الانفتاح الفكري: ماذا نعني بمصطلح الانفتاح الفكري؟ ما هي علاقة الإنفتاح الفكري بالبحث العلمي وبأساليب التّفكير العلميّة؟ وهل التّمحيص والسّؤال عن الدّليل قبل التّصديق يُعدّ علامة على الإنغلاق الفكري؟ترجمة عن QualiaSoup (الرّوابط في أسفل المقالة).

يبدو لي أنّ هنالك تجربة مشتركة بين أولائك الذين لا يؤمنون ببعض المفاهيم والأفكار اللاعلميّة، إذ أنّنا غالبًا ما نُتّهم بالإنغلاق الفكري ويُطلَب منّا أن نكون منفتحين أكثر تجاه التّفسيرات غير الموثّقة للظّواهر الطّبيعيّة.

هذه النّصيحة عادة ما تكون مرتكزة على أفكارٍ مغلوطة، وفهمٍ غير دقيق لمعنى الإنفتاح الفكري.

في حقيقة الأمر، أن نكون منفتحين فكريًّا يعني ببساطة أن نكون مستعدّين لتقبّل واعتبار أفكارٍ ورؤى جديدة ومختلفة.

العلم، بجميع صورِهِ، يشجّع، وينمو بالإنفتاح الفكري، وذلك لأنّ ازدهاره وتقدّمه مرتكزٌ على استعدادنا لتقبّل واعتبار أفكارٍ وسبل تفكير جديدة.

في الواقع، الإكتشافات العلميّة والإبتكارات غالبًا ما تتطلّب طرقًا جديدة وثوريّة للتّفكير حول نفس المسائل التي أعيت الفهم البشري لسنوات، عقود، أو حتّى قرونٍ من الزّمن.

ولكن، تقبّلك واعتقادك بصحّة بعض الأفكار والمفاهيم اللاعلميّة لا يعني بأيّ حال أنّك منفتحٌ فكريًّا، بل ربّما قد تقودك هذه المعتقدات لأن تكون منغلق الفكر تمامًا.

على سبيل المثال، في أحد الأيّام زارني أحد الجيران في بيتي، وبعدما لاحظ حركة غريبة لغطاء المصباح في غرفة الإستقبال، ادّعى أنّ هنالك شبح يحرّك الغطاء.

عندما أجبته بالنّفي، أخبرني أنّ الدّليل أمام عينيّ، واتّهمني بالعناد، بإنغلاق الفكر، وبإنعدام الفضول.

بعدما هدئت فورة غضبِهِ، مددت يدي إلى أسفل المصباح وأطفأت المروحة الصّغيرة التي كانت، وبكلّ هدوء، تبثّ تيّاراتٍ دافئة من الهواء نحو غطاء المصباح.

إذا تفكّرنا في هذا الموقف قليلاً، فسنرى أنّه، في واقع الأمر، جاري هو الشّخص الذي يفتقد إلى الفضول، إذ أنّه قفز مباشرةً نحو إستنتاجٍ مستعجل وصرف النّظر عن كلّ التّفسيرات البديلة.

عندما تصف حدثًا معيّنًا على أنّه حدث خارق للطّبيعة لمجرّد أنّك غير قادر على الإتيان بتفسير واضح لمعناه، فاعلم أنّك ستسيء حتمًا قراءة الأدلّة، ستبني روابط سببيّة باطلة، كما أنّك ستقصي وتتجاهل عوالم من التّفسيرات البديلة قبل أن يتّضح لك أيّ التّفسيرات قد يكون مناسبًا.

وهذا التّصرّف هو بالتّحديد ما نصف بالإنغلاق الفكريّ.

هذا الموقف يذكّرني أيضًا ببعض الأشخاص الذين يدّعون أنّ العلماء، بسؤالهم الملحّ عن الأدلّة والبراهين قبل تصديق الدّعاوى، منغلقين فكريًّا تمامًا كالسّحرة والمشعوذين.

ولكن في حقيقة الأمر، الدّعوى بأنّ السّؤال عن الأدلّة يجعلك منغلق الفكر هي مغالطة فكريّة عظيمة.

الإستعداد لإعتبار وقبول أفكارٍ ورؤى جديدة لا يعني بأيّ حال أنّك ملزمٌ بقبولها وتصديقها دون قيدٍ أو شرط.

تخيّل مثلاً لو أنّ شخصًا عزيزًا على قلبك ارتمى مجروحًا وفاقدًا للوعي في وسط الطّريق في يومٍ من الأيّام.

إذا اقترب منك شخص غريب وادّعى أنّه يملك دواءً سحريًّا بإمكانه شفاء الجروح مباشرة بمجرّد ملامسة الدّواء لمكان الجرح، فهل ستقبل دعوى هذا الغريب؟ هل ستكون “منغلق الفكر” إذا رفضت أن يصب هذا الغريب مادّة لا تعرف عنها أيّ شيء في الجروح المفتوحة لشخصٍ تحبّ؟

كلّنا متشكّكون من بعض الأشياء.

إذا افترضنا مثلاً أنّ غسّان غير متشكّك من مسألة وجود الأشباح، بينما سميّة تشعر بالإرتياب تجاه وجود هذه الكائنات، فهذا ربّما يُظهر أنّ تجربة سميّة مع أدلّة الآخرين ومنطقهم المعيوب أعطتها أسبابًا قويّة لتكون مرتابة.

الآن، إذا تبرّع غسّان بمحاولة إنتاج تعريف علمي وقابل للإختبار لما يقصد بالـ”أشباح”، وأضاف على هذا التّعريف أدلّة علميّة صحيحة تثبت وجود هذه الكائنات، عندها فقط ستعيد سميّة تقييم المسألة بموضوعيّة وتقبل دعوى غسّان بكلّ سرور.

ولكن من المهمّ أن نتذكّر أنّ ما دام سميّة لم تصرّح بدعاوى مثل “الأشباح غير موجودة”، فإنّها لم تدّعي شيئًا يتطلّب تبريرًا أو يدلّ على إنغلاقٍ فكريّ بشأن المسألة من تجاهها.

مرّةً أخرى، الإنفتاح الفكري لا يعني تصديق أو قبول كلّ ما نسمع أو كلّ ما نقرأ.

ولذلك تصديقنا للدّعاوى الشّبه علميّة واعتقادنا بالخوارق لا يعني أنّنا منفتحون فكريًّا أكثر من غيرنا، بل على العكس هذا التوجّه قد يعني في بعض الحالات أنّنا أكثر سذاجة وأسهل للخداع.

وعلى عكس ما يحاول بعض النّاس إيهامنا، ليس هنالك أيّ فضيلة في كون الإنسان سهل الإقناع من قبل الآخرين.

من الواضح أنّ أولائك الذين يدّعون أنّها فضيلة، وأنّ المطالبة بالدّليل هو علامة على الإنغلاق الفكري، لن يستطيعوا أن يتدبّروا أنفسهم ولو للحظة واحدة في محاكم العدل والقانون.

في المحصّلة، ماذا سيفعل شخص بهذا التوجّه في أيّ حالة يصطدم فيها بأكثر من رواية أو نسخة من نفس الحدث؟ وهل المطالبة بالدّليل قبل سجن المدّعى عليه هو علامة على “الإنغلاق الفكريّ”؟ من الواضح أنّ هذه التوجّهات لن تثبت حتّى ولو للحظة في العالم الحقيقيّ.

في النّهاية، لا بدّ أن ننبّه أنّ نقاشنا للمسألة أعلاه لا يعني بأيّ حال أنّ على الإنسان أن لا يصدّق أيّ شيءٍ إلاّ ببراهين وأدلّة علميّة واضحة – فمن المستحيل على الإنسان أن يعيش بهذا التوجّه أيضًا.

ولكن، عندما يحاول شخص ما إقناعنا بحقيقةٍ تنطوي على أخطار أو تبعات مباشرة على حياتنا، رفاهيّتنا، أو حياة ورفاهيّة الآخرين، أو حتّى بحقيقة متعلّقة بطبيعة الأشياء.

فالمطالبة بالدّليل تساعدنا على التّمييز بين الدّعاوى الصّحيحة والدّعاوى الباطلة، وهي قدرة لا يمكن لأيّ إنسان حرّ، مستقلّ، وواعٍ الإستغناء عنها.


  • إعداد: أحمد الريس

المصدر