدد البروتونات في النواة): 33 .
– الرمز (المعروف في الجدول الدوري للعناصر): As.
– الوزن الذري: 74.92160 .
-الكثافة: 5.776 غرام لكل سنتيمتر مكعب.
– الحالة (السائدة في درجة حرارة الغرفة ) : الصلبة.
– درجة الغليان : 603 درجة مئوية.
– درجة الانصهار : 817 درجة مئوية.
– يعد الزرنيخ من أشباه الفلزات البلورية الموجودة في قشرة الأرض.

مخاطر جمًة:

حتى مع عدم استخدام الزرنيخ لأجل تحقيق مصالح شخصية، إلا أنه لا يزال خطرًا، إذ قد تتسرب كميات قاتلة منه إلى مياه البشر و طعامهم أو حتى الهواء، لكن تلوث مياه الشرب هو أكثرهم خطورة وقلقًا حيث أنَ خطر التلوث بالزرنيخ في بعض المناطق عالٍ جدًا. لذلك وفي عام 2001 قامت وكالة حماية البيئة « EPA»بخفض النسبة المسموح لها في مياه الشرب لتصبح النسبة الجديدة 10 أجزاء من المليار بدلًا من 50 جزء من المليار، مع ضرورة التنويه إلى ارتفاع نسبة الزرنيخ في مياه الآبار فوق النسبة المسموح بها والمقررة من قبل الوكالة.

 

أما بالنسبة للغذاء فقد صبّت منظمة الغذاء والدواء العالمية جُلَ انتباهها تجاه الأرز بسبب امتصاصه الكبير للزرنيخ مقارنة بالمحاصيل الأخرى. وبما أنَ الأرز عنصر أساسي في غذاء العديد من الرضع و الأطفال، راقبت المنظمة نسبته في الأرز بدقة عالية ابتغاء سلامة الأطفال وتأكيدا على بقاء نسبته في حبوب الأرز rice cereal الخاصة بالرضع أقل من 100 جزء من المليار من مستوى الزرنيخ غير العضوي.

في سياق الموضوع أيضًا، نُشرِت دراسة في مجلة الغذاء« Nutrition Journal»، أشارات إلى ارتباط أنواع أخرى من الغذاء- كالنبيذ الأبيض و البيرة وكُرُنْب بروكسل – بمستويات عالية من الزرنيخ، فيما تسعى منظمة الغذاء والدواء إلى اتخاذ خطوات مماثلة في مراقبة عصير التفاح.

الزرنيخ والصحة :

يتسبب التسمم بالزرنيخ الإصابة بجميع أنواع المشاكل الصحية، إذ تسبب جرعة كبيرة منه الاعتلال الفوري و الوفاة، فيما يرتبط التعرض طويل الأمد له بارتفاع نسبة الإصابة بكل من سرطانات الجلد و المرارة والرئة كذلك أمراض القلب، بحسب مؤسسة الغذاء و الدواء.

يقول البروفيسور (ستانتون -أستاذ في قسم علم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة في كلية جيزل للطب في كلية دارتموث ” Geisel School of Medicine at Dartmouth College”) :«إنَ الشرب من مياه الآبار (التي تحتوي على الزرنيخ ) يقلل من نسبة الذكاء (IQ) كما يسبب العديد من المشاكل الصحية كالعيوب الخلقية، لكن الجيد في الموضوع هو التكلفة المنخفضة للفحوصات التي تجرى للكشف عن نسبة الزرنيخ في المياه إضافة إلى إمكانية حماية أنفسنا من التعرض له بطرق مختلفة منها طريقة التصفية ” filtration “.

 

هل يمكن لعنصر سام أن يكون ضروريا للحياة فعلا؟

مع ازدياد الأدلة والإثباتات يمكن الإجابة عن السؤال السابق بنعم، إذ لا يمكن الإنكار بأنَ بعض المواد السامة – بمقدار ضئيل- تعتبر مغذيات ضرورية، فقد وجد العلماء بأنَ الجسم البشري يحتاج إلى الزرنيخ -بنسبة تصل إلى 0.00001 في المئة – للنمو و المحافظة على جهاز عصبي صحي.

وكما قال الفيلسوف السويسري وعالم السموم باراسيلسوس “Paracelsus” : «كل الأشياء سامة، لا يوجد شيء بدون سم ،فقط الجرعة هي من تسمح للشيء بأن يكون غير سام».

فوائدٌ و استخدامات :

الاستخدام الزراعي :

في بداية القرن العشرين، آمن المزارعون والفلاحون – بما في ذلك الحكومة الأمريكية أيضًا – بفكرة استخدام الزرنيخ كَسُمٍ للفئران ومبيد حشري للمحاصيل وذلك بصدد كونه مادة سامة قوية جداً، لكن الأمر استغرق عدة عقود لإدراك خطورة فكرة رش تلك المادة المسرطنة على المواد الغذائية. وبالرغم من حظر استخدام جميع المبيدات التي تحوي على الزرنيخ منذ عام 1980 إلا أنَ أثاره لا تزال باقية في التربة إلى اليوم.

الاستخدام الطبي:

في عام 1786، قدّم الطبيب البريطاني ثوماس فاولر(Thomas Fowler) مُنَشّط مبني على الزرنيخ وكعلاج لكل العلل عُرِف بمحلول فاولر «Fowler’s solution»، إذ أُستخدم الأخير بشكل شائع في معالجة مشاكل الجلد كالصدفية. ولسوء الحظ، بدأت أثاره – من حيث ازدياد خطر الإصابة بالسرطان- بالظهور لدى الأشخاص الذين استخدموه لا سيما في المناطق التي تم تطبيق المحلول عليها. ليتم الاستغناء عنه تدريجيًا ما بين عامي 1930 و 1950.

 

ومما يجدر ذكره وفي عام 1910 طوّر الصيدلاني الألماني باول إرليش(Paul Ehrlich) دواء مبني على الزرنيخ سمي بـ Salvarsan، كما عُرف أيضًا بـ Arsphenamine، استخدم كعلاج لمرض الزهري – كان الزهري مرضًا عضالً و متفشيًا في ذلك الوقت- إذ ظلَ الدواء أحد أبرز الأدوية الفعالة المستخدمة في علاج الزهري حتى عام 1940- العام الذي أصبح البنسلين فيه متوفراً.

اعُتبر تطوير إيرليش لذلك الدواء الخطوة الأولى تجاه العلاج الكيميائي الموجه. إذ يُستخدم اليوم أكسيد الزرنيخ الثلاثي ( arsenic trioxide) كدواء فعال جدًا لعلاج الأشخاص المصابين بمرض ابيضاض سلائف النقويات الحاد ( acute promyelocytic leukemia).

الاستخدام الصناعي :

يخلط الزرنيخ أحيانًا مع الرصاص لإنتاج معدنٍ أكثر صلابةً و متانةً، إذ تتضمن بعض مجالات استخدامه بطاريات السيارات و الرصاص (Bullets)، كما شاع استخدام الزرنيخ في صناعة الزجاج، إلا أنَ الضغوطات التي مارستها وكالة حماية البيئة (EPA) و علماء البيئة أدت إلى تثبيط أو توقف استخدامه في صناعة الزجاج.

وبحسب مختبر لوس ألاموس الوطني فإنَ الزرنيخ :
– يحسَن من كروية طلقات الرصاص.
– يستخدم في الألعاب النارية لإعطاء لونٍ إضافي إلى اللهب.
– يستخدم مركب زرنيخيد الغاليوم ( Gallium arsenide) في الليزر الذي يحول الكهرباء إلى ضَوْءٌ مُتَرَابِط.
– يستخدم غالبًا كعامل لزيادة الكفاءة في الأجهزة الترانزستورية.
– تستخدم مركبات الزرنيخ، مثل زرنيخات الكالسيوم و زرنيخات الرصاص، كمبيدات حشرية وفي العديد من السموم.

 

حقائقٌ تاريخية :

– في وقت مبكر من عام 82 قبل الميلاد، عمد الدكتاتور الروماني لوسيوس كورنيليوس سولا إلى إنهاء سلسلة من حالات التسميم بالزرنيخ بإصدار أول قانون معروف ضد التسميم.

– في عام 1836 طور الكيميائي البريطاني جيمس مارش ( James Marsh ) اختبارًا يستطيع كشف وجود كميات ضئيلة من الزرنيخ في كل من الطعام و الجثث، لتبدأ ظاهرة التسميم بالزرنيخ طريقها إلى الزوال أخيرًا.

– بالرغم من عدم ثبوتية الأمر، إلا أنَ إشاعة مستمرة تدور حول وفاة الفرنسي نابليون بونابرت بواسطة التسميم البطيء بالزرنيخ من قبل أحد حاشيته، ورغم احتمالية وفاته الكبيرة بسرطان المعدة يؤمن العديد بأنَ الزرنيخ كان له دور في ذلك.

– قد تكون عائلة Borgias أحد أشهر من استخدم الزرنيخ للتسميم – تعرف بعائلة الاستيلاء على السلطة – إذ استخدموا الزرنيخ في تسميم الأغنياء والمشاهير، لتصبح بعدها من أقوى الأسر خلال فترة عصر النهضة.


إعداد : سيرين خضر
تدقيق: أسمى شعبان
المصدر