من بين جميع المفاهيم الغريبة التي ظهرت نتيجة للمناقشات المُثارة حول الوعي، كان أغربها هو افتراض عدم وجود الوعي! أو على الأقل ليس بالطريقة التي يعتقد بها البعض.

ويشير ديكارت إلى أن الوعي هو الحقيقة التي لا جدال فيها في وجودنا، وفي الحقيقة فإنه من الصعب مخالفة هذا الرأي، فأنا واعٍ في اللحظة التي أكتب خلالها هذه الجملة، وأفترض أنك واعٍ أيضًا خلال قراءتك لها، ولكني لا أستطيع الجزم بالأمر الثاني إذ إنني لا استطيع الولوج سوى إلى وعيي.

ولطالما كانت الفكرة القائلة بعدم وجود الوعي محيرة جدًا، غير أن كثيرًا من الأذكياء يعتنقونها، وأحد أبرزهم هو الفيلسوف «دانييل دينيت» الذي شكك في وجود الوعي لعقود، وأبرز كتبه الذي تناولت هذه الفكرة هو كتاب «consciousness» الذي ألفه عام 1993.

ويؤكد الفيلسوف في كتابه الجديد على أن النظرية الداروينية تلعب دورًا في جميع مظاهر وجودنا، فلسنا بحاجة إلى مصمم ذكي، أو أي أحد يفسر لنا كيف وجدت عقولنا، لأن التطور يعد بمثابة «رافعة» عند التحدث عن بناء جميع الظواهر البيولوجية.

يسفر الانتخاب الطبيعي عن ما يسميه الفيلسوف دانييل «مهارة دون إدراك» فعندما تنظر إلى أصغر جرثومة تجد أنها آلة رائعة، فتستخرج من بيئتها ما تحتاجه للبقاء والتكاثر، وفي نهاية الأمر، فإن عملية التطور التي لا تمتلك عقلًا خاصًا بها والتي تفتقر لهدف محدد، أنتجت الجنس البشري، وهو جنس قادر على امتلاك المهارة والإدراك.

ووفقًا لدانييل فإن الإدراك البشري ما زال يتكون من «مهارة دون إدراك» فلا تمثل أفكارنا الواعية سوى نزرًا يسيرًا من المعلومات التي تُعالج في أدمغتنا، وجدير بالذكر أن الانتخاب الطبيعي صمم أدمغتنا لتوفر لنا الأفكار التي نحتاج لمعرفتها فقط، كي لا نُغمر بالكم الهائل من البيانات.

وعند مقارنة الوعي بواجهة المستخدم الحاسوبية، نجد أن محتويات وعينا بالنسبة إلى أدمغتنا تمثل نفس العلاقة الموجودة بين المجلدات الصغيرة والأيقونات الموجودة على الشاشة بالنسبة إلى دوائر الحاسوب وبرمجياته، فتصوراتنا، وذكرياتنا، وعواطفنا تعد أمورًا مبسطة، أو تمثيلات مرسومة لحسابات مخفية ومعقدة جدًا.

ولا يمكن اعتبار هذه الأفكار جديدة أو خفية، فما يتحدثه عنه دانييل ليس إلا تأكيدًا لأفكار سسابقة لكن بأسلوب عصري.

إذ سلم العلماء لوقت طويل بأن الجزء الأعظم من الإدراك يحدث بعيدًا عن وعينا، ويشكر دانييل أيضًا فرويد على مناصرته للاوعي في أعماله.

بدأت المشاكل بالظهور عندما قارن دانييل الحاسوب بالإنسان، ودعى الوعي بلقب «وهم المستخدم» ويمثل الوهم تصورات خاطئة، فأفكارنا ليست إلا تمثيلات قاصرة لأدمغتنا والعالم، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه التمثيلات خاطئة.

خذ هذه الفكرة مثلًا: «دونالد ترمب هو وغد نرجسي.»

هذا تصريح وجيز عن واقع خارجي فوضوي، لكن قدرتي على التفكير بهذه الفكرة أو كتابتها على جهازي تعتمد على برمجية ومعدات حاسوبية لا أفقه من كيفية عملها شيئًا، ولكن هذا لا يعني أن عبارة دونالد ترمب هو وغد نرجسي ليست صحيحة.

ولكن ماذا لو اعتقدت أن 2+2=5؟ أو أن الاحترار العالمي مجرد خدعة، أو أن دونالد ترمب هو أحكم رجل في العالم؟ نعم، ماذا لو كنت مريضًا نفسيًا أو مضطربًا عقليًا؟ أو كنت أعيش في محاكاة صنعتها روبوتات شريرة، وكانت جميع أفكاري وهمًا؟ ومع ذلك، فإن افتراضي أن وعيي وهم على هذا الأساس يعني أنني سأخلط الوعي مع مكنونه، كأن تقول أن الكتاب غير موجود لأنه يعالج أمورًا غير موجودة، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا هو ما يقترحه دانييل.

يتحدث دانييل عن «الكواليا» وهو مصطلح فلسفي يشير إلى تجاربنا الشخصية.

قد تكون الكواليا الخاصة بي في هذه اللحظة هي رائحة القهوة، أو صوت شاحنة عابرة، أو حيرتي حيال أفكار دانييل، فيشير دانييل إلى أننا عادة ما نبالغ في الدقة الذاتية أو القوة السببية للكواليا الخاصة بكل منا، وهذا صحيح حقًا.

لكن دانييل استنتج بصورة غريبة، أن الكواليا ليست إلا خيالات، فيصفها بأنها «صنائع ناتجة عن تنظير سيئ.»

ولكن إذا افتقرنا للكواليا، فلن نصبح سوى كالأحياء الأموات «زومبي»، مخلوقات تبدو وتتصرف كالبشر لكن لا تمتلك حياة خاصة بها.

ومع ذلك يقول دانييل «إن الداعم الوحيد لاعتقادنا بأننا لسنا زومبي هو الحماس حيال الاعتقاد ذاته، ولكن بمجرد أن تعتقد بالاحتمالية النظرية القائلة بوجود زومبي، سيتوجب عليك أن تسلم بأنك كذلك.»

كثيرًا ما ينزعج دانييل عندما ينسب له النقاد القول بأن «الوعي غير موجود» ولكي نكون منصفين، فإنه لم يسبق لدانييل أن صرح بهذا الادعاء، ولكن يبدو في موقفه أنه يشير إلى أن الوعي ضئيل جدًا، وخاصة عند مقارنته مع المفاهيم المبالغ فيها والمرتبطة به.

ويمكننا القول أن حجج دانيل معقدة للغاية، لكن يبدو أنه يدعو فيها إلى المادية الإقصائية، والتي تُعرف على أنها وجهة نظر مادية في فلسفة العقل، وتستند إلى أساس أن الفهم العام البسيط للعقل هو أمر باطل، ويطلق فلاسفة آخرون على الوعي اسم «المشكلة الصعبة» بسبب الهوة السحيقة الموجودة بين العمليات الفسيولوجية و الحالات العقلية الذاتية، إلا أن االماديين الإقصائيين يقولون أنه لا يوجد مشكلة صعبة أو هوة سحيقة، لأنه لا وجود للظواهر الذاتية أو الكواليا.

عندما أواجه اعتقادًا يدعو للحيرة، أتوقف عند نقطة ما لأحاول فهمه جيدًا.

ولكن ما هو الدافع؟ وما الذي يحمل دانييل على هدر هذا الكم من الوقت والطاقة في الحفاظ على موقف منافٍ للعقل كهذا؟

تمامًا كالعديد من الفلاسفة، يتعرض دانييل للنفي لدفاعه عن موقف يتحدى الفطرة السليمة، لكن هدفه الأساسي يكمن في الدفاع عن العلم في وجه الأديان وأنظمة اعتقادية أخرى، فيصر أن العلم يمكنه حل أعقد الألغاز بما فيها أصل الحياة والوعي.

وأحد أولئك المشككين هو الفيلسوف »طوماس ناجيل» الذي يمتلك مؤلفات عديدة مثل «كيف يبدو أن تكون وطواطًا» فيناقش طوماس أنه من غير المرجح أن يفسر الوعي إلى تحليلات علمية تقليدية، وفي مراجعة لكتاب دانييل «From bacteria to bach»، كتب طوماس:

«أن نقول بوجود واقع أكبر من أن تستطيع الفيزياء حصره، فهذا ليس شيئًا من التصوف؛ ولكنه اعتراف بأننا لم نقترب أبدًا من نظرية كل شيء، وأن علمنا يجب أن يتسع نطاقه لاستيعاب حقائق تختلف جوهريًا عن تلك التي صممت الفيزياء لتفسيرها.»

حقًا إن البعض لديهم ارتباطات غير سليمة مع الألغاز والافتراضات الغريبة، لكن دانييل يمتلك نفورًا إزاءها، إذ يعتقد أن ادعاء عدم وجود الوعي هو أكثر جنونًا من ادعاء وجود الإله علمًا بأنه ملحد صريح، ويمكن أن نشكر دانييل سواء اتفقنا معه أم لم نتفق؛ إذ إن كتاباته المستفزة ممتعة جدًا وتدفعك لإلقاء نظرة أقرب إلى الوعي، فمواقفه الإقصائية ستيقظك من سباتك العميق، وتحمل الزومبي في داخلك على الإحساس بشيء من الوعي.

  • ترجمة: قصي أبوشامة
  • تدقيق: آلاء أبو شحوت
  • تحرير: ناجية الأحمد
  • المصدر