ينبغي أن يكون كوننا ضبابيًا، عديم الشكل، وخاليًا من الطاقة.

لمَ لا ؟

بحسب قوانين الفيزياء المعروفة يجب أن يكون الكون مظلماً و فارغاً وهادئ.

لا يجب أن يكون هناك نجوم ولا كواكب ولا مجرات ولا حياة، فقط طاقة وجسيمات بسيطة تنتشر أكثر و أكثر في كون يتوسع.

ولكن، ها نحن أولاء.

حَسَبَ ما أورده علماء الكونيات فقد كان كوننا قبل 13.8 بليون سنة، عبارة عن قطعة كبيرة من الطاقة الساخنة والكثيفة من دون حدود وبقوانينه الخاصة.

ولكن بعدها وبأقل من مايكرو ثانية، نضج ونشأت المسألة الأساسية من الخراب.

كيف نشأ كوننا الرائع والمعقد؟

الحالات الثلاث

السؤال (كيف هو هنا؟)

يلمح إلى المعضلة التي نشأت خلال تطور ميكانيكيا الكم.

في عام 1928 دمج (بول ديراك-Paul Dirac) نظرية الكم والنسبية الخاصة ليتوقع طاقة الإلكترون الذي يتحرك على مقربة من سرعة الضوء.

أنتجت هاتين المعادلتين إجابتين مواتيتين على حد سواء: الأولى إيجابية والأخرى سلبية.

لأن الطاقة نفسها لايمكن أن تكون سالبة، فكر ديراك أن الأجابتين ربما تمثلان جسيمات الشحنات الكهربائية.

وولدت فكرة إزدواجية المواد المشحونة والمادة المضادة.

وفي هذه الأثناء وعلى بعد ست دقائق من مكتب ديراك في كامبريدج كان يدرس الفيزيائي (باتريك بلاكيت- Patrick Blackett) أنماطاً محفورة في السحب عن طريق الأشعة الكونية.

وفي عام 1933 اكتشف 14 مساراً تظهر جزيئاً ضوئياً يصطدم مع جزيء من الهواء وينفجر لجزيئين جديدين.

وكانت المسارات الحلزونية لهذه الجزيئات الجديدة صوراً لانعكاسات بعضها البعض مبينةً أنهما مشحونان بشحنات متضادة.

وكانت هذه واحدة من أوائل الملاحظات مما توقعه ديراك بخمس سنين من ولادة زوج الإلكترون-بوزيترون.

ومن المعرف اليوم بأن المادة والمادة المضادة أعظم توأم على الإطلاق.

وقد ولدا تلقائيًا من طاقة خام كفريق من اثنين وتختفي الطاقة فجأةً عند دمجها وإبادتها.

فعل الظهور والاختفاء هذا ولد واحد من الأسرار الأساسية في الكون: ما هو منقوش في قوانين الطبيعة حفظنا من ظهور وإبادة جزيئات المادة والمادة المضادة.

يقول (جيسي شيلتون- Jessie Shelton) الباحث النظري بجامعة إلنوي «نحن نعرف بأن هذا التماثل الكوني يجب أن يوجد لأننا هنا، إنه لخلل محيرلأن النظرية تتطلب ثلاثة شروط و ـ ويجب أن تكون كلها صحيحة في وقت واحدـ لخلق هذا التفضيل الكوني للمادة.»

وفي الستينيات اقترح الفيزيائي (أندري ساخاروف- Andrei Sakharov) مجموعة من الشروط الثلاثة التي من الممكن أن تفسر الظهور لكوننا التي تسيطر عليه المادة.

واستمر العلماء بالبحث عن دلائل على هذه الشروط ليومنا هذا.

1 . قطع الحبل:

يبدو أن المادة والمادة المضادة تولدان معاً دائماً، كما لاحظ بلاكيت في الفجوات السحابية بأن الطاقة الغير مشحونة تتحول إلى أزواج من المادة والمادة المضادة المتوازنة بالتساوي.

الشحنة تكون محفوظة دائمًا خلال أي عملية تحول.

ولكي يكون هناك اختلال في كميات المادة والماة المضادة، يجب أن تكون هناك عملية تنتج أكثر من الأخرى.

يشير معيار ساخاروف الأول أساساً: « يجب أن تقوم عملية جديدة بتحويل المادة المضادة لمادة أخرى أو العكس صحيح.»

يقول (أندرو لونغ- Andrew Long)-وهو باحث بمرحلة ما بعد الدكتوراه في علم الكونيات بجامعة شيكاغو-: « هذه واحدة من الأشياء الهامة التي يبحث عنها الباحثون في المختبر»

بحث العلماء في الثمانينيات على دليل لشرط ساخاروف الأول عن طريق البحث عن إشارات لبروتون يتحلل لبوزيترون وفوتونين.

ولكنهم لم يجدوا دليلًا بعد على هذه الكيمياء الحديثة لكنهم استمروا بالبحث.

يقول لونغ: « نحن نعتقد بأن الكون الأول كان قد أحتوى على جسيمات محايدة أحيانًا تحللت لمادة و أحيانًا لمادة مضادة وليس بالضرورة الأثنتان معًا».

2 . اختيار مُفضل:

لا يمكن أن تتشارك المادة والمادة المضادة في الموطن نفسه، دائمًا يمحقان عندما يحصل تواصل بينهما.

ولكن إيجاد مادة أكثر بقليل من المادة المضادة بعد الإنفجار العظيم ـ تقريباً جزء من 10 مليارـ سيخلف المكونات اللازمة لبناءكون واضح بشكل كامل.

كيف يمكن لذلك أن يحدث؟

يملي معيار ساخاروف الثاني أن المادة تعمل فقط بشكل موجز في معياره الأول ويجب أن تكون أكثر فعالية من عملية المادة المضادة.

يشرح شيلتون بشكل أكثر تحديدًا: « نحن بحاجة إلى أن نرى المحاباة لأنواع مناسبة من المادة للاتفاق مع هذه الملاحظات الفلكية.»
وتبين ملاحظات الضوء منذ نشوء الكون وقياسات العناصر خفيفة الوزن التي نتجت بعد الانفجار العظيم أن التناقض يجب أن يوجد على مستوى جسيمات تسمى الباريونات : بروتونات ومضادات بروتونات وجسيمات أخرى تشكلت من الـ (quarks-هو جسيم أولي ومكون أساسي للمادة).

يقول شيلتون: «هذه لقطات من الكون الأولي ويمكن استخلاص مصير ودرجة حرارة الكون الأول وحساب الفروق القليلة بين الباريونات ومضادات الباريونات من خلال هذه اللقطات» .

نشأ عن هذه الاختلافات الصغيرة مشكلة، ففي حين وجود بعض التناقضات الصغيرة بين تصرف الجسيمات ونظرائها الجسيمات المضادة، لا تزال هذه الخصوصيات متناسقة مع النموذج القياسي للكون ولا تكفي لشرح أصل الخلل الكوني ولا شفافية الكون ليصل للمادة.

3 . سلوك طريق باتجاه واحد:

في فيزياء الجسيمات أي عملية تمضي قدماً يمكن أن تعكس بكل سهولة.

يمكن لزوج من الفوتونات أن يندمجا ويتحولا لجزيء ومضاد جزيء.

ويمكن لزوج من جزيء ومضاد جزيء أن يتحدا لزوج من الفوتونات تحدث هذة العملية من حولنا باستمرار ولكن لأنها دورية لايوجد نمو أو خسارة صافية لنوع المادة.

إن كان هذا صحيحاً دائمًا، لكان كوننا الصغير محبوساً بعقدة لا نهائية من النشوء والتدمير.

فمن دون شيء يدعس على الفرامل لهذه الدورات ولو للحظة على الأقل لكانت المادة لم تتطور للبنية المعقدة التي نراها اليوم.

يقول لونغ: «لكل غرزة متماسكة يوجد هناك شدٌ واحد على الخيط، نحن بحاجة لطريقة لنجبر رد الفعل للمضي قُدماً وليس رجوعًا في الوقت ذاته بنفس المعدل»

يشتبه العديد من علماء الكونيات بأن توسع وتبريد الكون كان كافياً لعزل المادة للوجود، تماماً كالشاي المحلّى وحبيبات السكر الخاصة به تتساقط إلى أسفل الكأس بينما يبرد ( وبتعبير آخر عندما يتجمد الشاي الحلو فوراً لثلج، يعزل حبيبات السكر في مكان من دون إعطائها الفرصة للذوبان)
يعتقد بعض علماء الكونيات الآخرون أن بلازما الكون الأولي كانت تحتوي على فقاعات ساعدت على فصل المادة عن المادة المضادة( ومن ثم قدمت حاضنات للجزيئات لاكتساب كتلة) .

تبحث العديد من التجارب في المنظمة الأوروبية للبحوث النووية على دليل على أن الكون يوافق شروط ساخاروف الثلاثة.

تبحث العديد من التجارب المنضبطة في مركز المنظمة الأوروبية للبحوث النووية للمادة المضادة (CERN) عن اختلافات صغيرة بين الصفات الحقيقية للبروتون ومضاد البروتون.

وتختبر تجربة مصادم (Large Hadron Collider) في تحلل أنماط جسيمات المادة والمادة المضادة الغير مستقرة.

يتمنى كل من شيلتون ولونغ أن تكون البحوث من التجارب في المصادم (Large Hadron Collider) المفتاح لبناء صورة لكوننا الأولي.

يمكن أن تكتشف لك تجارب مصادم (Large Hadron Collider) الكبير أن حقل (هيغز- Higgs) كان بمثابة القفل الذي أوقف مزيج الجسيمات المتطورة والغير متطورة والمتواصلة بشكل دائم مع الكون، خاصة إذا كان الحقل يحتوي على فقاعات تجمدت أسرع من غيرها، مما يوفر أطباق (petri ) الكونية التي يمكن فيها للمادة والمادة المضادة أن تتطور بشكل مختلف.

يقول لونغ: «ستساعد قياسات بوزون هيغز والخصائص الأساسية للمادة والمادة المضادة على تطوير نظريات وفهم أفضل لماذا ومن أين أتينا».

قد يبقى ما حدث أثناء ولادة كوننا لغزًا دائمًا ولكننا سنستمر بالبحث عن شيفرات جديدة لحل هذا اللغز العظيم.


  • ترجمة : حمزة بطاح
  • تدقيق: أسمى شعبان
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر